أيام وستهلّ علينا ذكرى المولد النبوي الشريف في الثاني عشر من شهر ربيع الأول، مولد نبينا ورسولنا محمد «صلى الله عليه وسلم»؛ هذا المولد العطر كان بداية تغيير العالم من عهد الجاهلية الجهلاء المظلمة إلى عهد الإسلام المنير والمضيء، ومنه تتالت الأحداث حتى انبثق فجر الإسلام حاملاً نور التغيير العظيم الذي غيّر وجه التاريخ وأنجب دولة حضارية في زمن قياسي في تاريخ الأمم، وسادت قوانين السماء الربانية أرجاء المعمورة، وأينع البناء الحضاري في كل روضة وربوة من فيحاء هذه الدنيا. إننا عندما نتذكر مولد النبي «صلى الله عليه وسلم» ونكتب عن هذه الذكرى العطرة ليس الهدف منها إقامة الاحتفالات والمهرجانات وتزيين الشوارع بالكلمات والآيات والأحاديث النبوية الذاكرة للرسول وسيرته؛ بل الهدف منها استقراء الدروس والعبر التي لا تنضب، إنها ذكرى الاعتبار والاتعاظ لا ذكرى الاحتفال والابتداع، إنها ذكرى معرفة رحمة الله تعالى بهذه الأمة أن بعث فيهم رسولاً منهم يخرجهم من الظلمات إلى النور، كيف لا وهو سيد المرسلين الذي لا ينطق عن الهوى. والناظر اليوم إلى واقع بعض المسلمين يلحظ تسييساً للرسول وذكراه العطرة؛ فتراهم يتسابقون في استقطاب الأطفال أو الشباب وترغيبهم بالرسول والكتابة على الجدران ليس حباً في الرسول أو التغيير وإنما فخر ومباهاة أنهم على حق وغيرهم على ضلال - والعياذ بالله - أو اعتبار أنفسهم هم الذين يحبّون الرسول وغيرهم لا يحبونه، وتراهم يجوبون الشوارع والأزقة ليكتبوا تلك العبارات المستمدة بعضها من القرآن والسنة، لكنهم يخفون من ورائها جانباً سياسياً يظهر من استخدام نفس الألوان التي يستخدمونها عند رسم شعاراتهم المجافية للحقيقة، والتي يرفعونها أمام الدولة والشعب في تحدٍ واضح، ولكن «فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض». إن الحديث عن المولد النبوي حديث ذو شجون لكن يجب ألا نقف فيه عند مظاهر مولد النبي ونسرد التفاصيل التي ذكرت مولده وكيف ولد وما النور الذي ظهر، وهل تألمت أمه - صلى الله عليه وسلم - أثناء المخاض، بل نحن مطالبون بالغوص في عميق جذور هذا المولد وتحليل ما وراء ذكرى المولد النبوي؛ كي نعي وندرك بعضاً من الدروس العظيمة والعبر والحكم الباهرة، ونعكسها على واقعنا المعاصر، فيستفيد منها الأفراد وتستفيد منها الأمة عامة، وهي دروس وعبر كثيرة نقتصر منها على ما يلي: أولاً: المولد النبوي نهاية مرحلة وبداية عهد جديد؛ فمع إشراقة شهر ربيع الأول يقف المسلم بين يدي المولد النبوي متأملاً معتبراً محللاً، علّه يرتقي بنفسه وبمن حوله إلى مستوى الحدث الضخم في تاريخ البشرية، الذي نقل العالم من مرحلة الجاهلية التي اتصفت بالجهل والقتل والسلب والنهب وقطع الطرقات وأكل أموال اليتامى والغيبة والكذب وشهادة الزور واللعن والسب والإيذاء والتباغض والتقاطع والتدابر والظلم والحسد والتجسس وسوء الظن واحتقار الآخرين والطعن في الأنساب والغش والخداع والغدر والبغي والربا والرياء والنياحة وإتيان الكهان والمنجمين والعرافين والتطير والخصومات في البيع والشراء والإجارة وغيرها من المعاملات والحلف الكاذب والتكفير والزنا والسحر وغيرها من الرذائل.. إلى عهد الإسلام الجديد الذي حارب كل تلك الرذائل ووقف لها بالمرصاد، وها نحن اليوم في واقع مؤلم أعاد عادات الجاهلية ورذائل الجاهليين كما كانت لا ينقص منها شيئاً إلا من رحم ربي.. فأين الإسلام منا؟ ولماذا نوصف بالمسلمين ونحن نمارس أعمال الجاهلية؛ وعليه يجب أن يكون المولد النبوي ذكرى عطرة للابتعاد عن الرذائل الجاهلية وإبدالها بفضائل الإسلام الباقية والبهية. ثانياً: المولد النبوي ولادة لحركة تغييرية تجديدية مستمرة، وواقع اليوم في معظم دول العالم يسعى إلى التغيير والتجديد، لكن تواجهه بعض الإرهاصات التي تقف حجر عثرة أمامه من قِبل عصابات ومافيا الفساد التي نهبت البلاد والعباد وتكره التغيير والتجديد وللأسف هناك من يسمعها ويحن إليها.. وعليه ينبغي لهواة التغيير أن يستمروا في مطالباتهم التغييرية والتجديدية ولا يضرهم نهيق الحمير أو عواء القطط أو فحيح الثعابين؛ لأن لكل ولادة مخاضاً ولكل مخاض آلاماً. ثالثاً: المولد النبوي يجب أن ينقلنا إلى معرفة المُثل الأعلى والصفات العظمى التي اتصف بها عليه الصلاة والسلام؛ لنقتفي أثره ونتبع سنته ونعمل بما أمر ونجتنب عما نهى؛ لأن معرفة كل ذلك عامل من عوامل قوة الأمة الفكرية والنفسية والمادية، ولاتزال الأمة بعافية مادامت على صلة قوية بهذه المُثل العُلياء على سواء في إنضاج فكرها أو تقدم مدنيتها، والصفات المحمدية تحثنا دائماً إلى أسمى الغايات وإنجاز أرقى الحضارات، ولن يتحقق ذلك إلا بالاقتداء بالنبي عليه الصلاة والسلام في جميع الأقوال والأفعال. أخيراً : المولد النبوي بارقة أمل؛ وهذا يدعونا إلى التفاؤل بمستقبل أفضل، مع تعلم فن صناعة الأمل؛ لأنه بالأمل يتحقق نصر الله، وبالأمل يتحقق الفرج بعد الشدة والعزة بعد الذلة والنصر بعد الهزيمة بتوفيق من اللطيف الخبير رب العالمين، وما أجمل قول الشاعر وهو يتحدث عن فن الأمل الراقي: إذا اشتملت على اليأس القلوب وضاق لما به الصدر الرحيب ولم تر لانكشاف الضر وجهاً ولا أغنى بحيلته الأريب أتاك على قنوط منك غوث يمنُّ به اللطيف المستجيب وكل الحادثات وإن تناهت فموصولٌ بها الفرج القريب [email protected]