من يتابع مجريات الأحداث والتطورات السياسية في عالمنا العربي اليوم وخصوصاً في بعض دول الربيع العربي على مختلف وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمطبوعة يجد للأسف الشديد أن المال السياسي هو المحرك الوحيد لمعظم هذه الوسائل في الاتجاه الذي يستهدفه أصحاب هذا المال سواء كانوا أفراداً أو جماعات أو دولاً أو أنظمة حكومية. لقد فقدت العديد من وسائل الإعلام العربية وخصوصاً الصحف والقنوات الفضائية الإخبارية مصداقيتها اليوم في تناولها وتحليلها وعرضها للكثير من الأحداث والموضوعات بعد أن أصبحت رهينة من يمولها ويوجهها كيفما يشاء وفي أي اتجاه يشاء، وأصبح المال السياسي والإعلام يشكلان السلاح الأكثر فاعلية وتأثيراً في كسب المعارك السياسية وتوجيه الرأي العام في الاتجاه الذي يخدم مصالح وأهداف من يمتلك هذا السلاح في العصر الحديث..ويكفي على سبيل المثال أن تنتقل بالريموت كنترول بين مختلف القنوات التلفزيونية الفضائية العربية الإخبارية الرسمية والخاصة هذه الأيام لتسمع وتشاهد مدى التباين أو التضخيم والتهويل أو الاستغلال السياسي والمريب أحيانا للأحدث الجارية في بعض الدول العربية وتداعيها عبر هذه القنوات والتي سخرت بعضها جل اهتمامها في تغطية أحداث معينة في بلد واحد أو بلدان عربية محددة وبطرق مختلفة في تناول وتغطية هذه الأحداث بحسب ما يتفق مع أهداف وتوجهات هذه القنوات والجهات أو الشخصيات المالكة لها أو الممولة والداعمة لها, دون مراعاة لأبجديات المبادئ والأسس والقيم الأخلاقية والمهنية الإعلامية. حيث لجأت هذه القنوات في البحث عن أخبار أو مشاهد تناسب توجهاتها وأهدافها من أي مصادر تلبي مطالبها حتى ولو كان شاهد عيان مستأجر أو محلل سياسي يعمل حسب الطلب وبالأجر اليومي أو الشهري أو نقل مشاهد ولقطات مجهولة المصدر والهوية من المنتديات والمواقع المتخصصة على شبكة الإنترنت واختلط الحابل بالنابل والغث بالسمين في كل ما تنشره وتعرضه هذه القنوات, وفقدت معظمها مصداقيتها لدى المشاهد العربي وخاصة من جيل الشباب الذي باتت تحركه وتؤثر فيه كلمات وتجمعات زملائه وأقرانه من الشباب عبر مواقع شبكات التواصل الاجتماعي على الإنترنت, أكثر مما تؤثر فيه أو تحركه الوسائل الإعلامية الموجهة والتقليدية. إننا نشهد اليوم على المستوى العربي وبعد ثورات الربيع العربي انفلاتاً إعلامياً لافتاً فبعد أن كان الإعلام حبيس ورهين رغبات الأنظمة صار اليوم بلا قيد ولا وازع ولا رادع واختلط فيه الحابل بالنابل وارتمى في أحضان الرأسمال السياسي, فأصبح تتقاذفه أهواء السياسيين وأصحاب المال وهو ما ولّد إعلاما منحازا لم يستطع التخلص من عقده السابقة فالمعلوم أن للإعلام دوراً مهما في توجيه الرأي العام والتعبير عن مشاكل ومتطلبات المواطنين وحتى المساهمة في حلها, لكن أن يصبح هذا الإعلام أداة لفبركة الأحداث أو خلق جدال مفتعل أو تضخيم الشأن العادي لجعله يبدو كالظاهرة مما يسهم في شحن الأجواء ويخلق جوا من التوتر الاجتماعي والسياسي أو تشجيع مظاهر غريبة عن هويتنا تحت مسميات مغلوطة كالتطور والحداثة وما إلى ذلك من الألفاظ المستهلكة إعلاميا لتسويق مظاهر الانحراف الأخلاقي, فكل ذلك من شأنه أن يعمق الهوة بينه وبين المتلقي فالإعلام في عالمنا العربي اليوم يرفض أن يكون إعلام الجميع وصوت الجميع ومرآة الجميع ويضيع الفرصة التاريخية التي منحتها له ثورات الربيع العربي للتصالح مع نفسه ومع شعبه ويكفر عن أخطائه القاتلة وأن لا يصبح إعلاماً هجيناً يبدو كلوحة متعددة الألوان لكنها ألوان متنافرة متباعدة يغلب عليها اللون الداكن وتقل فيها نقاط الضوء والأمل والتفاؤل والصدق والشفافية والفائدة. وختاماً يمكنني القول أولاً: إن الإعلام اليوم بمجمل تياراته قد تجاوز تلك الأكاديمية العسكرية التي كان الإعلامي فيها يستعير الخوذة من الجندي ليمارس دوره في نوبة حراسة ذلك لأن البشر تغيروا وطرأ عليهم من الوعي في مختلف تضاريس المعرفة ما يحصنهم من سهولة الاقتناص أو الإغواء، لكن التقدم العلمي وحده لا يكفي ما دامت هناك حمولات من الأفكار المعلبة ومخلفات الماضي الغارب تحول هذا التقدم من نعمة إلى نقمة، كأن تضع الإنترنت في خدمة الخرافة أو التلفزيون في خدمة الكذب والتضليل، وثانياً أن المال السياسي يمكن أن يغير اتجاهات وأفكار وسائل الإعلام وبعض الإعلاميين حول أهداف محددة لكنه بلا شك لا يمكنه في ظل تنامي الوعي والمعرفة لدى معظم أفراد وقطاعات المجتمعات العربية اليوم أن يغير إرادة الشعوب نحو ما يفيدها ويحقق آمالها وأحلامها.. وشهر كريم لكل القراء الأعزاء.