- د. عمر عبد العزيز .. شكلت علوم القرآن الكريم مصدراً كبيراً لتخصيب العربية بالدلالات والمعاني القاموسية والتواشجات اللغوية مع الآخر الإنساني والحراك الفكري والمفاهيمي الواسع، حتى إن لغة العرب أضحت لغة العالم المتحضر في القرون التي تلت انتشار الإسلام وازدهاره، وكانت أوروبا القرون الوسطى الخارجة لتوها من غياهب الظلمات تتأسّى بالعربية وتدرّسها وتعتبرها مرجعاً لإجازة العلماء ورجال الدين والمفكرين. كانت البداية كما أسلفنا مع علوم القرآن التي تفرعت إلى التفسير فالكلام، والتفسير هو تقديم نص على النص الأول، أو محاولة لتفسير القرآن الكريم بوصفه مرجع المسلمين الأول والمنظم لحياتهم الدنيوية والرائي لما يلي تلك الحياة من ثواب وعقاب وبعث ونشور وجنة ونار.. ولأن القرآن الكريم نص إلهي لا يمكن استنفاذ معناه ومبناه فقد كان من الطبيعي أن يزدهر التفسير تنوعاً واجتهاداً وأن يصل إلى تخوم الكلام الأكثر استغراقاً في التفلسف واستعارة الأدوات المنطقية للفلسفات الإغريقية والهندية السابقة. علماء الكلام شكّلوا كوكبة المدافعين الجدد من شأن العربية؛ لأنهم طوعوا اللغة لمفاهيم ونظرات متجددة تبنتها الفرق المختلفة، واختلفت فيها إلى حد الحوارات العقيمة وخاصة المتعلق منها بالأمور الغيبية التي كان القرآن الكريم قد نبّه منها في أول سورة البقرة، قال تعالى: "ألم، ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين، الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، الذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون.. أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون". في هذه الآيات القرآنية إشارات هامة لجملة من المسائل المتعلقة بعلوم القرآن، والمتعلقة بالمنهج الإسلامي في النظر للعلم والمعرفة.. وحتى نتبين هذا الأمر سنلجأ إلى وقفات قصيرة لدلالات قرآنية محددة حول مسائل الغيب واليقين والآخرة. القرآن كتاب هدي وإرشاد، وبهذا المعنى فإنه ليس كتاباً علمياً (إبستيمولوجيّاً) بل هو مجال واسع للنظر والتأمل في آيات الله الظاهرة.. ولهذا حذّر القرآن الكريم من الجدل الأشبه بحوار الطرشان.. قال تعالى: "وكان الإنسان أكثر كل شيء جدلاً".. وقد انصرف علماء الكلام لهذا النوع من (الجدل البيزنطي) الذي أسفر عن خلافات عميقة في أمور غيبية يفترض التسليم بها وعدم تنكّب مشقة الإجابة عنها وعن تفاصيلها، ولهذا أخطأ أصحاب الكلام والرأي، فيما أفلح المؤمنون القابلون بالغيب يقيناً لاجدال فيه. [email protected]