خلاص يكفي . نعتقدُ أن كل الأطراف قد فهمت بعضها البعض جيداً، إلى هنا ويكفي، ربّما أن الصورة اتّضحت كثيراً بكل ألوانها،بعيداً عن التجييش والتحريض والتعلُّل بالأسباب واستدعاء الماضي والأحقاد ، على الجميع التخلّي عن ذلك وفتح بوابات الأمل والتأمل الواعي في المشهد ،لا سيما وأن هناك فاتورة كبيرة دُفِعت وهناك أعداد كبيرة من الشهداء والجرحى الذين سُفِكت دماؤهم في أكثر من مكان وأكثر من مؤسسة ولم تجفّ بعد .وهناك - أيضاً - تاريخ طويل من الخيانات والمؤامرات والاغتيالات والدسائس والممارسات ،التي لم تعطِ يوماً أي أهمية لحياتنا ولحقوقنا ، ومستقبلنا ،بل عملت على إبقائنا في دوّامة من الاستلابات والمخاوف والأحزان . وقد حان الوقت لكي نتخلّص منها ونتحرّر من أسرها،ومن كل منطق ينمّي ويعزّز أدوات القوة والغلبة والتعالي على بعضنا، ومعه كل هذه المآزق والأزمات الحادة، الفكرية والمنهجية والسياسية التي نكابدها ونتكبّدها .. علينا - يا رفاق - من الآن وصاعداً - أن نجعل من الصعب سهلاً، ومن غير الممكن ممكناً.. ونفهم أن اليمن لا يمكن بعد اليوم أن يحكمها فصيل ،أو طيف سياسي وفكري وأيديولوجيّ وقبلي واحد، مهما كانت درجة قوته وثقته بنفسه وقدراته في تعزيزطموحه في الانفراد بالقرار من خلال نفي وتصفية وإقصاء الآخر. وعلينا أن نفهم - أيضاً - بأن بلادنا لم تعد قادرة على تحمُّل المزيد من المتاعب والانتكاسات والتآكل في النسيج الاجتماعي والسياسي الذي تعيشه .. نقول : الذي حصل قد حصل ،ومن غير الممكن أو المعقول تجاهله أو نكرانه، ونكران كل هذه الحقائق التي ضربت بقوة مشهدنا السياسي ورجّت واقعنا بكل عنفوان وحدّية، فهذا بحد ذاته يكفي لأن يفرض علينا استيعاب التحوّلات الدراماتيكية التي عصفت بحياتنا بهذا القدر، وفي ظنّي أن هذه مسالة بديهية تقودنا حتماً، إلى معرفة أين أصبنا وأين أخطأنا وأين تكمن مصالحنا العليا، فلنعتبر أن هذا كُلّه دافع لنا لتصحيح الاختلالات في مسارنا وعلاقاتنا..ومن شأنه - أيضاً - أن يعطينا مساحة واسعة لحُسن الظنّ ببعضنا والتواضع لبعضنا، فلا هذا الطرف - مثلاً - باستطاعته أن يمارس التعالي ، أو غرور الانتصار على الآخر، ولا ذاك باستطاعته الانتقام أو محاولة كسرمجرى التاريخ وتطويع الأشياء لنفسه. هناك دروس وتجارب كثيرة في حياتنا، نحن معنيون باستلهام العبر منها ، على سبيل المثال، وبعد كل ماجرى ، خلال السنوا ت الأخيرة ، أو قل العقود الأخيرة ، أصبح الكل يدرك تقريباً أن نتيجة الإقصاء والتهميش والظلم تؤدي للفتن وفقدان الانتماء وانعدام العطاء وتمزُّق نسيج التعايش، وأن رفض الحوار ، معناه عدم الإيمان بالآخر واعتباره جزءاً من الحقيقة ، وهذا يقود إلى كوارث على كافة المستويات . وتعلّمنا أن الوسيلة جزءٌ من الغاية ، وبالتالي من أراد أن يرفع ظلماً ويؤسس لشراكة ويبني دولة ، يجب أن تكون وسائله موائمة لفكرة وهدف بناء الدولة ، الدولة المدنية