في الثالث والعشرين من ديسمبر من كل عام تشرق في الذاكرة المغيبة بالهموم والأشجان صورة عمر الجاوي* الذي غادرنا إلى عالم الطمأنينة، تاركاً في عالمنا الأرضي ودائعه من مواقف وفكر وإبداع. ولا يمكن أن تمر ذكرى ذلك الفقدان المبكر عابرة إذ لم يكن الراحل الجاوي شخصية عابرة، بل قامة فذة تطاول حضورها البهي في مشاعر كل من عايشه أو قرأ له وعنه أو سمع الآخرين وهم يتحدثون عنه بفيض من الإعجاب والانبهار يسابق آهة الفقدان ويتغلغل في أنفاس التذكر الملتاعة. كمثل أية شخصية خلاقة يشدنا الجاوي إلى تأمل آفاق تجربته الإنسانية المتسعة وهي تتواتر في تعددية تعبيرية من حدودها الذاتية إلى تعالقاتها الإنسانية، إلى مجالات تشكلها في الرؤية والمواقف متعددة الآليات والصيغ. وإذا كانت الممارسة الشعرية واحدة من التشكلات الخصيبة لإشراقات شخصية الجاوي فإن تأمل هذه التجربة- بما لها من أفق تداولي خاص- هو ما ستحاول مقالتنا هذه الانشغال به، إعلاءً لشأن واحد من وجوه التألق لهذه الشخصية الإنسانية الكبيرة. لم يكن الأدب الرمزي في يوم ما حكراً على مساحة التعبير التي يضيق بها فناء أدائيته حتى ينغلق على حدود منهجية مبتسرة، قامت عليها (الرمزية) اتجاهاً أدبياً متميزاً. فقد تداول الأدب الإنساني الرمز، وعبر من خلاله عن الامتلاء القيمي وفاعلية التجسيد وعمق التأول. وربما تمد تلك الحالة وشائج تواصلها مع حقيقة مشخصة في الوجود الإنساني منذ مراحله الأولى، حينما سعى الإنسان إلى تمثل الأشياء من حوله، وإذ واجهه منها ما لم تستوعبه حواسه أو يقيم في وعيه علاقات وجود عقلاني، راح يشكلها رمزياً، ليكتنف ذلك كثيراً من مظاهر إدراكه وصيغ تأويله وتعاملاته، والقيم التي أسس لها مسافات تداول في حياته، لعل اللغة واحدة منها، فضلاً عن جملة إشارات وعلامات متواترة، أرست حضورها في آفاقه من معتقدات وتواصلات مع الأشياء والمحيط الخارجي، وتلك التأملات التي أنهض بها صلته بالحيوان والنبات، وفي تجسيده لمشاعره السعيدة والزينة، وحماسته للحرب والصيد واستجلاب قوى الطبيعة المختلفة، ليصبح لتكوينه الرمزي مساحة مؤثرة في الوجود الإنساني «فيما يمتزج الذاتي بالموضوعي ينبثق الرمز الذي يمثل علاقة الإنسان بالشيء... ويحقق الانسجام العميق بين قوانين الوجدان وقوانين الطبيعة». وربما أدرك المبدع الفنان ذلك الوجود الباذخ للرمز فاستبد به، حتى صار عنده مساحة لا حدود لانشدادها إلى اجتلاب التعبير الرمزي واستنطاق قيمه. إن كلمة مرمّزة يمكنها أن تفجر من الدلالات وتشرع أبواب التأويل إلى ما يخصب روح الإبداع ويصدح بانهمارهما الدلالي المثير، وهكذا صار من الرائع في جسد النص الإبداعي ألا يقول ما يريده مباشرة، بل أن يشف ويومض بما يكتنز من قيم، ليصبح الرمز طبقاً لرأي (هنري بريمون) «المعنى السري الذي يفيض أو يستقطر من الكلمات». وعبر المسيرة المتضخمة للحياة الإنسانية وما اندس فيها من الترهل والمباشرة، والنفعي سهل التناول، وجد المبدع الحديث، وهو يصطدم يومياً بذلك كله أنّ كوة الترميز تفضي به إلى مساحة خصيبة من التعبير الإبداعي الخلاق. وربما كان (السياب) قد جسد هذه القناعة لدى أدباء هذا العصر، حين قال مرة «لم تكن الحاجة إلى الرمز أمسّ مما هي اليوم، فنحن نعيش في عالم لا شعر فيه، أعني أن القيم التي تسوده قيم لا شعرية. والكلمة العليا فيه للمادة لا الروح. وراحت الأشياء التي كان بوسع الشاعر أن يقولها، وأن يحولها إلى جزء من نفسه تتحطم واحداً فواحداً، وتنسب إلى هامش الحياة. إذن