يطمع المسؤول أو الشيخ الفاسد أن يحج بيت الله ليعود كما ولدته أمه، ثم ما يلبث أن يعاود الإفساد ويذهب إلى الحج في عام آخر ليولد من جديد..!!. يفعل ذلك لا ليصبح كالطفل نقيًا من الذنوب فحسب, ولكن ليمارس أفعالاً طفولية ويتصرّف كالفاقد للأهليّة طالبًا من الآخرين أن يعذروه, ومن القانون أن يغض الطرف عنه. هكذا يظن رموز الفساد أن مكة وبقاعها المقدّسة نهر يغتسلون منه لتخرج أدرانهم ويتخلّصوا من الماضي بكل ما فيه من ذنوب وآثام اقترفوها بحق المال العام وحقوق الناس التي سلبوهم إياها بقوة المنصب أو الجاه أو العصبة أو القبيلة أو المغالطة والتزوير. يرون فيما يفعلون من نهب وتحايل ومكائد مظهرًا للرجولة والذكاء والحنكة والبطولة, ثم إذا هلّ هلال عرفة رفرفت قلوبهم لزيارة البيت وتركوا أطماعهم وحبائلهم وعصيِّهم ورحلوا بأموال منهوبة وضمائر معطوبة قائلين مثل حجاج بيت الله: «لبيك اللهم لبيك»..!!. إنهم واهمون؛ يظنون أن نداء الله موجّه إليهم مثل غيرهم؛ ليكونوا من جملة ضيوف الرحمن، كيف ذلك وهو يصرّون على عدم التحلُّل من المال الحرام، وإعادة الحقوق إلى أصحابها، وإنصاف من ظلموهم, ومن ثم الارتحال إلى الله بزاد حلال ومركب حلال..؟!. إن الحج لا يخلّص هؤلاء من جرائمهم بحق الآخرين، فالذنوب نوعان, ما بينك وبين الله كفارته التوبة والندم والعزم على عدم العودة إليه, أما ما بينك وبين الناس فلا كفّارة له إلا إعادة الحقوق إلى أهلها, لا يغني عن إعادة الحقوق أي شيء ولو حججت ألف حجة، وكسوت مليون يتيم، وبنيت ألف مسجد، وزوّجت ألف عازب، وحرّرت ألف سجين، إنها حقوق الناس. تذكرّوا أن الرجل المدين لا يُدفن إذا مات إلا وقد قُضِيَ عنه دينه وإن كان شهيدًا, فكيف بالناهبين والغاصبين والمجرمين الذين يصنعون ما لم يفكر به إبليس..؟!. إذن يا سيادة الفاسد برتبة «حاج»: لا ينفع أن تستمر في السرقة والنهب والتآمر على الوطن وأنت تحج في كل عامين أو ثلاثة، لا ينفع أن ترتدي الأبيض وأنت في إصرار على العودة إلى سلوكك الأسود، لا ينفع أن تهرول في السعي بين الصفا والمروة وأنت مدمن على الهرولة إلى الشر والسعي بين الخساسة والعمالة، لا ينفع أن تتعلّق بأستار الكعبة وأنت ترى نفسك محظوظًا بالتعلُّق على أستار الفوضى وضعف الدولة وغياب الرقابة وعواصف المرحلة الانتقالية, بل وأنت تتحين الفرصة أو تحدُّ الشفرة لتقسيم الكعكة، لا ينفع أن تحرص على تقبيل الحجر الأسود طيب الرائحة وقلبك مثله حجر أسود إلا أنه «نتن الرائحة»..!!. يا حضرة الفاسدين برتبة «حاج»: لا ينفع وأنتم تغتالون الوطن كل يوم بتكريس الفوضى والسرقة والنهب وإقصاء الكفاءات وإضعاف الدولة والتعاون مع المخرّبين, وتُبدون إصرارًا على هذا كله، لا ينفع أن تحجّوا بيت الله إذا لم تُقلعوا عن عاداتكم، في هذه الحالة أنتم ضيوف ثقلاء, ولا تنسوا أنكم متى تقولون: “لبيك اللهم لبيك” يناديكم منادٍ من السماء: لا لبيك ولا سعديك, زادك حرام، وراحلتك حرام، وحجّك مأزور غير مبرور، كما جاء في الحديث، ويحضرني في هذا المقام البيت القائل, وأظنه لشاعر مجهول: إذا حججت بمال أصلُه دنسٌ فما حججتَ ولكن حجَّتِ العيرُ نوكل أمركم إلى الله يا من أفقرتم الوطن وكوّنتم الأرصدة وأذقتم الشعب وتذيقونه سوء العذاب، نوكل أمركم إلى الله ونحن نراكم اليوم في صعيد عرفة بين يدي رب العالمين ترفعون أكفّكم إلى السماء وربما تسيل دموعكم مثل ضيوف الرحمن, وتسقط أرديتكم من شدة التضرُّع والإلحاح في الطلب. لكن لا أكتمكم سرًا أنني أخاف أن يكون دعاؤكم: ربنا زد لنا في الرزق, ومكّن لنا في دولتنا، ومكّن لأولادنا من بعدنا إلى أبد الآبدين؛ إذا كان الأمر كذلك، فنحن نسأل الله ألا يحقّق لكم غاية، وأن يخلّصنا من شروركم عاجلاً غير آجل. [email protected]