مكائد اليقين في فبراير الماضي زرت تعز، ومثل غيري لاحظت أنها تكابد من أجل التعافي مما لحق بها من تدمير منظم لقيمها المدنية وبأدوات من داخلها. وخلال الأشهر الماضية كنت أتابع أخبارها إلى درجة أن صورة (معتمة جداً) تضخمت بذهني عن حالة الارتكاسات التي تمر بها وتمس بشكل مباشر القيمة الجوهرية التي عرفت بها وهي المدنية وحواملها الثقافية ،وأن الأخيرة قد بدأت تترك تأثيراتها في حياة الناس لصالح القوى اللا مدنية التي انصرفت إلى تجريف وبشكل فج قيم التسامح والتعايش المدني ،واستبدالهما بالعنف والفوضى الممنهجين المتغذيين من إرادة اللاعبين الرئيسين في المركز وتمويلهم. بعد ثمانية أشهر أعود إلى تعز مسكوناً بذات الصورة ومهجوساً برعب وتداعيات اللحظة التي تلت حادثة مقتل الدكتور فيصل سعيد شقيق النافذ القبلي حمود سعيد المخلافي، وما شهدته المدينة من انفلات أمني، وتعديات على أملاك المواطنين من قبل مسلحين قبليين انتشروا في المدينة ينتمون إلى منطقة القتيل، ومسلحين قبليين يتبعون لجنة الوساطة الرئاسية التي حضرت إلى تعز لوقف ما ترتب عن الحادثة برئاسة شيخ قبلي نافذ يمت بصلة قرابة إلى أحد اللاعبين الرئيسين. نعرف جميعاً أن تعز مستهدفة منذ أكثر من نصف قرن من قبل القوى المحافظة «مشيخية ودينية» في العاصمة، لأسباب متعددة وعلى رأسها أن تعز انحازت منذ مطلع الستينيات لصالح الدولة الجديدة الحديثة وقدمت في سبيل ذلك آلاف الشهداء الذين انخرطوا في جيش الثورة المدافع عن الجمهورية الوليدة، وقدم تجارها الدعم اللامحدود في بناء اقتصادها الحديث، أما مثقفوها فكانت لهم الريادة في إنتاج صورة اليمن الجديد الخارج من كهف التاريخ. وكتبت في أوقات سابقة عن تأثيرات تعز في المسألة الوطنية وقلت إنها لم تقف في حدود الحضور الثقافي والاقتصادي، بل امتدت إلى البنية الديموغرافية للسكان شمالاً وجنوباً، وان عديد أشياء جعلت تعز تحضر بقوة في هذا الموقع منها: انتشار التعليم في أنحاء متعددة من المحافظة منذ وقت مبكر، أتاح للكثير من العائلات الدفع بأبنائها إلى المدارس ومُستوعبات التعليم الأخرى في المدن والأرياف. قرب تعز من مدينة عدن (البوابة الأكثر انفتاحاً طيلة عقود من القرن الماضي على الآخر والتحديث) سهل وصول أبناء تعز إليها والاستقرار فيها أو الانتقال عبر بحرها إلى العالم الأوسع الأمر الذي ترتب عليه خلق لحظة معرفية مختلفة عما ألف هؤلاء في قراهم، وهي المعرفة التي ستجعلهم لاحقاً يصطفون مع المشاريع التغييرية والتحديث «التحاق أبناء تعز بكثافة في صفوف الثورة والمقاومة شمالاً وجنوباً في الستينيات يؤكد ذلك». الكثافة السكانية وارتفاع نسبة المهاريين والمهنيين في أوساط السكان غير المتعلمين أو محدودي التعليم أدى إلى انتشار عشرات الألوف منهم في الداخل اليمني والخارج لاكتساب قوتهم واقتفاء سبل معيشهم ،بوسائل المكابدة والمثابرة، دون الالتجاء إلى الوسائل العنفية للحصول عليها. وقلت لهذه الأسباب وغيرها كانت تعز «كجغرافيا وسكان» ولم تزل تقفز إلى واجهة الأحداث مع أي خضة كبرى في البلاد بفعل تأثيراتها هذه، الأمر الذي يزعج ويقلق مراكز القوى التقليدية المحافظة التي عمدت طيلة عقود ولم تزل حتى الآن تعمل على جرها إلى مربعات اللاستقرار، فاستقرارها يقوض ويعطل من حضور وتأثير مراكز التكسب من الفوضى ومشاريع الانقسام. في ستينيات القرن الماضي مثلاً حاولت هذه القوى إلصاق تهم الطائفية والمناطقية بالقوى التعزية الشابة الحاضرة في المشهدين العسكري والسياسي التي دافعت عن الجمهورية وصنعاء أبان حصار السبعين يوماً ولم تكن أحداث أغسطس عام 1967التصفوية إلا تعبيراً عن النزوع المقيت للقوى التقليدية ضد القوى الجديدة القوى ذاتها بتحالفاتها السياسية والقبلية والجهوية تجر تعز الآن إلى مربع العنف من خلال عسكرة المدينة وأريافها وجرها إلى منزلق بعيد عن تركيبتها المدنية والثقافية. وفي محافظات ساخنة في الجنوب والشرق والغرب وحتى الشمال تقوم بالتعبئة المناطقية، وزرع الكراهية ضد أبناء تعز «من عمال وموظفين وحرفيين وحتى رجال أعمال» ورسمهم بأذهان البسطاء والأميين بانهم السبب الرئيس في نكبات مناطقهم وسلب حقوقهم، التي مارستها ولم تزل قوى التحريض نفسها. تعلم قوى المحافظة والتقليد بتحالفاتها (العسكرتا دينية) أن استقرار تعز يعني مدنية حضورها في الحياة العامة، والحياة السياسية في البلاد كلها وهو ما يشكل تقاطعاً حاداً مع مصالحها التي تقوم على مشاريع التدمير والإعاقة. وتعلم جيداً أيضاً أن ما يُمارس ضد تعز وأهلها هو نوع من عقاب متعدد على انحيازها إلى التغيير، وحضورها القوي في المعادلة الوطنية شمالاً وجنوباً. وفي زيارتي الأخيرة أحسست أن تعز تقاوم من أجل بقاء صورتها المنحازة إلى المدنية والتحديث رغم كل الممارسات والأفعال التي يراد بها أبطال مثل هذه الصورة وتدميرها في أذهان الناس، فارتفاع الصوت المناهض للانفلات الأمني والمطالبة بكف أيادي المليشيات ورفض جر الشباب إلى مربع الإدمان والجريمة المنظمة، والعمل على إزالة التشوهات الجمالية «بحملات النظافة وتجميل الحوائط» والمطالبة بتوفير الخدمات الأساسية وعلى رأسها مياه الشرب، وفضح المتاجرين بقضاياها والمتسببين بمشاكلها اليومية من المسئولين التنفيذيين ومن القيادات الحزبية «للإصلاح والمؤتمر» كلها مقدمات طيبة يمكن البناء عليها لإعادة تظهير وتنصيع صورة تعز الحقيقية. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك