لا يذكر الناس رمضان إلا وذكروا معه القرآن ولا يذكرون القرآن إلا وذكروا معه رمضان ، وقد جرت عادة الوعاظ والدعاة الحديث عن القرآن في رمضان إلا أننا سننحو منحى آخر فنتحدث عن رمضان في القرآن وهو ما رمزنا له ب (أيام الله في آيات الله) ونعني بالأيام شهر رمضان وبالآيات ما ورد في سورة البقرة من ذكر لرمضان من الآية 183 إلى الآية 187، وهي المرة الوحيدة التي ذكر فيها رمضان في كتاب الله ، والمتدبر لهذه الآيات يجد أبرز ما دارت حوله الآيات أمران أولهما: التقرب إلى الخالق وثانيهما: التيسير على الخلق ، وسنشير بداية في هذه السطور إلى المحور الأول المتمثل في التقرب إلى الخالق حيث أن أهم ما أشارت إليه الآيات من أعمال صالحة يتقرب بها العباد إلى خالقهم في سياق حديثها عن رمضان أربع عبادات (الصيام – تلاوة القرآن– الدعاء – الاعتكاف) وسنمر على هذه العبادات كاشفين عن أسرارها من خلال الآيات بحسب ترتيب ذكرها. كتب عليكم الصيام: أما الصيام فكان ذكره في بداية هذه الآيات في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }البقرة183، وفي وسطها في قوله تعالى: {..ِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ .. } البقرة185، وبينت الآيات أن أعظم مقاصد الصيام التقوى ورأس التقوى رقابة الله التي تورث مخافته ، وحاجتنا لتربية ضمير المؤمن على احترام الشرائع لا تقل عن حاجتنا للعقوبات الرادعة ، وإذا كانت الشرائع الأرضية تكتفي برقابة الدولة وسطوتها في حمل الناس على احترام القانون فإن الشريعة الإلهية تجمع في حمل المؤمنين على التزامها بين رقابة الدولة ورقابة الله وتبين لكل مؤمن أن من غفلت عنه عيون الناس لا تغفل عنه عين الله ، ومن فاتته عقوبة الدنيا لن تفوته عقوبة الآخرة ، وهذا جوهر التقوى الذي قصده الشارع من الصيام والذي أشار إليه الحديث القدسي:(كل عمل ابن آدم له إلا الصيام هو لي وأنا أجزي به) الجمع بين الصحيحين البخاري ومسلم - (3 / 18) – فسائر الأعمال يطلع عليه الخلق إلا الصوم فلا يطلع عليه أحد غير الله وكل الأعمال يشهد عليه الخلق إلا الصوم فلا شاهد عليه إلا الله. القرآن هدى للناس: والعبادة الثانية التي أشارت إليها الآيات هي عبادة تلاوة القرآن قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ .. }البقرة185، فقد ميز الله هذا الشهر دون سائر الشهور بنزول القرآن فيه وجعله هداية وفرقانا للناس وفي هذا إشارة إلى أن ارتباط الشهر بهذا الكتاب لا تقتصر على مجرد القراءة بل لا بد من التدبر سعياً لالتماس الهداية في الأقوال والأفعال وتمييز الحق من الباطل في المذاهب والأفكار وإدراك الصواب من الخطأ في المواقف والأحداث وهذا ما كان يفعله النبي (صلى الله عليه وسلم) فقد روى البخاري عن ابن عباس قال: كان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل وكان جبريل يلقاه في كل ليلة ٍ من رمضان فيدارسه القرآن فرسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة. الجمع بين الصحيحين البخاري ومسلم - (2 / 5) ، فقد كانت ليالي رمضان موعداً لالتقاء رسول السماء جبريل برسول الأرض محمد عليه الصلاة والسلام للجلوس على مائدة القرآن واستخراج كنوزه ومعرفة أحكامه والتزود من حكمه والاتعاظ بمواعظ والاعتبار بقصصه والاهتداء بهديه وكانت العبارة في الرواية دقيقة في وصف حال النبي (صلى الله عليه وسلم) – فيدارسه- كما أن حال النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يتغير إلى الأفضل بعد المدارسة فقبل المدارسة (أجود