عجباً للناس؛ خصوصاً أولئك الذين يعيشون في قراهم مستورين لهم مساكنهم وإن كانت متواضعة ولهم فيها رزقهم يرزقهم الله تعالى كما يرزق الطير «تغدو خماصاًَ وتروح بطانا» لكن الكثيرين رفضوا ذلك القدر المتواضع من المعيشة وقرّروا الزحف نحو المدن، هكذا من دون علم ولا خبرة ولا مؤهلات أو تخطيط يساعدهم على ولوج أسواق العمل، تركوا الطين النظيف والصلصال النقي والسماء الصافية إلى موطن الخُلب الطينية الملوّثة بمياه المجاري وأكوام القمامة، تركوا أرضاً واسعة وحقولاً شاسعة وهواءً نقياً وشمساً صحيّة إلى «حواري» ضيّقة تكتنفها الرطوبة وشوارع موبوءة وأحياء أو حارات مكتظة بالأطفال والكلاب والقطط والمتسوّلين، تركوا الهواء ونسائم الصباح العليلة ليسكنوا في كراتين وأكشاك ودكاكين موبوءة وعُشش من الصفيح يحيط بهم هواء ملوّث بالدخان من عوادم المركبات وعفونة القمامة ووساخة الموالعة بالقات والتدخين الذين اعتادوا على نثر ما في أفواههم من عصارة القات أمام بيوتهم وفي الطرق لتلويث كل شبر، حيث تختلط هذه العصارات بأعقاب السجائر وعيدان الكبريت والمعلّبات الفارغة وقراطيس البسكويت والنعنع والشوكلاته ومعلّبات البيبسي كولا وغيرها من المشروبات التي تضرُّ بالمعدة وتلهب الأمعاء وتنكّد على القلب وتُرهق المخ والأعصاب وتبعث على البلادة والكسل والغباوة، ترك الناس قراهم في تضحية في غير مكانها، ضحّوا بالجمال لأنهم لم يجدوا من يزرع في نفوسهم ثقافة الاستمتاع بالجمال، وقبلوا أن يعيشوا في بيئات يعتريها القبح في مناظرها، فعاشوا وسط القبح لأنهم لم يجدوا من يزرع في نفوسهم معاني الذوق السليم والاستمتاع بالجمال، جاءوا يحملون سلوكيات فجّة وعادات متخلّفة وثقافة متدنية لكي يضيفوا رديئاً إلى رديء دون تدخُّل من دولة ولا هيئة من أي نوع تساعدهم في التعرُّف على مواطن الجمال ومواطن القبح، فيختارون الجميل ويرفضون القبيح. ترك الناس قراهم حيث تصدح الطيور وتغنّي البلابل وتشقشق العصافير فترتاح لسماعها النفوس وتطرب لها القلوب وتشرح أو تثلج لها الصدور، تركوا كل ذلك ليسمعوا أغاني كان بعضها يشبه “النعيب”..!!. ترك الناس قراهم ليُحرموا أنفسهم رؤية السماء وهي مرصّعة بالنجوم في القرى، حيث تتزيّن السماء بالنجوم والكواكب ويرى الناس المجرّات والسُّدُم، فماذا يرون في المدن غير أكوام القمامة أثناء النهار أو الدخان والمناظر المؤذية في الليل والنهار..؟!. إن عشق الإنسان للقرية والمناطق الريفية هو عشق للجمال والصفاء والنقاء، مناظر خلابة لا يملّها النظر ولا الحس الذواق للحسن والإبداع، فلقد اعتاد الناس الذين لم تصبهم لوثة السهر ومتابعة الأفلام والمسلسلات في المناطق الريفية التي وصلتها الكهرباء أن يستيقظوا مبكّرين يرتشفون فناجينهم من القهوة أو الشاي بعد صلاة الفجر، يغذّون أسماعهم بأصوات الطيور وصدح البلابل بعد صلاة الفجر في أوقاتها ويستقبلون هبّات النسيم المعطّرة بأريج الزهور وتشنّف آذانهم هفهفة الأوراق وتمايل الأغصان، يلامس النسيم المعطّر صفحات وجوههم؛ يداعبها فيكسبها نضارة ورقّة، فإذا جالت أبصارهم في الأفق البعيد قُبيل شروق الشمس؛ رأى الناس عجباً، رأوا رؤوس الجبال ترتدي حُللاً ذهبية من أشعة الشمس، ورأوا قمم أشجار النخيل تتمايل وأغصان الأشجار تتراقص، فتتمايل قلوبهم طرباً وتنتعش نفوسهم حُبورا،ً فتصفو وتنظّف من أدران الأحقاد والخلافات التي تصنعها الفضائيات الشيطانية والهابطة التي زرعتها الأحزاب والهيئات فوق رؤوسنا لبذر بذور الخلافات وتدمير العلاقات الإنسانية والوطنية والأسرية. وربما يقول قائل وله الحق فيما يقول : إن أهل القرى ليسوا أقل ضنكاً من أهل المدن فيما هم عليه من خلافات وضنك في العيش واعتلال في المزاج وتدنٍ في التفكير ورغبة في العدوانية وهتك للحقوق وجفوة للأرحام، نعم، ذلك موجود كلّه أو بعضه أو القليل منه؛ لأن أهل القرى أهملوا رؤية السماء في الليالي المظلمة ليروها وهي مرصّعة بالنجوم وتتزيّن بالكواكب والمجرّات والسُّدُم، فصارت أعينهم لا ترى سوى القمامة حول دورهم أسوة بأهل المدن الذين صار أهل القرى يقلّدونهم في مأكلهم ومشربهم وسهرهم. لقد تغيّرت أحوال أهل القرى إلى الأسوأ، لأنهم نقلوا حياة المدن وبؤسها وشقائها وعاداتها إلى قراهم، فصارت المرأة في الريف تنام حتى الظهر وقد كانت تستيقظ قبل الطيور والعصافير، وصار الرجل في القرى “كيس نوم” لا يعرف الليل من النهار..!!. فإذا أردنا الاستمتاع بجمال القرية وصفائها وحبورها وروعة الطبيعة فيها فلنعط القرية خصوصيتها، نرقد مبكّرين ونستيقظ مبكّرين ونستخدم الكهرباء في الأمور التي تنير قلوبنا لتكون قريبة من الله وليس في الأمور التي تنير دورنا وتظلم قلوبنا حتى لا نزداد بُعداً عن الله فنزداد ضنكاً وشقاءً وعجزاً وتخلّفاً. ومن ناحية ثانية، فنحن بحاجة ملحّة وشديدة إلى إقامة مشاريع تنموية واقتصادية وخدمات تعليمية وتربوية وثقافية من النوع الذي يقرّبنا إلى الله ويبعدنا عن الشيطان الرجيم الذي نراه يتسلّق أسلاك الكهرباء يستقبل الموجات الكهربائية لينفث كل ما تبثّه الفضائيات من سموم في قلوب النساء والرجال وعقولهم ليوقظ كل الرذائل، وينسيهم كل الفضائل..!! و للموضوع بقية.