ليست المشكلة في الإطاحة بمحمد مرسي أو عزله من الحكم، لكنها انقلاب على ثورة 25 يناير، وعلى قيم الديمقراطية والحداثة وعلى كرامة المصريين التي سطروها في انتخابات مايو 2012م. بالرغم من تأييدي لمرسي، إلا أني لم أتألم عليه أكثر من ألمي على مصر. كانت المعارضة تعجز عن إخراج بضعة آلاف للاحتجاج في الشوارع، لكن الذي تغير في 30 يونيو هو استجلاب قرار الإطاحة من خلال حشد غير مسبوق للفلول مع الأقباط من جهة أخرى، وبتمويل من الداخل والخارج، هذه الحشود كانت بمثابة شرعية وهمية لخارطة الطريق التي أعلن عنها الجيش، وإلا فإن حشود الموالين للرئيس في الأيام التالية كانت أكبر، لكن أحد لم يلتفت إليهم، لكأنهم ليسوا جزءاً من الشعب. جاءت خارطة طريق الجيش تؤكد تمركز الجيش في خندق المعارضة والتماهي مع جميع مطالبها، أليس، تعطيل العمل بالدستور المستفتى عليه من قبل الشعب، وحل مجلس الشورى، والدعوة لتشكيل حكومة كفاءات جديدة، وغيرها من الخطوات والإجراءات، وإغلاق القنوات الفضائية وتكميم الأفواه، وحملة الاعتقالات الواسعة لقادة حزب الحرية والعدالة وجماعة الإخوان المسلمين، يؤكد مؤامرة الانقلاب. ومن أجل استكمال أركان وخيوط العملية تضافرت جميع مكونات الدولة: الجيش والداخلية والقضاء، مع دعم وإسناد خارجي. وإلا ماذا يعني إعادة النائب العام المعزول إلى موقعه السابق وعزل الدكتور هشام قنديل رئيس الوزراء من منصبه والقبض عليه والحكم عليه بالسجن عاماً كاملاً بدون محاكمة؟، تزامنت تلك الإجراءات مع توفر الوقود والكهرباء. النكاية السياسية وفشل الرئيس يخطئ من يعتقد أن ما حدث في مصر كان ثورة بسبب فشل الرئيس مرسي ومن ورائه الإخوان في إدارتهم للدولة نتيجة قلة خبرتهم السياسية في الحكم، وإلا كيف نفسر النجاح النسبي للإسلاميين في تونس مع قلة خبرتهم في السياسة والحكم، تبدو النكاية السياسية هي السبب الأبرز والأكثر وضوحاً لما حدث في مصر من احتجاجات ضد الرئيس مرسي والتي لم تتوقف منذ اليوم الأول لحكمه. تم اتخاذ قرار إفشال الرئيس منذ اللحظة الأولى من قبل فلول النظام السابق، وبعض الدول الكارهة لثورات الربيع العربي خوفاً من وصولها إليها. هنا لا نبرئ الرئيس مرسي من أي خطأ، فقد حصلت بعض الأخطاء باعترافه هو، أبرزها أن مؤسسة الرئاسة أخطأت عندما تعاملت مع المعارضة ككتلة واحدة، من خلال تبني الرئيس مرسي خطابا ساهم في توحيد فصائلها، بدلاً من إقناع بعضها وبناء تحالفات معها، فظهرت سياسة مرسي إما التحالف مع المعارضة بكل أطيافها، أو إخراجها كلها من عملية التحالف. ربما يعود فشل الإخوان ومؤسسة الرئاسة في تفكيك تحالف المعارضة وبناء تحالفات جديدة مع بعضها، إلى قلة خبرتهم في السياسة والحكم، واطمئنانهم إلى أن الشارع معهم، وأن المعارضة فقدت ثقة الناس بهم. الليبراليون والعلمانيون في أحضان العسكر قامت ثورة 25 يناير ضد حكم العسكر المتمثل بالجنرال محمد حسني مبارك، وعندما أُسقط وتولى الحكم مجلس عسكري، خرجت جموع الشعب المصري تهتف “يسقط يسقط حكم العسكر”، لأن ممارسات الأمن كانت أحد أهم أسباب الثورة، اليوم يتكرر المشهد، فالحديث عن المرحلة الانتقالية القادمة سواء كانت بحكم العسكر أو بتعبير أدق بوصايتهم عليها، ستفرز للمصريين ديمقراطية ديكور مشوه على شاكلة التي كانت موجودة في عهد الرئيس مبارك، سيكون هناك مجلس نيابي وانتخابات لكنها مفرغة من المضمون الحقيقي سواء بقانون انتخاب مشوّه، أم عبر تزوير ذكي، أم بكليهما معاً. المثير للدهشة أن أدعياء الدولة المدنية الحديثة ارتموا في أحضان المؤسسة العسكرية، وبذلك تمردوا ليس عن حكم مرسي