عبد المجيد الزنداني.. حضور مبكر في ميادين التعليم    شاهد ...اخر رسالة للشيخ الزنداني قبيل وفاته بساعات ماذا كتب بوصيته؟    إصابة مدني بانفجار لغم حوثي في ميدي غربي حجة    رئيس كاك بنك يبعث برقية عزاء ومواساة لمحافظ لحج اللواء "أحمد عبدالله تركي" بوفاة نجله شايع    مليشيا الحوثي تختطف 4 من موظفي مكتب النقل بالحديدة    القصاص ينزل من سماء تعز: إعدام قاتل بعد تحقيق العدالة لأولياء الدم    البرق بتريم يحجز بطاقة العبور للمربع بعد فوزه على الاتفاق بالحوطة في البطولة الرمضانية لكرة السلة بحضرموت    بارتي يشعل الحماس في صفوف ارسنال قبل مواجهة توتنهام    مستشار في الديوان الملكي وعضو هيئة كبار العلماء بالسعودية يقدم واجب العزاء في رحيل الزنداني    24 أبريل.. نصر تاريخي جنوبي متجدد بالمآثر والبطولات    شكلوا لجنة دولية لجمع التبرعات    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    نبأ عاجل من الديوان المليكي السعودي بشأن الملك سلمان بن عبدالعزيز بعد دخوله المستشفى    ضربة موجعة لجماعة الحوثي.. تحركات مكثفة للصين في عدن على كل المستويات!.. ماذا يحدث؟    قناة mbc تفتح النار في تقرير لها على الشيخ "الزنداني"    كأس إيطاليا.. يوفنتوس يتأهل إلى النهائي رغم خسارته من لاتسيو    حزب السلم والتنمية يعزي الإصلاح وأبناء فقيد اليمن الكبير الشيخ الزنداني ويسرد مناقبه    رئيس رابطة الليغا يفتح الباب للتوسع العالمي    يوكوهاما يصل لنهائي دوري أبطال آسيا    وزارة الداخلية تعلن الإطاحة بعشرات المتهمين بقضايا جنائية خلال يوم واحد    رئيس الاتحادين اليمني والعربي للألعاب المائية يحضر بطولة كأس مصر للسباحة في الإسكندرية    تحالف حقوقي يوثق 127 انتهاكاً جسيماً بحق الأطفال خلال 21 شهرا والمليشيات تتصدر القائمة    صحيفة مصرية تكشف عن زيارة سرية للارياني إلى إسرائيل    برشلونة يلجأ للقضاء بسبب "الهدف الشبح" في مرمى ريال مدريد    الذهب يستقر مع انحسار مخاوف تصاعد الصراع في الشرق الأوسط    المهرة يواصل مشاركته الناجحة في بطولة المدن الآسيوية للشطرنج بروسيا    خبير أرصاد يحذر: منخفض الهدير في اليمن ليس الأول ولن يكون الأخير (فيديو)    تحذير حوثي للأطباء من تسريب أي معلومات عن حالات مرض السرطان في صنعاء    تغير جديد في أسعار صرف الريال اليمني مقابل العملات الأجنبية    بشرى سارة للمرضى اليمنيين الراغبين في العلاج في الهند.. فتح قسم قنصلي لإنهاء معاناتهم!!    ترتيبات سعودية عمانية جديدة بشأن اليمن.. وجولة مفاوضات مرتقبة بين السعودية والحوثيين    دعاء قضاء الحاجة في نفس اليوم.. ردده بيقين يقضي حوائجك ويفتح الأبواب المغلقة    رشاد العليمي حاقد و"كذّاب" تفوّق على من سبقه ومن سيلحقه    «كاك بنك» فرع شبوة يكرم شركتي العماري وابو سند وأولاده لشراكتهما المتميزة في صرف حوالات كاك حواله    قيادة البعث القومي تعزي الإصلاح في رحيل الشيخ الزنداني وتشيد بأدواره المشهودة    «كاك بنك» يكرم شركة المفلحي للصرافة تقديراً لشراكتها المتميزة في صرف الحوالات الصادرة عبر منتج كاك حوالة    نزوح اكثر من 50 الف اثيوبي بسبب المعارك في شمال البلاد    أعلامي سعودي شهير: رحل الزنداني وترك لنا فتاوى جاهلة واكتشافات علمية ساذجة    كان يدرسهم قبل 40 سنة.. وفاء نادر من معلم مصري لطلابه اليمنيين حينما عرف أنهم يتواجدون في مصر (صور)    الاعاصير والفيضانات والحد من اضرارها!!    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و183    السعودية تضع اشتراطات صارمة للسماح بدخول الحجاج إلى أراضيها هذا العام    مؤسسة دغسان تحمل أربع جهات حكومية بينها الأمن والمخابرات مسؤلية إدخال المبيدات السامة (وثائق)    دعاء مستجاب لكل شيء    من هو الشيخ عبدالمجيد الزنداني.. سيرة ذاتية    مستشار الرئيس الزبيدي: مصفاة نفط خاصة في شبوة مطلبا عادلًا وحقا مشروعا    مع الوثائق عملا بحق الرد    لماذا يشجع معظم اليمنيين فريق (البرشا)؟    الزنداني يكذب على العالم باكتشاف علاج للإيدز ويرفض نشر معلوماته    الدعاء موقوف بين السماء والأرض حتى تفعل هذا الأمر    الحكومة تطالب بإدانة دولية لجريمة إغراق الحوثيين مناطق سيطرتهم بالمبيدات القاتلة    لحظة يازمن    بعد الهجمة الواسعة.. مسؤول سابق يعلق على عودة الفنان حسين محب إلى صنعاء    المساح واستيقاف الزمن    - عاجل فنان اليمن الكبير ايواب طارش يدخل غرفة العمليات اقرا السبب    وفاة الاديب والكاتب الصحفي محمد المساح    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    وزارة الأوقاف تعلن صدور أول تأشيرة لحجاج اليمن لموسم 1445ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لم يهلك.. ترك مثل مالك : التاريخ يقف إجلالاً لأقيال اليمن وخطبائها.. وشعرائها
هذا هو تاريخ اليمن ( الإرهاص )
نشر في الجمهورية يوم 24 - 12 - 2006


- د. عبد الله علي الكميم ..
ولمزيد من البرهنة على شاعرية اليمانيين «عصر ما قبل الإسلام» نسوق هنا ترجمة لكوكبة أخرى من أولئك النجباء الذين عاشوا عصر ما قبل الإسلام بزمن طويل وبعضهم بالقرب من انبلاج شفقه وبعضهم ممن عاشوا الفترتين فتخضرموا ولاشك أنهم قد قالوا شعرهم وصاغوا خطاباتهم وحكمهم وأمثالهم باللغة الفصحاء أو (المتينة) هذه التي نتكلمها اليوم لأنها كانت ولا تزال لغتهم كما أثبتنا ونثبت هذا لاحقاً أما كتاباتهم فقد كانت بالمسند والجزم معاً إلا أنهم تفردوا بالمسند كميزة لهم.
ويكفي أن نشير هنا إلى أن كتاب الإنجيل قد كتب بخط الجزم هذا في اليمن عام 520م قبل مولد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخمسين عاماً كما أوحت رسائل بعض نصارى نجران إلى إخوان لهم من الغساسنة. على أني أؤُكد هنا أن هؤلاء المترجم لهم هنا ما هم إلا قطرة من مطرة إذا ما نسبوا إلى شعراء وخطباء وحكماء اليمن في العهود القديمة. لإقناع من لم يقتنع بعد.
تراجم بعض الشعراء والخطباء والحكماء اليمانيين المعمرين من الجيل الأقدم المعمرين
قال: فولى العبسي هارباً عنه وناداه الهميسع، فلم يلتفت إليه وولى وهو يقول: قاتل الله أخا عاد ما أجسره! قال فهم الهميسع أن يفر ثم حمل نفسه على الأصعب ومضى حتى بلغ إلى باب هو أعظم هولاً وأشد وحشة، وعليه نقش بالقلم الحميري فقرأه الهميسع فإذا فيه مكتوب:
قد كان فيما قد مضى واعظ
لنفسك البينة المسمعه
إن جهل الجاهل ما قد أتى
وكان حيناً قلبه في دعه
فدخل الباب الثالث فسمع دوياً عظيماً كالرعد وهدة عظيمة، فبينما هو كذلك إذ برز إليه تنين أحمر العينين فاتح فاه، فلما رآه الهميسع رجع هارباً خلفه فسكن حس التنين، فوقف العادي وقال في نفسه قد رآني ولو كان حيواناً لم يدعني. وما هو إلا طلسم، فرجع له ثانية حتى ظهر له فسار نحوه فسمع له دوياً عظيماً فهرب فأقبل يسمع الدوي فإذا هو في رجوع التنين كما قاله في إدْبَارِه فعلم أنه طلسم، فأخذ حذره من صدمته وأقبل يمشي قليلاً، ويخفف وطأ قدميه حتى وضع قدمه في موضع فتحرك التنين ودوى، فأخذ قدوماً كان معه فحفر على الموضع حتى ظهرت له سلاسل على بكرات فأجنه الليل فأسرع الخروج الكهف، وجمع حطباً من الغيضة فأضرمها ناراً وبات عند باب الكهف، فلما غشيه ظلام الليل سمع بكاءً وحنيناً داخل الكهف، فلم يزل ينتظر ويرتقب وينظر حتى نظر إلى نار عظيمة خارجة إليه من داخل الكهف، فلما رآها لم يبرح من موضعه حتى غشيته فصبر لها فلم تؤلم فيه شيئاً، ثم أتته أخرى ثانية أكبر من الأولى فصبر لها كذلك، فلما مالت عنه أخذ مقباس النيران التي أضرمها وأقبل يضرب بها حيطان الكهف يميناً وشمالاً حتى سمع نداء من داخل الكهف يهتف. يا هميسع لا حاجة لنا في دخولك فأقام حتى أصبح فدخل باب الكهف إلى أن وصل إلى الباب الذي رأى فيه التنين ثم حفر على بقية حد التنين حتى قلعه. وسقط التنين فسار إليه فقلع عينيه فإذا هما ياقوتتان حمراوان لا قيمة لهما وسار حتى انتهى إلى باب هو اعظم هؤلاء وأشد وحشة فلما هم أن يفتحه سمع دوياً عظيماً وبدا له أسد عظيم فرجع أيضاً إلى خلفه فرجع عنه الأسد بدوي عظيم فحفر على موضع حركته كما صنع بالتنين حتى أبطل حركته.
وقلع عينيه فإذا هما ياقوتتان حمراوان لا قيمة لهما ثم دخل الباب فإذا هو بدار عظيمة وفيها بيت في وسطه سرير من ذهب عليه شيخ على رأسه لوح من ذهب معلق وسقف البيت مرصع بأصناف اليواقيت وعلى رأسه في الحائط لوح من ذهب فيه مكتوب. وأنا شداد بن عاد عشت خمسمائة عام، وافتضضت فيها ألف بكر، وقتلت ألف مبارز، وركبت ألف جواد من عتاق الخيل) وتحته مكتوب:
مَن ذاك يا شداد عاد أصبحت
آماله مهزومة الأقدام
يا من رآني إنني لك عبرة
من بعد ملك الدهر والأعوام
فكأنني ضيف ترحل مسرعاً
وكأنني حلم من الأحلام
احذر تصاريف الزمان وريبه
لا تأمنن حوادث الأيام
هلا يضرك من كلامي مرة
يا ساكن الغيضات والآجام
قال: ثم ملت إلى الركن الذي عن يمينه فإذا هو سرير من ذهب وعليه جاريتان فوق رأسيهما في الحائط لوح من ذهب أو قال من عاج فيه مكتوب: (أنا حبة وهذه لبة بنت شداد بن عاد، أتت علينا أزمان أنفقنا فيها الطارف والتليد على عبيدنا، ثم طلبنا صاعاً من بر بصاع من در فلم نجده، فمن رآنا فلا يثق بالزمان، وليكن على بيان، فإنه يحدث العز والهوان). قال: فأخذ الهميسع الألواح وما بالبيت من در وجوهر وياقوت وخرج .
