الإسنادات المعنوية الكبيرة التي حظي بها جنود القوات المسلّحة والأمن في معركتهم «المقدّسة» ضد مسلّحي «القاعدة» والجماعات الدموية في أبين والبيضاء وشبوة خلال الأيام الماضية أثبتت أن ثمة خيطاً لم يزل يربط المجتمع بالمؤسسة العسكرية والأمنية باعتبارهما مؤسستين وطنيتين «مهما اهتزت صورتهما في وقت من الأوقات» ويمكن لهما أداء أدوار أخلاقية مهمّة حيال الوطن وأمنه، بعد أن قطعت الكثير من الحبال بينهما بسبب مركز الحكم الذي عمل «وضمن مخطّط قبيح» على مدى العقود الماضية على إفراغ هاتين المؤسستين من مخزونهما الانضباطي وجاهزيتهما القتالية، وقبل كل شيء من حضورهما الأخلاقي، وباعد بينهما وبين المجتمع حتى يستطيع إدارة منظومة الحكم في مساحة الولاءات التي تفضي في نهاية المطاف إلى تكثيف مركز القوة في الحاكم نفسه، والمستقوي بمثل هذ الولاءات «التي تكون في الغالب مناطقية وعائلية» مقابل الإضعاف المميت لبقية المؤسسات وعلى رأسها المؤسسة العسكرية بتكوينها الوطني المتنوع. والناظر إلى تاريخ المؤسسة العسكرية سيرى في أحداث أغسطس من العام 1968م المنعطف الأخطر في تاريخها حين تعرّضت للطلقة الأولى والفاجعة في نسيجها الوطني من قبل أعدائها الذين تسربلوا بلباسها الجمهوري، حين استطاعوا تهيئة الجميع للتنازع الطائفي من أجل التخلُّص من الطاقات الشابة الجديدة التي أعادت إلى الجيش قيمته الأخلاقية والقتالية أثناء حصار صنعاء ودحر القوى الملكية ومرتزقيها من على أبوابها، بعد هروب كل القادة الكبار منها الذين عادوا بعد فك الحصار من أجل إنجاز مثل هذا السيناريو «التآمري» الذي سيعقب باختراع قسم الفائض الذي سيتيح لهؤلاء مرة أخرى تحويل كل الضباط الجمهوريين غير المرغوب فيهم إليه. بعد التسوية الملكية الجمهورية في مارس 1970م برعاية إقليمية سيصار إلى تكوين أولى الخلايا العسكرية المنضمة إلى جماعة الإخوان المسلمين داخل الجيش وإليها سينضم مجموعة من الضباط الصغار الذين لعبوا أدواراً مزدوجة في الاحتراب الجمهوري الملكي بين 62 و1967، حين تولّوا مسألة التنسيق مع محاصري الخارج من القوى الملكية لضرب الأهداف داخل المدينة المحاصرة. بعد العام 1978م سيتقوى هذا الجناح بشكل لافت لأسباب عديدة منها أن الحاكم الجديد «علي عبدالله صالح» والمنتمي إلى ذات المنطقة التي ينتمي إليها أبرز الوجوه فيه سيمكنهم ضمن اتفاق اقتسام السلطة من السيطرة الكاملة على أهم المفاصل في الجيش والحكم على حساب قادة بقية الصف الجمهوري وبقية الضباط المحسوبين على مناطق تعز وإب الذين شُرّدوا بعد أحداث الحجرية مطلع العام 1978م. خروج الجناح العسكري الاخوا قبلي ومعه مليشيات الجبهة الإسلامية من أحداث المناطق الوسطى وعتمة وريمة وإب وتعز وحروبها «بأقل الخسائر» بعد تسوية العليين «صالح/ناصر» الأمنية التي راح ضحيتها العشرات من الحزبيين مدنيين وعسكريين زادت من استشراسه وتمكين الأقرباء من السيطرة على قيادة أهم الأسلحة في الجيش ومنهم اخوة الرئيس، قبل أن يُولّي أكبر أبنائه لاحقاً قيادة أهم التشكيلات