أعترف أن الشوق يجتاحني ل« قهقهة » صديقي الشاعر والكاتب والباحث والمحرر الثقافي الجميل «الانسان الكثير» عمر محمد عمر الذي رحل في مثل هذه الأيام العام الماضي . رحل بكامل أناقة روحه المغمورة بالضحك والحزن النبيل كان يقاوم المتاعب والمكائد بالنكات كأي حالم أصيل في الزمن الصعب ، بينما ظل يتجاوز كل محنه وعذاباته كإنسان نزيه بدوام عافية روحه التي تسخر وتتهكم من الزمن الزفت وكائناته المشوهة بانتهازيتها حد الانمساخ. غير أنها روحه الاستثنائية التي لاتتكرر بسهولة ..الروح المعاندة التي ظلت تقاوم بإبهار نوعي كل ما يجري من جنون وقهر ،روح الاخضرار الطاغي في رفض أخلاق اليباس المنتشر.. الروح غير الضالة التي استمرت تمنح الأمل مشعاً وجارفاً كما ينبغي لكل من يحتاجه كي نستطيع الحد فعلاً من جموح الأرواح الانهزامية اليائسة والقاحلة التي تنشر العتمه والبؤس فقط فيما حولنا. والمعروف عن فقيد الساحة الأدبية والصحفية اليمنية تميزه بعلاقاته الانسانية الثرية وعنفوان المحبة والحياة، حتى إن رحيله مثل فاجعة حقيقية لمحبيه وأصدقائه، كونه من أولئك البشرالانقياء المبهجين الندرة في هذا الزمن الفاجع.. كانت طريقة حياته اليومية تلقائية عميقة وملهمة بدون تنطع او دناءات من أي نوع، او بتعبير آخر كانت بمثابة مرآة لشكيمة الانسان كإنسان ورفضه التلوث أو الانحطاط مستمراً في سمو مبادئه والارتقاء المدهش. لقد استمر كشاعر عاشق يصرخ بحب في وجه كل شيء ينحرف وطنياً أويتجرد من انسانيته، كما كان يمارس مهامه المتعددة بشغف بارع، بل يمكن اعتبار أنه كان يعمل بوعي مبهر في هذا السياق من أجل تكثيف حياته السخية والمعطاءة ليغادرنا بأسرع مايمكن خفيفاً ومتسقاً مع ذاته ومرتاحاً من كل ثقالات المأزومين. والثابت أن فقيدنا كان متعدداً في مناشطه حتى إنني أكاد أراه في وقت واحد بنقابة الصحفيين واتحاد الأدباء ووزارة الثقافة وحزب التجمع ومنتدى الجاوي يتحدث بصوته المجلجل معلقاً بجدية على أية تطورات قبل أن يوزع ضحكاته المقهورة بكل زهو ممعناً في بهائه الانساني الأكثر من خلاب ومؤثر بالطبع . المعنى أن كل ضحكة من عمر محمد عمر كانت تؤكد لنا نحن أصدقاءه المقربين استمرار سويته الانسانية المبهرة في ثباتها القيمي، بالرغم من كل الظروف الكارثية غير الجالبة للمسرات الطبيعية في هذه البلد المنحدرة قيمياً بشكل لايوصف. على أنه عمر العدني جداً والصنعاني جداً واللحجي جداً والتعزي جداً والتهامي جداً والمهري جداً ... الخ. عمر المنشرح الذي استمر حتى آخر لحظة من حياته باعتباره المثقف اليمني “ «المفكود »حد الثمالة .. ارتبط اسمه بصحف الشورى والوحدوي والتجمع اضافة إلى مجلة الثقافة مداوماً على النشر لكل الأسماء الجديدة التي يشجعها ببساطته الصادقة الخالية من كل العقد - تماماً كما عرفته على مدى قرابة 15 عاماً - بينما كان وبامتياز مشهود صاحب اللعنات الجريئة على واقع السياسة الرديء في المقايل والأمسيات والصباحيات ، فضلاً عن أنه صاحب الأحاديث المهمة عن الشعر الجاهلي وقصيدة النثر وحال الرواية ، كما أنه صاحب التنظيرات الجيدة عن الفكر الإسلامي المعاصر والفكر اليساري اليمني بالذات. والحق أنني مازلت أراه بمنتهى هيئته الرائعة ، أي بترجرج كرشه والبنطلون الناطل والسيجارة في اليد المعكوفة وصلعته كثيفة الهموم والحشة الطرية جداً تخرج كخبز من تنور روحه الحلوة مكللاً بالضحك الملهم الذي ينطوي على الكثير من الدلالات الثقافية والسياسية أيضاً ما تميز به عمر محمد عمر كماركة لاتتكرر او يستطيع أحد تقليدها . هنا وأنا في حضرة اشتياقي العارم له أجدني أستعيد آخر قصائده التي تحمل عنواناً ملفتاً « سأستعيدني » على اعتبار أهمية حاجتنا كبشر لذلك الصنف الخصوصي من القصائد التي تعد خريطة لحياة أصحابها بكل ما تحمله الكلمة من معان ، كان الراحل قرأها على أصدقائه في منتدى الجاوي قبل شهور قليلة من رحيله، وتعد من ديوان معد لم ينشر بعد، نأمل أن يرى النور عموماً. «سأستعيدني الآن من لحظات بلا ملامح من متاهة الروتين اليومي، من جفاف العواطف.. سأحرر لغتي من رائحة الانكسارات وما تبثه الهزائم فينا سأحررني من ارتكاسات الزمن الرخو، غدر الصديق، عتاب الأحبة الصامت..وأعلن خروجي من الوقت الذي ملأ روحي بالكآبة فتنداح من داخلي التفاصيل الصغيرة -التفاصيل التي أهملتها طويلاً- وتعيدني إلى لحظة الفرح». [email protected]