4- الحرث بن كعب المذحجي
كان الحرث هذا خطيباً فصيحاً طويل الباع في البلاغة وكان حكيماً. عالياً شأنه. وقد عمر طويلاً وترك أثراً كبيراً في الناس كما يترك أمثاله من الحكماء يروي السجستاني أنه جمع أولاده حين حضرته الوفاة وقال لهم: (يا بني قد أتت علي ستون ومائة سنة ما صافحت بيميني يمين غادر، ولا متعت نفسي بحلة فاجر، ولا صبوت بابنة عم ولا كنة، ولا طرحت عندي مومسة قناعها، ولا أبحت لصديق بسر، وإني لعلى دين شعيب النبي عليه السلام، وما عليه أحد من العرب غيري، وغير أسد بن خريمة، ومتمم بن مر. فاحفظوا وصيتي وموتوا على شريعتي. إلهكم فاتقوه يكفكم الهم من أموركم ويصلح أعمالكم. وإياكم ومعصيته حتى لا يحل بكم الدمار، وتوحش منكم الديار.... يا بني كونوا جميعاً ولا تفرقوا فتكونوا شيعاً، وبُزوا قبل أن تُبَزوا، وإن موتاً في عز خير من حياة في ذل وعجز، وكل ما هو كائن كائن، وكل جمع إلى تباين، والدهر ضربان فضرب رخاء وضرب بلاء، واليوم يومان فيوم حبرة وكائن عبرة، والناس رجلان فرجل معك ورجل عليك.... وزوجوا الأكفاء، وليستعملن في طيبهن الماء، وإياكم والورهاء فإنها أدوأ الداء. وتجنبوا الحمقاء فإن ولدها إلى أفن يكون، ألا إنه لا راحة لقاطع القرابة. وإذا اختلف القوم أمكنوا أعداءهم منهم. وآفة العدد اختلاف الكلمة، والتفضل بالحسنة يقي السيئة، والمكافأة بالسيئة دخول فيها. وعمل السوء يزيل النعماء، وقطيعة الرحم تورث الهم، وانتهاك الحرمة يزيل النعمة، وعقوق الوالدين يعقب النكد، ويمحق العدد، ويخرب البلد. والنصيحة تجر الفضيحة (العطاء) والحقد يمنع الرفد، ولزوم الخطيئة يعقب البلية، وسوء الرعة (الطريقة) يقطع أسباب المنفعة، والظعائن تدعو إلى التباين. يا بني إني قد أكلت مع أقوام وشربت فذهبوا وغيرت وكأني بهم قد لحقت) ثم أنشأ يقول:
أكلت شبابي فأفنيته
وأمضيت من بعد دهري دهورا
ثلاثة أهلين صاحبتهم
فبادوا وأصبحت شيخاً كبيرا
قليل الطعام عسير القيام
قد ترك الدهر خطوي قصيرا
أبيت أراعي نجوم السماء
أقلب أمري بطوناً ظهورا
5- دُوَيْدُ بن زيد الحميري
هو دويد بن زيد بن نهد بن ليث بن أسود بن أسلم الحميري. كان من المعمرين المعدودين إذ عاش نحو 456 سنة. وهو من أفصح الخطباء وأشهر الفصحاء، كما كان حكيماً في أقواله. ويقال أنه أوصى بنيه وخطب فيهم قائلاً: أوصيكم بالناس شراً لعله كان قد عاش الأمرين من أوباش ناس زمانه!! لا ترحموا لهم عَبرة، ولا تقيلوا لهم عثرة. قصروا الأعنة، وأطيلوا الأسنة، واطعنوا شزراً واضربوا هبراً (بعنف)، وإذا أردتم المحاجزة فقبل المناجزة. والمرء يعجز لا محالة، بالجد لا بالكد. التجلد ولا التبلد، والمنية ولا الدنية. ولا تأسَوا على فائت وإن عز فقده، ولا تحنوا على ظاعن وإن ألف قربه. ولا تطمعوا فتطبعوا، ولا تهنوا فتخرعوا (تلينوا) ولا يكونن لكم المثل هو إن الموصين بنو سهوان) وهو يضرب (لمن يسهو عن طلب شيء أمر به (والسهوان السهو). إذا مت فأرحبوا خط مضجعي، ولا تضنوا علي برحب الأرض. وما ذلك بُمؤَدٍ إلى روحاً ولكن حاجة نفس خامرها الإشفاق ثم مات. قال أبو بكر بن دريد في حديث آخر أنه قال:
اليوم يبنى لدويد بيته
يا رُبَّ نهب صالح حويته
ورب قِرن بطل أرديته
ورب عيل حسن لويته
ومعصم مخضب ثنيته
لو كان للدهر بلى أبليته
أو كان قِرني واحداً كفيته
ومن قوله: ألقى علي الدهر رجلاً ويدا
والدهر ما أصلح يوماً أفسدا
يصلح ما أفسده اليوم غدا
قال أبو حاتم السجستاني: عاش دويد بن زيد أربعمائة سنة وستاً وخمسين سنة. وقال ابن دريد: إن دريد بن زيد كان من المعمرين: وقال: ولا تعد العرب معمراً إلا من عاش مائة وعشرين سنة فصاعداً.
