كل ما يحدث اليوم في وطننا الحبيب من أزمات وإراقة دماء وفتن هنا وهناك, يدل دلالة قاطعة على أن الهوية الوطنية اختفت من قلوب وعقول وسلوك الكثير منا كأفراد وجماعات, في هذا الوطن. فالهوية الوطنية لا تعني فقط الانتماء للأرض المستقلة المحررة التي تعني الوطن, لكنها أيضاً مجموعة من القيم والأخلاق التي يجب أن تنعكس أفعالاً بما تعنيه من استقرار في الوطن والدفاع عنه والتقيد بنظمه واحترام قوانينه، كما أنها تعني الانتظام العام في المجتمع وفق مبدأ أخلاقي و ضمن نسيج مجتمعي متماسك، قائم على التعاون والمحبة واحترام العادات والتقاليد والأسرة والبيئة والتمسك بالقيم الدينية السائدة واحترام الرأي الآخر ومعتقده ووجهة نظره إن لم تمس القيم والنظام العام وسيادة الوطن .. الهوية الوطنية تعني أن نصون دماء أبناء هذا الوطن ونحرص على عدم إراقتها, وأن نقف صفاً واحداً في مواجهة كل من تسول له نفسه الاعتداء على حرمة دماء اليمنيين , وتهديد أمن ووحدة واستقرار هذا الوطن . الهوية الوطنية تعني قيام الدولة بواجباتها نحو المواطن، التي جاءت نتيجة عقد تاريخي معه، لذا فإن الإهمال أو التعالي أو الفساد الحكومي والإداري يضعف من نسيج المجتمع ومنعته ويضع الوطن في خطر النزاعات والفتن والضياع في ظل غياب هيبة الدولة وانعدام المسؤولية الوطنية، التي يقتضيها المنصب أو المركز في الإخلاص والولاء لخدمة الوطن والمواطن . ولاشك أن تعزيز الهوية الوطنية لا يفرض بقرارات فوقية فحسب، بل لا بد من تأصيل ثقافي وفكري ينبع من داخلنا أولاً , ثم يأتي بعد ذلك دور الأسرة ومؤسسات التعليم والثقافة والإعلام ومنظمات المجتمع المدني في غرس وتعزيز الهوية الوطنية لدى أطفالنا وأبنائنا وشبابنا وأبناء مجتمعنا ,والتي إذا ما تم توليها بالرعاية صارت هناك حالة تصالح مع النفس واتساق مع الذات، حين يشعر المواطن أن الهواء الذي يتنفسه يحمل نكهة موطنه، وليس ذلك من باب العاطفة ولكنه حق، فللأوطان نسيم يميزها عن غيرها، وحبل سري يربط أصحابها بها مهما باعدت بينهما الأيام، وبانقطاعه تنعدم حياة صاحبه وإن بقي بين الأحياء ..تعزيز الهوية الوطنية يأتي من إعلام لا يسعى وحسب إلى البحث عن رغبات الجماهير وإشباعها، بل كذلك معرفة ما تحتاجه وتقديمه. إعلام يُرفه ويُعلم ويُوجه ويُرشد ويُثقف ويُنمي الذوق.. إعلام يُعبر بأصالة عن واقع المجتمع وثقافته، دون السعي للتقليد الأعمى أو المسخ والتشويه.. إعلام يعبر عن ثقافتنا وقضايانا، بعيوننا لا بعيون غيرنا.. إعلام يلتف حوله أبناء جلدتنا، دون أن نجهدهم بالبحث عن غيرنا ونتركهم كالأيتام على موائد اللئام. تعزيز الهوية الوطنية يأتي عندما نتقن ما نقوم به من أعمال في سبيل رفعة الوطن وتقدمه، ومن خلال تحويل حب الوطن من كلمات نرددها إلى واقع نعيشه، فحب الوطن والانتماء إليه ليس تشدقاً بالأقوال, ولا يمكن التعبير عنه فقط من خلال برامج وأغان وأناشيد وفعاليات واحتفالات ومهرجانات في الأعياد والمناسبات الوطنية , لكنه إحساس فطري داخلي وسلوك فعلى يجب أن نجسده في كل جوانب حياتنا وواقعنا وتعاملنا مع مختلف قضايا الوطن، فالوطن هو المكان الذي نعيش فيه ويعيش فينا, وحب الوطن هو التفاني في العطاء لهذا الوطن والإخلاص له، وهو شعور الإنسان بولائه وانتمائه للأرض التي يقيم عليها ويشعر فيها بمحله وسكنه ورزقه وحياته وكرامته ، وهي أقرب الأشياء إلى قلبه. قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أن اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} (النساء:66) تعزيز الهوية الوطنية يتحقق عندما يشعر كل مواطن منا بأهمية دوره في بناء هذا الوطن وتنميته والحفاظ على وحدته وأمنه واستقراره , وعندما يخرج كل منا من عباءته الفكرية والمذهبية والحزبية والمناطقية ليحتمي بحمى الوطن، ويسعى من أجل تحقيق مصلحة الوطن العليا وكل أبناء الوطن، بعيداً عن أية مصالح شخصية أو حزبية أو مذهبية أو فكرية أو مناطقية ضيقة ، وختاما يمكنني القول، على كل فرد منا مهما كان مركزه ومجال وطبيعة عمله يعيش على تراب هذا الوطن ويستظل بسمائه أن يدرك جيداً أن الأوطان بأبنائها وأن الإنسان لا يكبر إلا بإكباره لوطنه، ولا عزة ولا كرامة له إلاّ بعزة وكرامة وطنه وأنه لا سبيل لتطور هذا الوطن إلا بتضافر جهود أبنائه وإخلاصهم في الولاء والانتماء له.. فالوطن هو الكيان الذي نحتمي به، وهو الأرض التي ولدنا ونشأنا وترعرعنا على تربته، وفيه نحيا ومن أجله نموت ، وأن الله استخلفنا على هذه الأرض لنعمرها ونبنيها ونشيد عليها مداميك الخير والنماء ونصونها بولائنا المطلق من أي تخريب أو استهداف، وإن من يخلدون بأعمالهم هم أولئك البارون بأوطانهم المخلصون لشعبهم المتوخون في أعمالهم الدنيوية ليس فترة وجودهم فيها، ولكن يعملون للأجيال القادمة.. مقدمين حبهم وولاءهم لوطنهم على أية مصالح دنيوية زائلة، عندئذ ستكون الهوية الوطنية العنوان الأبرز والأسبق لكل العناوين.