تتعصّب شعوب العالم مع مصالحها العامة، فتنتقل بمواقفها السياسية خصوصاً من موقف إلى موقف، ومن دعم حزب إلى حزب، ومن رئيس إلى رئيس؛ ليس تمييع مواقف كما يجري عندنا وإنما دوران بعد الحقيقة التي هي هنا المصلحة العامة، يدورون مع حقيقة المصلحة العامة؛ لأنها رافد المصلحة الخاصة؛ دون تعصب لانتمائهم الضيق، أينما كانت الحقيقة هم معها، ويتم بهذا تقييم وتعديل الكيانات الخاصة لتتماشى مع المصلحة العامة؛ بينما نرى العربي يتمسّك بالذي يحصل عليه أو يصادفه أولاً؛ أسرة، قبيلة، شخصاً، طائفة حزباً جماعة، ويتمسّك بها «مسكة أعمى» تحرّكه ثقافة «بين اخواته ولا جربة» وهنا لا تستفزها «الجرب» لكي تعالجه وتحاربه وتنقذ نفسها وأخواتها؛ بل نتماشى مع «الجرب» طالما وهو يحقّق داعي العصبية. لايستفزنا الباطل الذي يمارسه إخواني أو جماعتي أو أسرتي أو حزبي هنا أو هناك؛ بل عليك أن تنغمس أنت في الباطل؛ تقف ضد الآخر حتى لو كان على حق في هذا الموقف أو ذاك، تصرخ: هذه الثقافة الانطوائية المدمرة على البيئة الخاصة.. تعصب أعمى متوارث يعبّر عنه ثقافياً بأمثلة متوارثة يسمونها حكماً: «أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب» ولك أن تتخيّل كيف يكون مجتمع بهذه الأنانية والعصبية التي تحوّل المجتمع إلى سباع لا تندمج مع أحد ولا تنظر إلى الحق أو الباطل، ولا شأن لها بالمصلحة العامة؛ بل مع دوائر ضيقة لا تقبل التقييم ولا التعديل؛ قبيلة، أسرة، جماعة حتى الحزبية التي جاءت لتكون آلية لتحقيق المصلحة العامة للشعب تحوّلت هي إلى عصبية بسبب ثقافة بين «اخواته لاجربه» وأنا وأخي على ابن عمي، فلم نرى برامج فاعلة لدى الأحزاب، وإذا وجدت نرى أفراداً مصلبين ومصلوبين بعناوين عصبية، وتكاد تحل العصبية الحزبية محل العصبية القبلية، للأسف العصبية لثقافة «الجرب» جعلت الآخر وحشاً وأنت متوحش منه حتى لو كان جزءاً من الوطن «جنّي تعرفه ولا إنسي ما تعرفوش» ثقافة كلها تكرّس العجز والتعامل مع الواقع السلبي وسيطرة العادة والألفة والقريب مهما كان رديئاً وأجرب؛ يستحيل معه الخروج من واقع سيئ إلى أفضل، ولهذا تجد العربي يتمسّك بالحاكم الدكتاتوري والفاسد؛ ليس لأنه لا يعلم أنه ظالم أو فاسد، بل لأنه ألفه بصرياً وسمعياً، ولا يتصوّر أن أحداً غيره يستطيع أن يحكم، ولهذا تتكرّس ثقافة «جنّي تعرفه.. وعادوه أحسن من غيره ولا يوجد مثله». سلبية مفرطة حد الموت على قاعدة ثقافة الجرب العربي هذه التي لا تبحث على الأفضل، ولا يوجد لديها ثقة بالقدرة الجمعية على الإبداع، ثقافة لا يمكن أن تنتج جديداً سوى مزيد من «الجرب» وهي ثقافة عربية متأصلة عند العرب عبّر عنها الأدب العربي وهو يقول متفاخراً: «وما أنا إلا من غزية إن غزت غزوتُ ... وإن ترشد غزية أرشدِ» وهو هنا إعلان لانطماس الفرد وتعطيل العقل لصالح عصبية التجمع الخاص القبلي, الأسري, الحزبي.. انطماس وتعطيل يجعل القبيلة أو الحزب أو الكيان الجمعي كياناً مجازياً؛ بينما يختزل هذه الكيان أو ذاك بالفرد القائد أو زعيم القبيلة، فتتناطح الزعامات بكيانات منعدمة التفكير والإرادة، تموت فيها الحقيقة، وتُذبح مصالحهم لصالح مصلحة فرد أو شلّة مستبدة تتسيّد بالعصبية وثقافة الجرب العام. إنها صورة من الانتحار الجماعي المستمر والمتجدّد عند العرب؛ ينمّي «الجرب» في كل كيان، ولا ينظر إلى مواقع الصحة في الكيانات لتكوين منها روح عافية للوطن، تعصُّب أسود عنوانه «بين اخواته ولاجربة» و«ما أنا إلا من غوية إن غوت غويت؟...وإن ترشد غوية أرشد» وبهذا والله ما شنخرج إلى طريق، ولن يصلح لنا حال في ظل تقديس ثقافة الجرب وتدعيم الغواية.= [email protected] رابط المقال على الفيس بوك