قبل أربع سنوات من الآن كان الوطن العربي يعيش حراكاً استثنائياً للغاية، بدا ذلك الحراك بالنسبة لأصحاب القرار حينها أنه نشوة ستنتهي بانتهاء مفعول ذويه، ولكنه في الوقت ذاته مثّل طفرة حقيقية عند أصحاب الرأي والسياسة. اشتعل الوطن العربي برمّته على وقع تلك الموجات الحراكية والتي أطلق عليها فيما بعد «الربيع العربي» كانت ميقظة لهمم الشباب ومفزعة لذوي القرار؛ وما بينهما كان عامة الناس يرقبون مجرياتها ومشاهدها المتتابعة متحيّنين الفرصة المواتية لحسم قرار التأييد. لا غرو إذن أن ينقسم الناس إلى فسطاطين مؤيد للربيع ومعارض له، تأييد أُلحق بإرادة جبّارة تحمل على عاتقها هم التغيير، ومعارضة عاتية تأبى التقدُّم الذي يأمله الآخرون وتخشى التدحرج في أتون المجهول الذي رُوّج له حينها. كانت الأوضاع ضبابية للغاية، تأبى الغمّة بالنسبة للمعارضين أن تنقشع ويظل ثقب النور تتسع فجوته بالنسبة للمؤيّدين، ولا مجال إطلاقاً لأن تكون بين الطرفين. وبعيداً عن تمحور التأييد وتهيج المعارضة؛ إلا أن ما يمكن إدراكه والتعامل معه كنتاج منطقي أحدثه الحراك العربي في عام 2011م هو أنه فتح آفاقاً لا حدود لها نحو فرضيات التغيير ومجابهة الظلم والاستبداد ونكران الفساد ودحض آلات الاستقواء ومواجهتها، مواجهتها سلمياً وتقييدها بانتفاضات موجّهة تؤتي أكلها وإن كان في ذلك ما يغيّر في مفاصل الدول وتكوينها العام. لا يمكن لذلك أن يحدث لولا تلك الموجات المتتابعة والتي أحدثت فوارق شاسعة في وقت قياسي للغاية، لذلك استنتجنا أننا كنّا بحاجة إلى مثل هذه الأحداث كي نتنبّه حقاً وندرك إدراكاً حقيقياً لما نحن فيه من التخلُّف الواسع النطاق. مفاهيم جمّة ومصطلحات عديدة تغيّرت ملامحها ومقاصدها في الأذهان، وأصبح الناس والشباب منهم خاصة يتعاطون مع واقع جديد فرضوا وقائعه بأنفسهم وبات لزاماً عليهم أن يحدّدوا ملامحه ويشاركوا في رسمها، بل ويتصدرون مشاهد ذلك الواقع الجديد حسب ما تمليه الاستحقاقات الطارئة نتاج ما حدث. إنه من الطبيعي أن يصبح للشباب باع طويل في تشييد أوطانهم ويشاركون في ذلك بكل فعالية ونشاط إحساساً بأهمية المطلوب منهم تجاه بلدانهم بناء على تلك الموجات التي نفضت غبار الماضي الموبوء بالاستبداد والتسلُّط. يُحسب حقاً لطلائع شباب التغيير في الوطن العربي منذ 2011م وحتى الآن أنهم هدموا حواجز الخوف لدى الناس وصنعوا إرادة لا تنكسر وعزماً لا ينتهي بل فتّقوا عقول الكثيرين للتعامل الإيجابي مع المجريات المستجدة، وما عشرات الآلاف الذين خرجوا يوم الأربعاء الفائت لإحياء الذكرى الرابعة لثورة ال11من فبراير في بلادنا إلا تأكيد حقيقي على ما سقته آنفاً. لست معنياً بأن أتحدّث عن مدى نجاح تلك الثورات أو الانتفاضات سياسياً أو اقتصادياً بقدر ما يعنيني الحديث عن حالة من الحرية أحدثتها تلك الثورات، حرية واسعة النطاق ولولاها لما وجدنا أن من يتوق إلى زمن التفرُّد بالسلطة وفرض الرأي يضيق ذرعاً بما يجري ويستميت في خلق الذرائع التي تشرعن له مواجهة تلك الحرية وقمع من يعتنقها ويعمل على نشرها وتوسيع نطاق مفعولها، ذلك المفعول الذي ستجني الشعوب ثماره مهما كانت المنغّصات والنكبات. إننا في زمن الحرية، زمن يتسيّده الأحرار وإن بدوا ليسوا متمكّنين، يبسطون أياديهم إلى الجميع ليتداركوا همّاً واحداً وهو هم المستقبل الذي وضعوا ملامحه عندما خرجوا للوهلة الأولى، هو ذلك المستقبل الذي سيأتي مهما بلغت التضحيات ومهما كلّف الثمن ومهما حجب الظلام النور، فإن ذلك المستقبل سيصل إليه ذوو الإرادة بعمق ما يؤمنون به وبصلابة أدواتهم العتية التي لا تعرف سبيلاً إلى الابتزاز ولا إلى التدمير وإحداث الخراب. سيجد الجميع أنفسهم غداً أمام ما كانوا يتطلّعون إليه وما كانوا يأملونه حينها سيدركون حقاً أنهم في زمن الحرية.