فالتعبير المباشر عن اللاشعر لن يكون شعراً». وبعيداً عن خصوصية الوعي بالاتجاه المدرسي الرمزي، والرؤى التي أفصح عنها، فقد أمست آلية التداول الرمزي متاحة لكل من يبحث في الإبداع عن أكثر من التعبير الآني عن موضوعه، «فعوضاً عن أن يعبر الفنان أو الشاعر عن غرضه بالفكرة المباشرة، أي المعنى الفعلي التجريدي، وبما يعادله من الصور التشبيهية، يبحث عن الصورة الرمزية التي من شأنها أن تشير في النهاية إلى الفكرة والعاطفة»، ولا سيما حين يقيمها على توافق خلاق بين مشاعره والوجود الإنساني الذي يتواصل عاطفياً وإبداعياً معه. تلك مقاربة مبتسرة، يثير حضورها في الذهن ما بين أيدينا من نصوص شعرية للجاوي تأسست في معظمها على مساحة من التشكل الرمزي واستجابت لاشتراطاته، فيما نهضت عليه من قيم دلالة وتكوين أدائي متميز، وهو ما سيفضي بنا إلى مجادلة عدد من التساؤلات، تبدأ من عتبة خارج النص، أي من الوجود المشخص للمبدع في نصه، حيث يقف الجاوي- مثقفاً وإنساناً- في أفق التلقي له. فهل كان الجاوي رمزياً، بمعنى أن يفصح عن حدود وعي يتعالق مع هذا الاتجاه الأدبي؟ وهو ما يقودنا إلى الإجارة على سؤال سابق لسؤالنا هذا: هل كان الجاوي شاعراً؟ إذ لا يمكن الحديث عن انتماء مدرسي له من دون أن نتيقن من انعطافته إلى أفق الشعر. لكن التوسم اليقيني لحدود شخصية الجاوي في وعينا بوصفه رجل سياسة وموقف قبل كل شيء، سيمسك بتساؤلاتنا، لصنع إجابة سؤال آخر، سابق بالضرورة للسؤالين المارين: ما علاقة الشعر بالسياسة في شخصية هذا الرجل الذي احتشد وجوده الإنساني بمواقف تشهد له بحضور نبيل، وبيقينية مدركة لما وطّن عليه ذاته من قناعات وقيم بدت- في ترسمها المبكر للمغيّب من الواقع السياسي اليمني- ذات نزعة حالمة أو تأول إشراقي لطموح يحتكم حضوره إلى نبوءة مستقبلية لا تدرك إلا عند من امتلك باصرة صحيحة. اليقين بما آمنت به، كباصرة الجاوي. لقد انتمى الجاوي- كما بدا لنا في معظم ما كتبه هو، أو ما كتب عنه بعد وفاته-. في وجوده الفكري والسلوكي إلى جملة مبادئ، تشابكت كلها في حقيقة واحدة، لم يعرف عنه أنه تردد في الانتماء إليها أو تنازل عنها في موقف ما، تلك هي محبته لوطنه اليمن: «الوطن هو مملكة عمر الخاصة، حتى أني أتصور الوطن كان مقيماً وراحلاً في ذهنه، ما إن ينام حتى يغلق عليه أبواب نفسه». وصورة الوطن- اليمن- عنده مؤسسة على وحدته شعباً وتراباً كيقين مصيري ينشغل به وينافح عن حقيقته. وهو يتبتل في ملاحقة تأملية مجردة لهذه الصورة، بل أحالها إلى وجود مجسد على أرض اليمن الواحدة، فأسس اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين الواحد ليعلنه نموذجاً أول لرؤيته الوحدوية «ففي ظل وجود نظامين وسلطتين كان اتحاد الأدباء والكتاب الذي يقف الجاوي على رأسه يمثل نظاماً ثالثاً وسلطة ثالثة، هي سلطة المثقف». وكما رأى الجاوي وطنه موحداً في ضميره فقد اجتمع الناس على قناعة واحدة بشخصيته واحترام كبير لمكانته، فكان وحده الذي «اجتمع عليه اليمنيون على اختلاف المشارب والاتجاهات.. لأنه كما قال أحدهم: «الرجل الذي يزداد تألقاً كلما اتفقت معه وتعملقاً متى ما اختلفت معه». ولعل نزاهة الفكرة التي انقطع إلى تمثلها ذات بعد مؤثر في رسم صورة له، تجعله أشبه بفرسان القرون الوسطى وهو يحمل مبادئه ليطاعن عنها كل ما يخدش وجودها أو يقف في طريق إنجازها عياناً. وتترسخ بيقينية في وعي الجاوي، لتخرج به من وجود حسي لها، إلى المطلق من الأفكار: «الوطن في فكر الجاوي فكرة مطلقة