بل عن كل مفاهيم ومصطلحات الديمقراطية والحداثة. ومن المفارقات الغريبة أن خطاب قادة الجماعة الإسلامية (حزب البناء والتنمية) أكثر ديمقراطية وحداثة وتمسكاً بالمفاهيم والآليات الديمقراطية وبسلمية التغيير، من أدعياء الدولة المدنية الملتفين حول العسكر ومنظومة الأمن. يؤكد الدكتور عوض القرني الداعية السعودي المعروف “أن ما جرى في مصر يكشف زيف ادعاءات الليبراليين والعلمانيين بشأن الديمقراطية، فما أن وصل الإسلاميون إلى السلطة حتى استعانوا بالجيش، فهم إما أن يكونوا في السلطة أو يأتوا بها على ظهر الدبابات العسكرية”. فتاوى الدين المؤلم أكثر في عملية الإطاحة أنه استند إلى فتاوى مشايخ السلاطين، بعملية مكتملة الأركان حيث شارك في هذه الفتوى المؤيدة لعملية الانقلاب شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب وهو أحد رجالات النظام السابق وعضو لجنة السياسات في الحزب الوطني، والبابا الكنيسة وأيضاً الشيخ السلفي جمال مرة الأمين العام لحزب النور.. وحتى يكتمل المشهد جاءت هذه الخلطة الدينية التي جمعت العمامة التقليدية والصليب الرسمي وفلتة محسوبة على الإسلاميين ممثلة بحزب النور السلفي. العزف على وتر الدين في تفاصيل السياسة يشبه إلى حد كبير فرقة العزف على ظهر سفينة “ التايتانيك” العملاقة حيث واصلت العزف المطرب والبهيج بإخلاص حتى لحظة الغرق الأخيرة. السيناريوهات المحتملة يمكن التأكيد بأن الفكر السياسي للإخوان المسلمين لا يقبل بأي حال من الأحوال فكرة الانقلاب تحت أي مبرر كان، وعبر تاريخ الجماعة الطويل لم يحدث أن الإخوان قاموا بعملية انقلاب واحدة، الأمر الذي يؤكد سر تمسك الإخوان بالشرعية الدستورية. لذا هناك خياران لا ثالث لهما الأول: افتراق أكبر بين الإخوان والقوى الإسلامية من جهة وبين الجيش والمعارضة من جهة أخرى، مع وجود توتر وأعمال عنف قد يقوم بها المتطرفون من الطرفين، أو طرف ثالث يستفيد من استمرار الفوضى في مصر. الثاني: استمرار الفراق مع جنوح الإخوان نحو التهدئة. والأول هو الأقرب، مع أن الإخوان سيعملون على تجنب أي أعمال عنف وبقاء التظاهرات سلمية قدر الإمكان مع شل لحركة المواصلات وإسقاط بعض المقار الحكومية، الأمر الذي سيجبر الجيش لعرض حلول توافقية ربما أقربها عمل استفتاء شعبي حول استمرار الرئيس مرسي في الحكم أو عزله. وفي حال كانت نتيجة الاستفتاء لصالح المعارضة، فإن فقه الموازنات التي ينتهجها الإخوان المسلمون تحتم عليهم رفض الفوضى والدمار والتخريب والقتل، إذ سينحصر عمل الإخوان حينذاك في تجرع مرارات الانقلاب العسكري القائم، والعمل على إطفاء الحريق وإنقاذ البلاد والعباد في نهاية المطاف. أما الخيار الثاني والذي يبدو الأضعف سوف يعزز نفوذ العسكر وتسلمهم زمام الأمور، حينها سيعود المصريون إلى المربع الأول, أما الإسلاميون فسيعودون خمسين سنة إلى الخلف. أخيراً تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود وكشف المخطط الانقلابي، وتأكد للكثيرين أن ما حدث في مصر لم يكن إلا انقلاباً على الشرعية الدستورية، حيث عاد الجيش المصري إلى صناعة القرار وتوجيه السياسة في مصر بعد أقل من عام على الإقصاء للمجلس العسكري، ومنعه من التدخل في الخارطة السياسية المصرية. في نهاية المطاف، ما حصل ويحصل في دول ثورات الربيع العربي ما هو إلا جولة من جولات عديدة ستعاني منها الشعوب المتطلعة للحرية والعيش بكرامة، ولن يمر الربيع العربي دون تحديات ومنعرجات بل سيحتاج إلى سنوات من أجل أن ينجح في تصحيح أخطاء تاريخية عمرها قرون. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك