وأنا أفتّش في ركام الذاكرة عن موضوع للكتابة اتصل بي صديقي المهاجر للدراسة في بلغاريا يسألني عن آخر الأخبار في البلد؟، قلت له: يبدو أنك لا تقرأ ولا تسمع. فرد عليّ أنه يتابع كثيراً لكنه يريد أن يسمع ما عندي من أخبار.. حدّثته بما عندي عن أحوال البلد والناس وانعكاسات الأحداث على حياة العامة الذين وجدوا أنفسهم في معترك المعاناة بصورة إجبارية، وهذه نتيجة متوقعة في ظل الأزمات المتلاحقة. لكننا مازلنا نقول إننا بخير. كان مُلحّاً في أسئلته فلديه أهل وأحبّة هنا يخاف عليهم، ولديه وطن لا شك بأن له نفس المكانة وأكثر. مثل صاحبي هناك ملايين المغتربين اليمنيين في مشارق الأرض ومغاربها يهمهم أمر هذا البلد يسألون عنه ويخافون عليه، وترعبهم الأخبار القادمة عبر الفضائيات والمواقع الإخبارية. والذي يسمع ويقرأ وهو بعيد غير الذي يُعايش الحدث فيراه أهون مما هو في الأخبار. ملايين المغتربين يدفعون ثمن ما يجري بصورة أو بأخرى. سألني صاحبي عن تعزالمدينة التي درس فيها وعاش أجمل سنيّ العمر حسب تعبيره. قلت له: منذ أشهر لم أزرها لكني على تواصل يومي مع الأهل والأصدقاء هناك، وتعز كما تركتها في حضن جبل صبر لم تتزحزح من مكانها ، والقلعة شامخة كما كانت، ولم تزل المشاقر فوّاحة في خدود الصبايا.. ولم تزل شوارعها وأحياؤها وأسواقها بنكهتها المعهودة رغم كل ما تسمعه وكل ما تقرأه. ستبقى تعز مُمسكة بالكتاب والقلم، ولن تتخلّى عن مدنيّتها القادمة من قرون خلت، المدنيّة التي لا نقاش ولا جدال فيها. استودعني على أمل التواصل مرّات قادمة وقد تغيرت الأخبار وانتهى الجنون الذي تتناقله وسائل الإعلام عن هذا البلد. وبمناسبة الحديث عن تعز ومدنيتها أعود وأتذكّر أنني كنت في دمشق قبل سنين عدة، وفي صباح ذات يوم خرجت لأطوف الأحياء الدمشقية القديمة. وفي رحلتي تلك وجدت رجلاً مسنّاً ، اتضح لي فيما بعد أنه متخصّص في التاريخ والآثار ، تحدثت إليه في ساعات هدوء الصباح، ومن أول نظرة عرف أني من اليمن ثم سألني عن مدينة إسمها تعز، فسألته: هل تعرفها؟ قال إنه زارها في منتصف سبعينيات القرن الماضي، وأنه مازال يتذكّر الأيام التي قضاها في تعز، يتذكّر الأرض والإنسان.. وتحدث عنها بكلام لا يشبه الكلام عن مدنٍ اُخرى يعرفها. وبلسان التاريخ وخبرة المؤرّخ تحدث عن مدنيّة تعز، وكنا آنذاك لم نبدأ بالحديث عن المدنيّة مثلما نتحدهث عنها اليوم. المدنيّة ليست قراراً سياسياً ولا تبدأ من هناك.. المدنيّة مفهوم له علاقة بالإنسان والوعي، وبأساليب التفاهم بين الناس، وبغياب أدوات الحرب والعنف في الثقافة العامة.. المدنيّة بتعريف تعز هي علاقة بالكتاب والقلم، ثم يُضاف إليها كل ما يُساعد على تحقيق الأمن والسلام والتعايش بين الناس. وفي تعز تجد كل ذلك وأكثر.. ولأن المدنيّة ثقافة، فلا يمكن محوها بسهولة، ولا يمكن اقتلاع تلك الثقافة من جذورها الضاربة في أعماق التاريخ والمتأصلة في وعي الإنسان واستبدالها بثقافة مغايرة. تعز خاصرة الوحدة الوطنية ليس بما تملكه من سلاح، فهي لا تملك من السلاح الكثير، لكنها تملك سلاحاً من حبر وورق، وتملك وعياً يُدرك معنى الوحدة الوطنية بمفاهيم صحيحة، وحين يكون الوعي حاضراً تفشل كل المشاريع الخاصة وتنتهي كل الأحلام الهمجية.