آفاق فكرية «2» الحديث عن الهويّة من الأمور الشائكة التي تحتاج إلى دِقّة في التعامل مع المصطلح، فرغم أن الهويّة أمرٌ ملازم لنا لصق جلودنا ولا يمكننا الفكاك من هويّتنا مهما حاولنا، إلا أن تحديدها ليس بأمر هيّن، وتوصيفها لشعب معيّن لا يمكن بسهولة إلا بعد إعادة البصر كرتين أو أكثر حتى تتضح الصورة.. ظهر اسم اليمن في هذه المنطقة الجغرافية التي دالت عليها عدة دول قبل الإسلام خلال الامتداد التاريخي الطويل الذي لسنا في محل شرحه بتفصيله، لكن نعرف أن اسم سبأ كان الأشهر منها، طبعًا بجوار معين وقتبان وأوسان وحضرموت و أخيرًا حمْير، خلال تلك العقود الطويلة دخلت مكوّنات كثيرة إلى هذه الأرض، لعل أهمها مكوّن الدين والغزو. مكوّن الدين تعدّدت مكوّنات الدين لدى اليمنيين القدامى، بل صار لكل دولة مكوّن خاص، مع وجود مكوّن عام، حيث “احتوت النقوش اليمنية القديمة على أسماء عدد كبير من الآلهة، التي كوّنت ما يمكن تسميته اصطلاحًا بمجمعات الآلهة، في كل من سبأ، وأوسان، وقتبان، وحضرموت، ومعين، وكان الإله عثتر يقف على رأس كل مجمع من مجمعات الآلهة، إلى جانب الإله الرسمي، وآلهة الشعوب (القبائل) والمناطق المنضوية في إطار هذه المملكة أو تلك، وآلهة الحماية الخاصة بالأسر الحاكمة في الفترات التاريخية المختلفة، ويتكون مجمع الآلهة في سبأ من: (عثتر، هويس، ألمقه، ذت/حميم، ذت / بعدن) وفي قتبان من: (عثتر، عم، أنبي، حوكم، ذت/صنتم، ذت/ظهرن) أما في حضرموت فهو مكوّن من: (عثتر، سين، حول، ذت/حسولم)، وفي معين: (عثتر، ود، نكرحم، ذت/نشقم)”(1). كل هذه المسمّيات القديمة صبغت الهوية اليمنية بصبغتها الدينية التي كان “المكرب” هو النموذج لرجل الدين في دولة سبأ على سبيل المثال ومن الألفاظ الخاصة برجال الدين، لفظة “رشو” الواردة في النصوص المعينية والقتبانية، أطلقت على من كان يقوم بخدمة الإله “ود” إله معين الرئيس و“عم” إله شعب قتبان الرئيس، فهي في معنى سادن في لغة أهل الحجاز ووردت لفظة “شوع” في المعينية أيضًا في المعنى نفسه و“رشوت” “رشوة” بمعنى سادنه وكاهنة (2). ودخلت بعد ذلك الأديان الرسمية كاليهودية - شهدت البلاد تواجداً يهودياً منذ القرن الثاني للميلاد - والنصرانية “المسيحية” التي أدخلها الذين حكموا اليمن من التبابعة وغيرهم، لسنا هنا في مكان عرض التاريخ إلا مع ما يناسب الموضوع الأصلي، فهذه الأديان التي دخلت إلى البلد صبغت أهلها بصبغة خاصة وكوّنت جزءاً من الهوية الوطنية الشاملة “لأن الهوية هويّة شيء ما غير قابلة للإدراك إلا بوصفها حصيلة تراكم متجدّد، فما لا يكون في زمن جزءاً من مكوّنات الهويّة قد يصبح كذلك في زمن لاحق، وما كان من مكوّناتها أو من محدّداتها في زمن، قد يندثر مفعوله فلا يعود في جملة ما تتحدّد به هويّة الشيء” (3). فنجد هذه الأديان صبغتنا بثقافاتها حتى ولو لم نكن معتنقين معتقداتها؛ لأن التاريخ الطويل منذ دخول الديانة اليهودية - على سبيل المثال - اليمن، قد أفرز ثقافة تناقلتها الأجيال جيلاً بعد جيل. وما ظلّ في الذاكرة الشعبية عن محرقة الأخدود التي جرت في عهد ذي نواس الحميري، تلك الحادثة التي سجّله القرآن الكريم لا يمكن تناولها بمعزل عن الديانتين النصرانية واليهودية في اليمن. ومثل ذلك نقيسه على النصرانية، بالذات التي كانت في نجران، ولعل خبرها مع الرسول عليه الصلاة السلام في السنة التاسعة هجرية والكتاب الذي كتبه لهم (4). كل تلك المؤثرات لا شك صبغت الهويّة اليمنية بصبغتها ولوّنتها بلونها الخاص، فتشكّلت الهويّة التي تمسّنا اليوم. وقد يقول قائل: أين أثر النصرانية أو المسيحية علينا اليوم في هويّتنا اليمنية..؟!. أقول: ماذا عن هجوم الأحباش «دولة أكسوم» على اليمن في 525م..؟!. ألم تكن بسبب ما قام به ذو نواس ضد نصارى نجران في الأخدود..؟!. فكان غزو الأحباش لليمن نقطة انعطاف في التاريخ اليمني قبل الإسلام، وبعدها تملّك أبرهة الأشرم حكم اليمن وبناءه القليس - الذي بقيت آثاره إلى اليوم، أما الإسلام كديانة خاتمة لا أظن أن أثره في تشكيل الهويّة اليمنية - بل العربية كاملة - يخفى علينا؛ لأن هذه المعتقدات كلّها إحدى محدّدات الهويّة الأساسية؛ إذا لم تكن كلها مجتمعة، كما يقول محمود سمير المنير: «والهويّة دائماً جماع ثلاثة عناصر: العقيدة التي توفر رؤية للوجود، واللسان الذي يجري التعبير به، والتراث الثقافي الطويل المدى»(5). وللحديث بقية.. الهوامش: 1 آلهة اليمن من التعدّدية إلى التوحيد، خليل وائل محمد الزبيري، رسالة ماجستير غير منشورة، قسم التاريخ والآثار، في كلية الآداب، جامعة عدن، 2000م، ص:4. 2 المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، الدكتور جواد علي، دار الساقي، ط 4،2001م، ج 11، ص: 212-213. 3 عبدالإله بلقزيز- مفهوم الهوية في بُعد نسبي وتاريخي - جريدة الخليج يوم 20/4/ 2009م. 4 مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة، محمد حميد الله، دار النفائس،1987م، ص: 111-128. 5 العولمة وعالم بلا هوية، محمود سمير المنير، دار الكلمة للنشر والتوزيع، المنصورة، مصر، الطبعة الأولى، 1421ه - 2000م، ص: 146. رابط المقال على فيس بوك رابط المقال على تويتر