العسكرية وقوى النخبة التي جهّزت بأحدث العتاد والسلاح. في المقابل سيتعرّض جيش «جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية» في يناير من العام 1986م لأكبر هزّة في تاريخه القتالي، أقلّها انقسامه الحاد بين الجناحين المتصارعين على السلطة، ونتج عن هذا التصارع تصفية عشرات الضباط والقادة؛ ولم ينجُ منها المثقّفون أيضاً. الطرف المنهزم في أحداث يناير بقواته العسكرية وبعض عتاده، سينتقل إلى شمال البلاد ليعود إلى الجنوب مجدّداً في حرب 94م ضمن تحالف عريض من العسكر ورجال الدين ومشايخ القبائل الباحثين عن مواطئ أقدام في خارطة الحكم الجديدة. المستهدف من حرب 94م سيكون ما تبقّى من جيش جمهورية اليمن الديموقراطي وحاضنته الحزب الاشتراكي اليمني والذي ستترتب عليها عملية تصفية وتقعيد لكبار الضباط العسكريين والأمنيين من الخدمة لتتخلّق في الشارع شريحة كبيرة من المسرّحين العسكريين والمدنيين الذين سيشكّلون النواة الأولى للحراك السلمي المنطلق في أوائل العام 2007، والذي سيستقطب الشارع الجنوبي إلى صفّه في غضون أربعة أعوام لتتحوّل قضيتهم بسبب عجرفة النظام ورأسه من معطى حقوقي إلى لحظة سياسية فارطة؛ ارتفع فيها منسوب سقف المطالبة إلى استعادة الدولة. بين 1994 و2011م ستجري مياه كثيرة في النهر؛ إذ ستتحوّل المؤسسة الواحدة إلى تكوينات هلامية متنافرة ذات ولاءات متعدّدة مناطقية وجهوية، لا تنظمها عقيدة وطنية متماسكة؛ وما سيعبر عن هذه الحالة تلك الروح الانهزامية التي رافقت معاركها مع القوات الاريتيرية على جزيرة حنيش في سبتمبر1995م وحروب صعدة الستة بين 2004 و2009م. انصرافات بعض قادة الوحدات والتشكيلات العسكرية في سنوات «الرخاوة الطويلة» إلى الإثراء من نشاطهم اللا قانوني خارج وظائفهم، من إعاشات الجنود البسطاء ومخصّصاتهم وحتى من العتاد الذي وجد طريقه إلى مخازن الجماعات المسلّحة والمليشيات الإرهابية وكذا استقوائهم بوظائفهم في عملية نهب الأراضي والتهريب وممارسة التجارة «بشقيها» أنتج صورة سلبية عن القوات المسلّحة في أذهان الجميع، لهذا رأينا كيف ثارت المعسكرات خلال العامين الماضيين ضد قادتها الفاسدين في عمليات تمرُّد لم تناظرها أية عمليات في تاريخ المؤسسة العسكرية خلال الخمسة عقود الماضية. تعدُّد الولاءات أسهم بشكل فاعل في انقسام الجيش بالعام 2011م، وضاعف من عمليات الاختراقات الفاضحة للمليشيات المسلّحة وجماعات العنف الدموي والإرهابيين للجيش، حتى صار لمراكز النفوذ من الواجهات العسكرية والأمنية أذرعها المليشاوية ولها أيضاً قاعداتها التي تتسلّح وتعتاش من مخازن ومؤن الجيش وتوقظها مع كل صفقة. الآن ونحن نستعيد بعض الأمل في هذا الجيش بجنوده البواسل، وقادته الميدانيين في معركة المجتمع «المقدّسة» ضد الإرهاب وجماعات العنف المسلّح؛ نتمنّى ألا نُخذل من جديد بتحويل انتصار هؤلاء الأبطال إلى كسب جديد لطرف من أطراف مراكز النفوذ المتصارعة، وإفراغ مثل هذه اللحظة من حلم الخروج من النفق الذي طالت إقامتنا في داخله..!!. [email protected]