عام رحل وارتحل بكل ما فيه من محنٍ ومآسٍ ودموية.. وعام أقبل ولا ندري ما يحمله لنا في جعبته من مفاجآت وغرائب.. هكذا الحياة أيام وسنون وسويعات تمر مر السحاب.. تسرق أجمل أيام حياتنا.. وأنضر عنفوان شبابنا.. وأحلى ذكريات الصبا.. وتدور دائرة الزمان والمكان فلا يبقى الزمان ولا يدوم المكان. هي الأيام حبلى بالمفاجآت, ولا تدوم على حال؛ لأن الدوام من المحال.. ولكل لحظة ميلاد انطفاءة وانتكاسة.. وهذه سنة الله في خلقه وفي كونه.. عام يرحل وعام يقبل تتفاوت فيه الأذواق والرؤى والأحلام في كل شيء.. ولا ندري ما تخبئه لنا المقادير والمصائر؛ لأن الأذواق مواهب وعطايا وهبات قلما يدركها المحظوظون في هذه الحياة. فالنوازل والمحن والخطوب تنزل بالإنسان لتمحصه وتظهر معدن جوهره وأصالة أرومته وأصله وفصله وعراقة قيمه ومبادئه وأخلاقه ومدى حبه وإخلاصه لوطنه وشعبه.. فمنهم من تزيده تلك النوازل والمحن قوةً وعزيمةً وشكيمةً ورجولةً، ومنهم من يجزع ويتراجع ويخور ويطيش عقله ويضل سواء السبيل. قال بعض الحكماء: «رب محبوبٍ في مكروه، ومكروهٍ في محبوب، وكم مغبوط في نعمةٍ هي داؤه، ومرحومٍ في داءٍ هو شفاؤه، ورب خير من شر ونفع من ضر». هكذا شأن الدنيا دوام الحال من المحال.. ولا تبقى الحلاوة دائمةً ولا المرارة تدوم. عام أفل شمسه.. وأشرقت شمس عام جديد وفق القضاء والقدر؛ لأنها مأمورة من لدن حكيم خبير، والإنسان المؤمن إيماناً يقينياً بربه صابر محتسب على قضائه وقدره، وعليه أن يكون صابراً عند البلاء والضراء شاكراً وقت النعماء والسراء. فيا ترى ما حدث منذ عقود من فساد وإفساد عم البر والبحر سيعالج إصلاحه في سنة أو سنوات..؟! والقاعدة المشهورة تقول: «إن ما يبنى في سنة يهدم في ساعة». فإذا كان الهدم والتدمير قد أخذ عقوداً من الزمن وتغلغل في أعماق النفوس وجرى مجرى الدم من العروق.. فهل تظن أن هدم وفساد عقود من الزمن يصلح في عام أو عامين..؟! كلا والله.. بل يحتاج إلى عقود.. وعقود من الزمن.. وإن المسار طويل وشائك ولكن بالعزيمة والإصرار نواصل المشوار.. ولا نيأس من روح الله, فلا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون. وإن اللحظة التاريخية آتية لا محالة.. ولا يدوم منهج في الأرض يخالف طبيعة الفطرة البشرية.. مهما كان أعوانه وأنصاره ومناصروه. «أما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض»، وعلينا أن ندرك أن القوة والتعنيف والترهيب لا تولد إلا حقداً وكراهيةً وانتقاماً. يكفي جراحاتٍ وآلام ودماء العام المنصرم؛ الذي انتشر فيه المتقولون والمتشدقون والمتنطعون، والتبس على البسطاء والدهماء والسوقة من الناس أيهما على حق وأيهما على باطل..! فضاعت شعارات الحق وسط غبار وضباب شعارات الباطل.. وراح بعض المدعين والمتفيقهين يؤسسون لأفكار متطرفة ورؤى مشوهة وزائفة، تستقبل القبح استقبال الجمال والباطل استقبال الحق حتى ضاع صوت الحق في وسط ضوضاء وغوغاء الباطل. ولكن صوت الحق مهما كان مكبلاً سيأتي يوم يعلو فيه صوته ويشق عنان السماء.. إن العواصم من قواصم الفتن والمحن والأزمات والخطوب لا يكون بصولات الحديد والنار.. ولا بترويع وترهيب الآمنين في مساكنهم وقراهم ومدنهم بل يكون بالتمسك بحبل الله المتين نصاً وروحاً، سلوكاً وتطبيقاً، وقرآناً يمشي على الأرض عندما سُئلت زوجه عائشة عن خُلقه.. قالت: «كان خلقه القرآن». «ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما يُنزع من شيء إلا شانه».. دون ذلك ستظل السنون والأعوام والعقود حبلى بالمآسي والجراح إلى أن يشاء الله.. فهل لنا من عودة وأوبة قبل فوات الأوان.. ولله في خلقه شؤون..!!