في دماج : دار حديث، مصاحف، كتب تفسير، ثيابٌ بيضاء، لحى طويلة، وكثيرٌ من كتب محمد بن عبدالوهاب وابن باز، وركام من التشدد المقيت أيضاً. قد نتفق معهم، ونختلف كذلك، لكننا الآن بحاجة إلى أن نتفق جميعاً على أحقيتهم في الحياة الحرة كما غيرهم، بعيداً عن تجار الموت وباعة الردى! . لن نقع في الخطأ ذاته الذي وقع فيه طرفي الصراع في دماج، وأقصد بذلك التشدد والغلو والتعصب على حساب العقل والمنطق والفكرة الوسطية الجامعة لكل الناس، ولهذا فلن “نخرس” ونتفرج على الموقف من بعيد، بل من اللازم أن نقف مع المُعتدى عليه ضد المعتدي ولو بالكلمة والموقف، فذلك أضعف التضامن.. والإيمان أيضاً ! . عموماً، سأكشف لكم السر “البسيط الصعب” الذي جعل مثل هذا الحدث الفظيع يمر دون ضجيج، خاصة من قبل دُعاة المدنية وأنصار الحقوق الإنسانية الذين امتلأت بهم مقرات المنظمات الحقوقية التي يتم الاستثمار فيها بأرباح كبيرة، فتشوا دماج جيداً، فلن تجدوا فيها صوراً عملاقة لجيفارا، ولا أشعاراً ماجنة لقباني، ولا دولارات خضراء تُغري بالانحناء، ولا صالات أنيقة تتسيد منصاتها فتيات مثل الورد، أو شبانٌ مثل الشوك ، يتلون قصائد “الحداثة” الغابرة التي ليس فيها سوى الأحضان الحارة والقُبلات النارية والتفاصيل الدقيقة للأجساد الساخنة، ابتداءً من “النهدين” وصولاً إلى مناطق المجهول المُستعِر، وليس فيها أيضاً أماكن جذابة تصلح لحفلة عشاء و “فودكا” ساهرة حتى مطلع الفجر على شرف الشيطان ، يتكفل بتكاليفها سفير “أحمر عين”..! ليس في دماج ما يُغري أكوام الناشطين والناشطات بالتضامن والعويل والصراخ ، أو حتى تحريك الأعين نحو وجع تلك البقعة المدفونة في جوف التجاهل والتغييب والنسيان ! . عوامل كثيرة تكالبت على هذه البقعة الخارجة عن أنظار الإنسانية، وجعلت الجميع يدخلون موسم (بياتِ شتوي) للضمير، حيث لا يوجد فيه حتى تنديد أو استنكار بما يحصل، ولذلك فقد وصلت الأمور إلى حد استخدام (الكاتيوشا) من قبل الحوثيين في ضرب دماج، والقادم أسوأ إن استمر سوء الصمت يضرب أعماقنا التي تختزن في دواخلها كميات هائلة من الخذلان!. دماج، وجع إنسانيتنا المكلومة، وألم ضميرنا الميت، وضحيةً الانتقائية المريبة في التضامن من قبل البعض، وصمت البعض الآخر. دماج قضية القلوب الحية، التي ليس لها معرفة بالموت الأخضر المسمى “دولارات”، ولا الموت المُبهرج المسمى “سفارات!. دعونا نعود إلى الخلف قليلاً لنصل إلى كلمة واحدة تلخص في حروفها الستة كل أسباب المشكلة الحالية ومُجمل المشاكل التي يقع فيها طرفي النزاع.. وهي «التعصب»!. الرؤوس «المتعصبة» والعقليات «المتحجرة» والأفكار «العدمية» التي لا يوجد فيها ذرة فكر سليم دائماً مشكلة، في أي طرفٍ كانت.. فكلنا نعرف أن الحوثيين والسلفيين المتشددين نقيضان مختلفان في كل شيء، إلا أن العامل المشترك بين الفئتين هو التعصب الأعمى، وتغييب العقل و«الدعس» عليه بأحذية الخرافة والتقديس، والاهتمام بالتفاصيل الصغيرة، أو ما يمكن تسميتها بالبلدي ب”البعاسس” دون إعارة الأساسيات الكبرى نفس ذلك القدر من الاهتمام! ففي حين يهتم السلفي المتشدد - مع وجود سلفيين منفتحين ورائعين - بقياس طول السواك واللحية، والمصيبة الكبرى أنه قد يبني على هذا الالتزام حكماً بمدى إيمان الفرد وقربه من خالقه ويقيس محله في الجنة أيضاً، يتيه الحوثي بين “سراديب” الخرافة التي تجعله يقف على باب السرداب انتظاراً للمجهول، أو يقوم بضرب جسده ورأسه بالسيف حتى تنزف الدماء منه بغزارة، يفعلون ذلك عقاباً لأنفسهم، لأنهم تركوا الحسين يُقتل قبل أربعة عشر قرناً دون أن يدافعوا عنه!!. وبينما يضرب الحوثيون السلفيين في دماج بمنتهى الوحشية، ويسقط جراء كل هذا قتلى وجرحى ودمار واسع، إلا أن القضية لم تُثر حتى الآن بشكل قوي، والسبب أن الإعلام لا يهتم .. وعدم اهتمام الإعلام سببه عدم توفر مواد حقيقية قابلة للعرض والتناول، وحتى الآن لم نر صوراً لما يحدث في دماج، وذلك في غالب الأمر يعود إلى أن التشدد السلفي ينظر إلى التصوير بأنه “حرام” ولا يجوز على الإطلاق، رغم أن بإمكان الصور استثارة الناس وتحريك المياه الراكدة التي زادتها العقليات “الراقدة” ركودا وجمودا ! قد يردد أحدهم المثل الشعبي “لو اتضاربت الرُباح انتبه على جربتك”، أي الزم الحياد واهتم بشؤونك فقط، لكن في اعتقادي أن هذا لا يتناسب مع الحالة التي نحن بصددها، حيث إن فيها قاتلاً ومقتولاً، ظالماً ومظلوماً، لذا من الواجب أن نقف في صف المظلوم ضد الظالم، مهما كان حجم الاختلاف مع ذاك المظلوم ! رابط المقال على الفيس بوك