كنت قد تحدثت قبل اليوم عن مساوئ العشوائية في المجال العمراني، ووصلت بالموضوع إلى أن البناء العشوائي يخلق شخصية عشوائية يعاني المجتمع من ويلاتها دون أن يستطيع الاعتراف بوجودها، أو بوجود الأسباب المؤدية لها. لكن بعد استطلاع قمت به قريباً واستهدفت فيه الشباب والأطفال عرفت أن الأمر أكبر وأعمق مما نتصور، فالأثر السلبي الذي يخلفه البناء العشوائي على الأطفال لا يمكن تخيله. ف الذي يحدث أن أصحاب العقار يستثمرون مساحة الأرض كاملة للبناء دون أن يبقوا جزءاً منها كفناء أو “حوش” يتم تشجيره وإعطاء الأطفال فرصة للعب فيه بدلاً من الخروج إلى الشارع. والأمر ذاته يفعله الجميع لدرجة أنه لا تبقى مسافة كافية للجوار كمحارم وممر للمنزل. هذه الأزقة الضيقة لم تأت إلاّ من قلوب ضيقة ونوايا أكثر ضيقاً، ولو أن الناس أحسنوا التوكل على الله واجتهدوا في تحري الصواب لأنعم الله عليهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم، لكنها الأطماع الزائفة التي نعتقد أنها ستحمي حقوقنا من الآخرين، فإذا بها تكون سبباً في زوال الحق وضياع أصحابه، والمسؤولية لا تعود فقط على صاحب المِلك، وإنما تعود أيضاً على الدولة بهيئاتها ومكاتبها التي وجدت خصيصاً لوضع المخططات الحضرية التي تحوي أماكن ترفيه للأطفال والشباب، مجرد مساحات مسورة تضع عليها الدولة بصمتها وتكسوها بالعشب وتجعلها مزاراً للأطفال الذين يبقون لساعات خلف قضبان الشبابيك يراقبون شروق الشمس وغروبها مثل نزلاء السجون! المسؤولون وضعوا أمامي مخططاتهم ورأيت فيها قطعاً أفلاطونية سكنية ليس لها مثيل، لكنهم أيضاً وضعوا أمامي عوائق التطبيق التي لا تحتاج إلا لدولة قادرة على فرض هيمنتها ولو اضطرت لاستخدام القوة.