الحروب المستعرة في صعدة وحجة وعمران وصنعاء والجوف بين الحوثيين وخصومهم القبليين و(المذهبيين) تؤكد يوماً بعد آخر أن الطريق معبد تماماً لصعود المليشيات المسلحة إلى الواجهة مستغلة ارتخاء قبضة الدولة وغالبا الفراغ المريع لأجهزتها في هذه المناطق. أما الحرائق المشتعلة في حضرموت وشبوة والضالع وعدن ولحج فهي بفعل شرارة التعبئة التي محت من أذهان الاتباع فكرة الدولة بمفهومها المكرس في مزاج الشمال. يكفي أن تتواجد في الشارع لأي سبب كان لترى كم هي الفوضى ضاربة في سلوك الناس بدءاً من المرور وانتهاءً بتقديم الخدمة العامة في المصالح والمرافق الحكومية والخاصة . تعظيم الفوضى وتكريسها كقيمة موازية للمعيش في حياة المواطنين واحدة من الطرق القصيرة التي تستجلب تعريف الدولة بأنها الوهم وأن حضرت بغير هذا الشعور الجمعي في الحدود الضيقة لا تتعدى ممارستها فعل الجباية أو الاستحكام المركزي بحاجات الهامش المفخخ بالفقر والعنف. لدى البعض قناعة أن الخضات الكبرى(على اعتبار الثورة المغدورة والمصادرة أنجزت مثل هذا الفعل) تُحدِث مثل هذه الارتدادات في الحياة العامة وأن الأيام كفيلة بإعادة الأمور إلى سياقها الطبيعي بقليل من التماسك والاصطبار ، غير أن البحث في الجذور سيكتشف أن التدمير الممنهج للمفاهيم القيمية طيلة عقود من ثمارها ما يحدث الآن . فغض الطرف عن ارتهان كبار الشخصيات من قادة عسكريين وموظفي دولة ورجال دين ومشايخ قبليين للخارج هو الذي يجعل من هؤلاء الآن يحاربون بالوكالة عن القوى التي ارتبطت مصالحهم بها. فالدخول إلى كشوف اللجنة الخاصة صار فعلا للتباهي والتميز ليس عند المشايخ والضباط أيضاً عند المثقفين والصحفيين الذين يستلمون فتاتا لا يوازي هرق كرامتهم على الأبواب، وفتح الخطوط مع طهران وضاحية بيروت الجنوبية قيمة أخرى للتكسب على طريق النضال ضد (الاحتلال) واستبداد الجارة والسلفية وجماعات التكفير! وحتى تقوى حكمها عمدت قوى الحكم التقليدية في صنعاء والقائمة على تآلف(ضباط الجيش والزعامات القبلية ورجالات الدين ورجال الأعمال الطفيليين) على تدمير كل شيء من شأنه أن يقود الناس إلى مساحة الرفض والتمرد عليها وعن القضية هذه سبق وان كتبت تحت عنوان (استثمارات الحاكم وحلفائه )وقلت : على مدى ثلث قرن استثمر النظام وأركان حكمه القبلي والعسكري وتحالفاتهما الواسعة في بنية المجتمع ، بذهنية حسبت لمستقبل العائلة اكثر من حسابها لمستقبل الوطن ،وتماسكه الاجتماعي لهذا كان تدمير الأساس الثقافي للذهنية العامة هدفا استراتيجيا لنشاطه المسعور، والمدخل لذلك كان التعليم ، فمن خلال إتاحة المجال للقوى التقليدية المحافظة بشعاراتها المتطرفة الإمساك بزمام التعليم وتحديدا بمناهجه الدراسية جعل من إنتاج ذهنية غيبية غير مبدعة سمه بارزة من سمات مخرجات التعليم التلقيني غير المسكون بقلق الأسئلة الكبرى. ولم تقف القضية عند هذه الحدود بل تجاوزها النظام إلى جعل إدارة العملية التعليمية نوعاً من التكسب الوظيفي والولاء الحزبي، فمدراء المدارس والمديريات التعليمية ،يتم اختيارهم بعناية من أجل أداء مهام محددة تخدم التوجهات السياسية الضاغطة لإفراغ التعليم من قوته الأخلاقية قبل الابتكارية، لهذا انتشرت ظاهرة الغش وبيع الشهادات لتغدو في المجتمع سلوكاً طبيعياً ومن يمارسها يصنف في خانة الشجاعة والرجولة التي لم تهب لغيره (احمر عين). من استثمارات النظام السابق أيضاً دأبه على إنتاج مراكز قوى مشيخية ، تتنافس وتتناحر مع مراكز قوى موجودة من أجل إضعافهما معا ليس حبا في إزاحتهما من المشهد السياسي وتأثيراته لصالح الاتجاهات المدنية وإنما للتمكن من السيطرة عليهما وتسييرهما في الاتجاه الذي يخدم مصالحه. النشاط التهريبي المهول (من والى اليمن) ظاهرة ارتبطت بالنظام، وكان الهدف منها إضعاف وتشتيت المراكز الاقتصادية للبيوتات التجارية والرأس مال الوطني المتراكم منذ عقود، وفي هذا الاتجاه عمد النظام أيضاً إلى إنتاج طبقة تجارية من المشايخ والقادة العسكريين المرتبطين بالعائلة ومركز القرار وبتسهيلات من الخزانة العامة (ورمى من ذلك تحقيق هدفين الأول إنشاء اتجاه تجاري قبلي لإزاحة الرأسمال المحسوب على المناطق غير (الشمالية) ، أما الهدف الثاني هو إشغال هذه القوى بالعمل التجاري والمقاولات وإخراجها من مساحة التنافس على السلطة). استثمارات النظام في المؤسسة العسكرية كان هو الآخر مساحة الولاء. فالمتابع لحالة الجيش سيرى مدى التأكل المريب في عقيدته العسكرية وولائه الوطني ،وانهدام روحه المعنوية والقتالية، بعد تسريح ابرز قادته الوطنيين المؤهلين والمحسوبين على الجنوب بدرجة رئيسية ومقابل ذلك عمل على تشكيل قوى نخبة فقط من اجل حمايته وحماية مصالحه واستيعاب شخصيات عائلية في مواقع قيادية فيها) المقاربات المعمقة لهذه القضايا وغيرها (التي لم تعد خافية على احد) ستتيح للباحثين بكل تأكيد الوقوف على واحدة من أخطر الإشكاليات التي جابهت المجتمع ووضعت سلمه الأهلي على كف الغيب جراء ممارسة السلطة الهوجاء من قبل مغامرين أخر ما يفكرون به هو الوطن وأبنائه. ) إذاً نحن أمام فراغ قيمي فاجع يعاد ملؤه بثقافة التوحش التي تعظمها اذرع القوة والعنف للعصبيات القبلية المناطقية والمذهبية، بواسطة ذات القوى المتحكمة ، من أجل إدامة الفوضى التي تعتاش منها في كل الظروف. انه زمن الفوضى والمليشيات فلا تستعجبون!! [email protected]