مقدسة، صورة اليمن كفكرة تتحرك في تاريخ وفكر وعقل الجاوي، لا ينظر إليها إلا كلوحة نهائية موحدة». وبذلك لم يذهب بعيداً في التأول من رأى الجاوي ممسكاً بنزعة صوفية في وطنيته» الوطن عنده مقامات وحالات وأحوال شأنه مثل البسطامي والسهروردي والحلاج، لا تختلف عن حالاتهم ومقاماتهم إلا في انه يعلقها في أرض السياسة، وفي الحياة الواقعية القاسية والرافضة.. لم يقل بالحلول أو بوحدة الوجود وإنما قال بوحدة الوطن». ولعل هذه (الصوفية الوطنية) هي التي ستكشف مخبوءاتها في أفق إبداع الجاوي خارج إبداع الموقف السياسي: إبداع الكلمة التي كرس لها مساحة مهمة في صيرورة الوجود المعرفي والجمالي لشخصيته. فجاءت كتاباته «متسمة بالشفافية والحساسية في صياغاتها الكتابية والإنسانية، حتى حين تأتي محملة بإيقاع مشحون باللغة الهادرة والصوت العالي». لقد اتجه الجاوي- من ذات القيم التي أمسكت بتلابيب وعيه ومشاعره- إلى الكتابة، ليست الكتابة الصحافية والسياسية حسب، بل والإبداعية أيضاً، والشعرية خاصة، لكأنه وجد فيها ما يوائم رؤيته للمستقبل الذي يتصفح تشكله في صورة مشرقة التحقق. وهكذا تجسدت في شخصية الجاوي- وإن كان في حدود لم تسمح لها الظروف أن تبدو كاملة الإهاب- سمات لتبلور المعادلة النادرة بين الأديب والسياسي، وهما ينضويان في شخصية مبدعة واحدة. وعبر هذا التوحد يمكننا أن نتفحص منجزه الإبداعي (الشعري خاصة) الذي توافر بعضه بين أيدي المهتمين من خلال ما نشر له من نصوص شعرية أفصحت عن طبيعة الانشغالات والهموم التي اعتكف عليها صاحبها، فلم تكن تلك النصوص لتلتفت إلا لما هو وطني وإنساني في النبل وفيض الذات المؤمنة، وهي تعتق كلمتها من كينونة ضيقة إلى رحاب المعنى الإنساني الصافي. ولكن نصوص الجاوي الشعرية تلك، لم تستجب لمنهجية التعبير الواقعي التي يقودنا أفق التوقع إلى انتظارها من رجل سياسة مثله. إذ إن تمثلات قيم السياسة لا تأتي في الغالب عليها إلا في تشكل واقعي، يريد أن يمسك بحضور اللحظة ودلالتها، ليفجر معانيها في نسقه التعبيري. وليس فيما نقول هنا من مصادرة لجماليات الإبداع الواقعي ومنجزه الإنساني المهم، فنحن نشير إلى فروض الطاعة التي لا بد للسياسي أن يقدمها لرؤيته وهي تشكل إبداعاً، بما يغلب عليها من نفعية ووسيلة مبررة بالغاية التي يدعي النص الواقعي أنه يخاطبها ويعبر عن مشاعرها. إن ما نلمسه في الغالب على نصوص الجاوي، أنها جاءت بمسحة رمزية تعلوها وتتحكم بسياقها لتثير تساؤلنا عن طبيعة تلك التوجهات ومدى اقترابها أو مفارقتها لرؤيته السياسية، التي هي واقعية في المفترض والمحسوس من تشكلاتها. إننا لا نستغرب أن يكتب الجاوي الشعر ما دامت له تلك الخصوصية في الرؤية التي أنشدت إليها شخصيته السياسية، وهي تتمسك بقناعات، ربما بدت للبعض مثالية في واقع سياسي لا يناسبه إلا الخطاب الواقعي والمباشر المحض، بل ربما كان الجاوي سيثير استغرابنا حقاً لو أنه لم يكتب الشعر، وهو على ذلك الاحتدام الروحي الخلاق. ولكن مرتكز المساءلة هنا هو حول النزعة الرمزية التي استبدت بنصه الشعري. * أهي رمزية ثورية، كسرت القوقعة المذهبية لتنتج نصاً إنسانياً يحفل بدلالات اجتماعية، غالباً ما تنصل الشعر الرمزي عنها؟ * هل تمثلت هذه النزعة رغبة معرفية وذائقة شعرية تريد أن تكتب نصاً يغاير السائد من الشعر في اليمن وقتها؟ * أهي في جوهرها وعي خاص توافر عليه الجاوي للمذهب الرمزي فتمثله في نصوصه الشعرية؟ * أم هي رؤية ذاتية عرّفت نفسها وهي تتشكل من خلال الترميز، من دون تخطيط سابق لمرجعية مذهبية تنتمي إليها؟ هذه التساؤلات وغيرها ستظل ضاجة في الذهن، ولن نتواضع على شكل إجابة محتمة لها، ما دمنا لا نملك الأدلة على أي منها، فالجاوي- وحده الذي رحل وتركنا في مهب التساؤلات- كان القادر على الإيفاء بالإجابة اليقين. هوامش: - الموضوع مقتطف من دراسة مطولة للكاتب بنفس العنوان. *عمر عبد الله الجاوي شخصية وطنية وفكرية يمنية مهمة. ولد في العام 1938م في محافظة (لحج) وبها تلقى تعليمه الأساسي والثانوي، ثم سافر إلى القاهرة لاستكماله، وبعدها إلى الاتحاد السوفيتي السابق، حيث نال شهادة الماجستير في الصحافة والإعلام في جامعة موسكو، كما تقدم للحصول على الدكتوراه فلم يكملها إذ عاد إلى اليمن ليعمل في الصحافة والإعلام والتدريس ويعيش النضال السياسي لأبناء بلاده. وكان دوره أساسياً في إنشاء اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين الذي انتخب أميناً عاماً له مرات متتالية. وبجهوده الدائبة أعيد إصدار مجلة (الحكمة يمانية) لسان حال الاتحاد عام 1971م بعد أن كانت قد توقفت منذ الثلاثينيات. نشرت للجاوي كثير من الدراسات والمقالات الأدبية والسياسية في الصحف والمجلات اليمنية، ولا يزال الكثير من نتاجه الأدبي غير منشور. أصيب بمرض عضال عانى منه كثيراً حتى وفاته في الثالث والعشرين من ديسمبر عام 1997م. (1) الرمزية مدرسة شعرية ظهرت في فرنسا منذ العام 1885م، سعت إلى الوقوف بوجه الاتجاهات السابقة، لا سيما المدرسة البرناسية، وتهدف الرمزية إلى خلق شعر يكشف عن حياة الإنسان الداخلية بالاهتداء إلى توافق خفي بين صور العالم ووجدان الفنان. وهي ترى أن العالم بمجمله مجموعة من الرموز، غير أن الرمز في مفهومها ليس صورة تقام مقام فكرة مجردة بل هو ما يراه الإنسان الذي يحس بأن الأشياء تنظر إليه. وعلى صعيد البناء الموسيقي عمد الرمزيون إلى نظم أبيات غير متساوية في الطول والمقاطع، مطلقين الموجة الأولى من الشعر الحر، مخالفين قواعد العروض في مساعدة للشاعر كي يتحرر من البعد الزمني (ينظر: جبور عبد النور، المعجم الأدبي، ص 124.) (2) محمد فتوح أحمد، الرمز في القصيدة الحديثة، ص 23. وينظر مصدره. (3) روز غريب، النقد الجمالي وأثره في النقد العربي، ص 107. وينظر مصدرها. (4) بدر شاكر السياب، مجلة شعر، أخبار وقضايا، ص 111-123. (5) فايز ترحيني، الدراما ومذاهب الأدب، ص 218. (6) هذا ما يلمسه واضحاً الذي يقرأ نصوصه. قصة ما بعد أكتوبر، تساوينا، ابتهال، عودة الهدهد، محضر، (ينظر: مجلة الحكمة يمانية، العدد الخاص بتأبين الجاوي، ص 135-150). (7) فضلاً عن العدد الخاص من مجلة الحكمة يمانية، فقد صدر كتاب (عمر الجاوي قائد مسيرة الوحدة والديمقراطية والمساواة) كما كتبت عنه عشرات المقالات في الصحف والمجلات اليمنية جميعها. (8) قادر أحمد قادري، الوطن في عقل الجاوي، مجلة الحكمة يمانية، العدد الخاص، ص 60. (9) عبد الكريم الرازحي، عصا الجاوي وكراماته، ضمن كتاب، (عمر الجاوي قائد مسيرة الوحدة والديمقراطية والمساواة)، ص 14. (10) إسماعيل الوريث، حوله اجتمعوا وأجمعوا عليه، مجلة الحكمة يمانية، العدد الخاص، ص 7. (11) قادري أحمد قادري، ص 66. (12) الرازحي، ص 214. (13) قادري أحمد قادري، ص 60. (14) نشر له في العدد الخاص من الحكمة يمانية (ستة نصوص). وأشير في كتاب (عمر الجاوي قائد مسيرة الوحدة...، ص 5) «إن له أكثر من ديوان شعر غير منشور، ضمت قصائده منذ الخمسينات» ونشرت له في الكتاب نفسه ثلاثة نصوص أخرى.