الناهضة القائمة على العدل الاجتماعي واحترام حقوق الإنسان وحق التعبير والمواطنة المتساوية. وبأي حال من الأحوال ينبغي أن لا يصل الأمر بأي منتصر إلى محاولة طمس الآخر والتشفّي به وإجباره أو تخييره بين أمرين ، إمّا الانحناء وتغيير ملامحه وقناعاته ، وإما النفي . وهناك أمر آخر يستوجب أن نعيه جميعاً ، وهو خطورة ارتباط الدين بالسياسة ،لأن السياسة تنحرف بالدين الحنيف عن مساره الصحيح وتحوّله لدى أصحابه إلى شِيع وطوائف، وفِرق ، وهذا بدوره يقود بالضرورة إلى الصراعات وسفك الدماء وإشعال الحروب وتناسل الإرهاب وانتشاره ،والتاريخ بل الواقع المعاش مليئان بهذا. على العموم ..كثيرة هي جولات المناقشات واحتفالات التوقيعات التي مررنا بها خلال السنوات الأخيرة، لكن مع الأسف الشديد هناك ثغرات هامة وحساسة لم ينتبه لها الكثير من المتوافقين ، أو أنهم ينتبهون لها ،لكن لا يتعبون أنفسهم للعمل بها. صحيح أن التوافق بحد ذاته مخرج وطريقة حضارية تقي من مآسي الفوضى والاقتتال ، لكن ما ينبغي فهمه في هذا السياق ، هو أن أي توافق يجب أن يكون مدروساً بدقة ،ومتوّجاً بشرعية، ولعل شرعيته هي صناديق الاقتراع، كحدّ أدنى على مستوى المحليات والبرلمان والشورى ، وهذه أشياء في غاية الأهمية ،وتمثل طريقاً آمناً وعقداً اجتماعياً مع العصر . كما ينبغي علينا أن لا ننفصل عن واقعنا وماضينا القريب والبعيد ،ولا نتوقف عندهما، ومن الأهمية بمكان - أيضاً - ألّا نُغيّب أنفسنا عمّا حدث ويحدث من حولنا وفي واقعنا، فهناك أشياء كثيرة جداً تغيرت وتبدّلت ، على سبيل المثال : الجيوش والأجهزة الأمنية لم تعد آلة قمع للشعوب في هذا العصر ، ومن غير المجدي التعويل عليها أو استخدامها في قمع الآخر المختلف معك في الرأي والفكر والطريقة، والمشترك معك في الأرض والمصالح العامة، وهنا يقول الكاتب العربي الكبير محمد حسنين هيكل « وظيفة الجيش ليست العصا وإنما المظلة ، والعسكرية لم تعد فن إطلاق النار». بقي أن أضيف وأقول من كل الذي حدث: علينا أن نستلهم الدروس ولا نُفرّط في أي فرصة تلوح في الأفق، لاستعادة كل الأشياء المفقودة والجميلة في حياتنا وتُساعدنا على ترميم جدران قلوبنا والاستعداد الكامل للشراكة في بناء هذا الوطن وإعادة الأمن إلى ربوعه وزرع الطمأنينة في أرجائه وجوانب نفوس أبنائه . تقريباً معظم المؤسسات المدنية والعسكرية في العاصمة صنعاء ، سُلّمت بصورة هادئة من مسلّحيّ جماعة الحوثي ،وهنا أكرر وأقول صادقاً : يكفي، لم يعد أحد بحاجة لأي مبررات وحجج واتهامات من تلك التي أرهقتنا، الناس ملّوا سماعها ،وهم اليوم بحاجة لأن يتجددوا بعض الشيء، وبحاجة ماسة لسماع أشياء ملموسة وجديدة - أيضاً - عن الأمل والتطلُّع ومستعدون لتشنيف آذانهم وفتح قلوبهم وعقولهم لسماع كمّ هائل من كثافة المنطق والواقعية والأخلاق والبرامج الصادقة التي لا تزعزعها أبسط المصالح والتحالفات والمؤثّرات. [email protected]