أن تكون عربياً، مغترباً، منتمياً لإحدى بلدان ما يُسمّى بالربيع العربي.. ورطة وأن تكون مغترباً منتمياً لبلدٍ كاليمن ، يمن التاريخ المنتهي كحقبةٍ زمنية لا تزال قُدسيتها تهيمن على عقول السواد الأعظم من أبناء الوطن، ويمن الحاضر الذي تديره الأزمات والصراعات.. فالورطة أكبر. تبرز هذه الورطة حين تُباغت – الانسان اليمني- الظروف بوضعه في أصعب اختبارٍ يحدد اتجاه بوصلة انتمائه، ولمن يكون ولاؤه، سواءً كان مواطناً مقيماً، إلى جانب فقره وقلة حيلته، يجد نفسه ورقة يُتلاعب بها في الصراعات السياسية والطائفية التي لم يعرفها سابقاً، أو كان مغترباً يعاني الأمرّين، مرّ الإغتراب عن الأهل والأرض، ومرّ تعميم القبح والتخلف وما يخلفه من شعورٍ بالتحقير والإزدراء، حين يصطدم بنظرة شارع الاغتراب التي تُقيّمه وتتعامل معه بناءً على جنسيته أو على صورٍ مشوهة منقولة أو مختزلة في العقل الباطن، أو من خلال تعاملاتٍ سابقة سيئة السمعة مع بني جلدته، لتكون قاعدة عامة تُطبق على كل من ينتمي إلى جهته الجغرافية، فيُختصر تاريخها وبساطة أهلها في القات ، وتنظيم القاعدة ، والفقر والقبلية الرافد الأزلي للنزعات الثأرية والتصنيف الآدمي وما نتج عنها من إعاقات بات من العسير مداواتها أو بتر أعضائها المعطوبة، وغيرها من الصور المشوهة عن اليمن أرضاً وشعباً وسياسة عزّزت بعض وسائل الإعلام غير المسئول من ترسيخها بتركيزها على السلبيات ومكامن التخلف ، و إغفال الجوانب المضيئة إما عمداً أو تجاهلاً وانشغالاً بما يرفع نسبة المتابعة وما تدره من مكاسب عاجلة على حساب الآجل، وليس أمرّ من أن يُعامل الفرد خارجياً بحسب انتمائه لبلدٍ لم يُسمع من أصواتها إلا النشاز المحرضة على اقصائة أو اعتقاله وتجريده من حقوقه قبل التعرّف عليه كإنسان. ليسلك في سبيل ردّ اعتباره الذاتي والوطني طرقاً تنبئ أن ثمة جرعةً وطنية لم يتشرّبها وعيه بطريقة صحيحة. فثمة من يقف موقف المدافع عن الوطن الذي يُعرف بعاطفته وثمة من يعمد إلى تزكية نفسه بتخليصها من ورطة انتمائه بتأكيد حكم الآخر فيطعن في أهلية ووطنية من يعيشون داخل الحدود، وإذ كنا نتكلم عن الإنتماء كصدق شعور وتشارك فعلي، فلا نعني به تلك الشعارات التي يرددها من هُددت مصالحه الشخصية، فانحرفت أهدافه من الكل إلى الجزء، ومن الجماعة إلى الفرد ، أو تلك الضمائر الحية المناهضة للظلم ، المنادية بأحقية نيل المواطن اليمني حقوقه المشروعة في أرضه ، مما يحفظ كرامته ويصون آدميته. لكننا نعني به ذلك المواطن البسيط الذي لم ينل حظاً من التعليم المعرفي ، فلم يسعَ لاكتشاف المضامين وتحديد الدلالات الفلسفية للوطنية والانتماء والولاء، ولا يعنيه اختلاف الآراء حول تلك المفاهيم ، أكانت اتجاهاً وشعوراً، أو كانت حاجةً نفسية أساسية تبدأ معه مذ لحظة خروجه من ظلماته الثلاث وتظل في نموٍ مستمر إلى أن يُوارى الثرى. فكل ما يهمه هو ما يشعر به ، وهو ارتباطه النفسي والعاطفي بأرضه وتفاعله مع مكوناتها الطبيعية ، ومكنوناتها الإنسانية التي تغذيها التنشئة الإجتماعية وتقويها إما سلباً او إيجاباً تجاه الوطن – الأرض- وليس الوطن السلطة. ليس معيباً أن نعترف ، أن أحد أكبر المعوقات التي حالت بين – الإنسان اليمني – وبين تقدّمه وتفاعله مع معطيات الحاضر وتقبّله للنقد، إلى جانب الصراعات الحديثة في عصرنا الحاضر التي هي امتداد لصراعات قديمة، وهذا عرف بشري لا يمكن انكاره، هو اعتماده الكلي على مدخرات ماضٍ تليد، وتعامله معه كصكٍ متوارثٍ ، والنظر إلى الإرث التاريخي نظرة علوٍّ ورفعة خدّرت حواسه ومنعته من استشعار حقيقة الدورة الزمنية والتحولات البشرية، فعجز في تجاوز ماضيه ليواكب التحضر ، كما عجز في تعزيز تلك المكانة والإرث أو على الأقل المحافظة عليه. لكن المعيب هو أن تظل نظرتنا لذلك الوطن المكثف في لوحةٍ ذهنية تلوّنها جماليات الخيال العاطفي سبباً لرفضنا الاعتراف بالواقع المجسّد، مما سيُعسر ولادة الرؤية الواضحة التي تمكننا من تحديد هدف وجودنا لإنقاذ ما تبقى من وطن.