حدّثني أحد المشتغلين بالسياسة قائلاً: بينما كنت في مكتبي منشغلاً بكومة الأوراق وزحمة الأحداث، إذ دخل عليَّ فجأة رجلٌ مبعثر الثياب زائغ النظرات.. جلس في المقعد أمامي بلا دعوة.. ونظر إليَّ ثم قال: يا أستاذ .. أريد أن أكون سياسياً. كدت أنفجر ضاحكاً لولا جدية محدثي واهتمامه.. نظرت إليه متأملاً ثم قلت له: ولماذا تريد أن تكون سياسياً؟! قال: أليس السياسي هو أكبر الناس مقاماً، وأكثرهم مالاً، وأعظمهم فخراً، وأكثرهم شهرةً ومكانةً، يملك القصور ويُحاط بالخدم والحشم والمواكب والمراكب؟. قلت له: نعم ، ولكن هل تريد أن تكون جلّاداً؟! أجاب مستغرباً: هه ولماذا أكون جلاداً؟! قلت له: لا فرق بين الجلادين والسياسيين، إلا أن أولئك يقتلون الأفراد، وهؤلاء يقتلون الأمم والشعوب. ثم هل تريد أن تكون كذاباً؟ قال: ولماذا؟، أجبته: الإنسان لا يستطيع أن يكون سياسياً إلا إذا كان كاذباً في أقواله وأفعاله، يُبطن مالا يُظهر ويُظهر مالا يُبطن، يبتسم في مواطن البكاء، ويبكي في مواطن الابتسام. وهل تريد أن تكون خائناً غادراً؟ قال: وكيف ذلك ؟!.. قلت له: كثيراً ما يسرق السارق ثم يرفع يديه متضرعاً إلى الله أن يرزقه الحلال حتى لا يتناول حراماً، وكثيراً ما يقتل القاتل ثم يجلس بجانب قتيله باكياً نادماً.. أما السياسي فلا بد أن يكون ما بين جنبيه قلباً متحجراً لا يقلقه بؤس البائسين ولا تزعجه نكبات المنكوبين، أسعد يومٍ له يوم يعلم أن قد تم له تدبيره في هلاك شعب أو قتل أمة.. يدبر الخيانة ثم يصورها انتصاراً تستحق الهتاف والتصفيق، ويغدر بأقرب المقربين له ثم يقعد متلقياً عزاءه .. وينثر الخراب والفساد ثم ينصرف لقصره فرحاً مسروراً بنجاحه.. وهل تريد أن تكون عديم الضمير فاقداً للإحساس والمشاعر؟! قال لي مندهشاً: وكيف ذلك؟! أجبته: وهل السياسي إلا رجلٌ قاسي القلب عظيم الدهاء والمكر؟! لا يقلقه بؤس البائسين ولا تزعجه نكبات المنكوبين.. صفحات تاريخه حروفها أشلاء القتلى.. ونقطها قطرات الدماء.. وأوراقها أوجاع الشعوب وأنين المظلومين.. نهض محدثي وخرج مسرعاً وهو يردد: لا أريد.. لا أريد.. ولما انصرفت من مكتبي ليلاً فتحت مذياع السيارة وإذا فيه إعلان عن شخص هارب من مستشفى المجانين، وإذا صفاته هي صفات محدثي.