الناس) وبعد المدارسة (أجود بالخير من الريح المرسلة) وفي هذا رسالة لكل مؤمن مضمونها – لا تخرج من رمضان كما دخلت فيه ولا يكن حالك بعد ختم القرآن كما بدأت فيه. أجيب دعوة الداع : ومن أهم العبادات التي أشارت إليها الآيات عبادة الدعاء قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}البقرة186، وقد أشارت هذه الآية إلى جملة من المعاني ، أولها: أشار الله إلى قربه من عباده (فإني قريب) ومن كان الله قريب منه فقد نال الخير كله وحاز الفضل كله فإن الله هو الغني بماله الكريم في عطائه المتفضل على عباده ، ثانيها: أن الله تولى الإجابة عن سؤال عباده بنفسه ولم يكله إلى رسوله فقال: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ..) وهذا بخلاف ما عودنا عليه في كتابه في أن يوكل إلى رسوله الإجابة عن أي سؤال وتبدأ الإجابة ب(قل) فمنها على سبيل المثال {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً }طه105 ومنها {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً }الإسراء85 وهذا ليؤكد لنا ما سبق أن قرره من قربه منا، ثالثها: أن الإجابة في رمضان مقطوع بها ولو تأخرت قال تعالى: (أجيب دعوة الداع إذا دعان) فالأمر ليس مقتصراً على سماع الدعاء بل إن الطلبات مجابة والأماني محققة ولو طال الوقت وتأخر الرد ، رابعها: ربط الله إجابة الدعاء بإجابة الطلب فقال: (فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي..) فمن أجاب طلب الله فالتزم أوامره أجاب الله دعاءه وحقق أمانيه فقد ورد في الحديث القدسي (وإن تقرب مني شبرا تقربت إليه ذراعاً وإن تقرب إليّ ذراعا تقربت منه باعاً وإن أتاني يمشي أتيته هرولة) ، وكلاهما في مصلحة العبد فإجابة الدعاء تحقيق مصالح العبد التي يريدها لنفسه وإجابة الطلب تحقيق مصالح العبد التي أرادها الله له (.. لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ). وأنتم عاكفون في المساجد: الاعتكاف هو آخر العبادات التي أشار إليه القرآن في حديثه عن رمضان قال تعالى: {.. وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } البقرة187، والاعتكاف اعتزال للناس وخلوة بالله وانقطاع عن الدنيا وإكثار من العبادة فقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم ) إذا دخل العشر الأواخر من رمضان يعلن في بيته النفير العام والتفرغ الكامل للعبادة فقد قالت السيدة عائشة رضي الله عنها وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} (إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وشد المئزر) الجمع بين الصحيحين البخاري ومسلم - (4 / 126) - وروت أيضاً عن النبي {صلى الله عليه وسلم} (أنه كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره) الجمع بين الصحيحين البخاري ومسلم - (4 / 126). رمضان مدرسة التقوى نلاحظ أن القرآن في حديثه عن رمضان بدأها بالتقوى وختمها بالتقوى فقال في أول هذه الآيات {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } البقرة183، وقال في آخرها: {.. وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } البقرة187، فكما أن الصيام غايته ومقصده الأعلى تحقيق التقوى فكذلك العبادات التي أشارت إليها الآيات في حديثها عن رمضان من تلاوة قرآن ودعاء واعتكاف غايتها جميعاً تحقيق التقوى ، فرمضان في أحكامه المشروعة وشعائره المكتوبة مدرسة لتخريج المتقين الذين وصفهم الله فقال: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ} الرعد21. رابط المقال على القيس بوك