نفكر دوماً بالهجرة إلى أرض جديدة وبلاد بعيدة تكون الإنسانية فيها هي الحكم، هروباً من واقع مرير تعيشه ساعة بعد ساعة، إن لم نره في مرايانا كل يوم نراه في عيون الآخرين ونسمعه في أناتهم المتعبة، نعم نهرب من منكر تتسع رقعته كل يوم ولا نملك وسيلة لتغييره إلا بأضعف الإيمان، وليتنا نستطيع! لكن لا يوجد يثرب أخرى تستقبل المهاجرين إليها، لا يوجد أنصار آخرين يحب أحدهم أخاه القادم من بلاده التي جارت عليه حتى يقتسم وإياه لقمة الخبز يخفيها خلف ظهره فحسب، ويكتفي بمشاهدة الجياع يقضون نحبهم دون أن يحرك تجاههم ساكناً. ابتلينا اليوم وفي حقبتنا التاريخية هذه التي تعد من أهم وأخطر الحقب الإنسانية، بغياب الحق وتمويه الحقيقة، وتلوين الواقع وتزييف أحداثه، نعم فالحق هو آخر ما تنطق، والحقيقة آخر ما نقول والواقع أخرما تراه بصائرنا، أما أعيننا فقد رأت كل شيء وأسدلت أجفانها خوفاً ورهبة وربما هروب من محاسبة جائرة، فالقاتل والشاهد عندنا مجرمان ينالان ذات الجزاء. الجلاد لا يستطيع أن يوقع سوطه إلا على أجساد المتعبين، الذين أثخنتهم الحياة بالجراح ولم يعودوا يملكون الرغبة في البقاء بين ثناياها كلقمة بائته، وهؤلاء لم يكونوا تحت سوطه لولا أنهم لا يملكون الحجة وليس لديهم الوسيلة وغابت عنهم أعين العدالة بعد أن أصبح لها أعوان من نخبة البطش والفجور، وأما من يملك الوسيلة التي تخفي معالم جرائمه والحجة التي تثبت أدلة براءته فهو حر طليق وتحميه قوانين الأرض التي وضعها من يتأله على الناس حتى يقول لهم لسان حاله: “كونوا عباداً لي من دون الله”.. ليس لدينا يثرب أخرى، وحتى يثرب التي رآها البعض اليوم ملاذاً من سياط الفقر والهم والتعب التي مزقت أحشاءه وشوهت معالم وجهه، يثرب الجوار التي أرسلت أبناءنا مكتوفي الأيدي في “ وانيتات” الأغنام خاصتهم، يثرب التي تصفع الضعفاء وتربت على أكتاف المترفين، يثرب الأمس القريب ليست هي يثرب اليوم، فهل من الإسلام في شيء ما يعانيه أبناؤنا وهناك؟ وهل من الدين في شيء ما تحاول الشقيقة صنعه في فرن سياستنا وهي التي منعها الرخاء وحرمها الترف من صنع الخبز السياسي بيديها الناعمتين. فإلى أين نهاجر أوطان تلفظنا عنها كما تلفظ الأحشاء بعض ما فيها؟! وكيف نصبر على جور فاض واغرق البلاد والعباد حتى يستعين أصحاب القرار بمن يكتتبه ويقرأه ويعلمه لضعفاء النفوس وعديمي الإرادة؟ أين السبيل إلى سلم اجتماعي وسكينة شعبية وعقلاؤنا هم من يوجه السلاح إلى صدورنا، وبينما يسير الناس بصدور عارية يسير هؤلاء بنوايا عارية وما من رادع ومستنكر. ابتلتنا الحياة بهم الموت وابتلتنا الديموقراطية المقنعة بهم الحرية، واصبحنا بين هذا وذاك كمن يكذب ويصدق كذبته، بل إن جرأة البعض في عرض قضايا الوطن بمنتهى التحايل على مرأى ومسمع العالم دون أن يعترف أنه وأمثاله سبب من أسباب الفتنة والنزاع والنكبات المتتالية للوطن، ما يفعله هؤلاء يثير الرعب في النفس ويزيل ما كان قد تبقى من الإحساس بالأمل وبأن يأتي اليوم الذي يعلم هؤلاء أن الموت بضاعة الحياة وأنهم لابد ملاقو ربهم، فما عساها الحجة هناك يوم تشهد عليهم أيديهم وأرجلهم وألسنتهم ويعلم الأشهاد كل جرة قلم أو صفقة سلاح أو شحنة مخدرات كانوا هم أصحاب الشأن فيها، نعم نقول يثرب أخرى، لكن أعماقنا تؤمن أن يثرب عظيمة تحتضن أحلامنا وتعيش طموحاتنا في أعمق قيعان هذا الوطن. رابط المقال على الفيس بوك