6- زهير بن جناب الحميري
كان زهير بن جناب سيداً مطاعاً شريفاً في قومه، عاش مائتي سنة وعشرين سنة، وأوقع مائتي وقعة بحياته، وكان مهاب الجانب، كما كان متكلماً حكيماً سديد الرأي. ويقال: كانت فيه عشر خصال لم تتوفر في غيره من أهل زمانه: كان سيد قومه، وشريفهم، وخطيبهم، وشاعرهم، وأوفدهم إلى الملوك وطبيبهم (والطب في ذلك الزمان شرف) وحازي قومه (والحزاة الكهان) وفارس قومه، وله البيت فيهم، والعدد منهم. وأوصى إلى بنيه وخطبهم فقال: يا بنيّ إني قد كبرت سني وبلغت حرساً (دهراً) من دهري، فأحكمتني التجارب والأمور تجربة واختبار. فاحفظوا عني ما أقول وعوه: إياكم والخور عند المصائب، والتواكل عند النوائب، فإن ذلك داعية للغم، وشماتة للعدو، وسوء ظن بالرب، وإياكم أن تكونوا بالأحداث مغترين، ولها آمنين، ومنها ساخرين، فإنه ما سخر قوم قط إلا ابتلوا ولكن توقعوها؛ فإن الإنسان في الدنيا غرض تعاوره الرماة، فمقصر دونه، ومجاوز لموضعه، وواقع عن يمينه وشماله، ثم لابد أن يصيبه.
ولم يكن في العرب حينها أنطق من زهير، ولا أوجه عند الملوك منه وكان لسداد رأيه يسمى كاهناً ولم تجتمع قضاعة إلا عليه.
وكانت زوجته قد استخفت به حين بلغ من العمر 150 عاماً، فقال معبراً عن ذلك:
ألا يالقومي لا أرى النجم طالعاً
ولا الشمس إلا حاجبي بيميني
معزبتي عند القفا بعمودها
يكون نكيري أن أقول ذريني
أميناً على سر النساء وربما
أكون على الأسرار غير أمين
فللموت خير من حداج موطأً
مع الظن لا يأتي المحل لحَسين
وهو القائل:
ابني أن أهلك فقد
أورثتكم مجداً بنية
وتركتكم أبناء سا
دات زنادكُمُ ورية
من كل ما نال الفتى
قد نلته إلا التحية
ولقد رحلت البازل الكو
ماء ليس لها ولية
وخطبت خطبة حازم
غير الضعيف ولا العيية
فالموت خير للفتى
فليهلكن وبه بقية
من أن يرى الشيخ البجا
ل وقد تهادى بالعشية
وهو القائل أيضاً:
ليت شعري والدهر ذو حدثان
أي حين منيتي تلقاني
أَسُبَات على الفراش خفات
أم بكفي مفجَّع حران
وقال حين مضت له مئتا سنة من عمره:
لقد عمرت حتى لا أبالي
أحتفي في صباحي أم مسائ
وحق لمن أتت مائتان عامٍ
عليه أن يمل من الثواء
7- مُرِثْد الخير الحميري
هو مرثد الخير بن يَنْكَف بن نوف بن معد يكرب بن مُضحي. كان أحد المعمرين، كما كان قيلاً حدباً على عشيرته، محباً لصلاحهم. وكان من أخطب الخطباء وأفصح الفصحاء.
تدخل في فض نزاع كاد أن ينشب، ويهلك حيي سبيع بن الحرث. وميثم بن مثوب بن ذي رعين، فأرسل إليهما ليحضرا، فلما حضرا إليه قال لهما: (إن التخبط وامتطاء الهجاج واستحقاب اللجاج، سيقفكما على شفا هوة في توردها بوار الأصيلة، وانقطاع الوسيلة، فتلافيا أمركما قبل انتكاث العهد، وانحلال العقد، وتشتت الألفة، وتباين السهمة (القرابة) وأنتما في فسحة رافهة وقدم واطدة. والمودة مثرية والبقيا معرضة، فقد عرفتم أنباء من كان قبلكم من العرب ممن عصى النصيح، وخالف الرشيد، وأصغى إلى التقاطع. ورأيتم ما آل إليه سوء سعيهم، وكيف كان صيور أمورهم. فتلافوا القرحة قبل تفاقم الثأي، واستفحال الداء، وإعواز الدواء، فإنه إذا سفكت الدماء، استحكمت الشحناء، وإذا استحكمت الشحناء تقضبت عرى الإبقاء، وشمل البلاء فقال سبيع: أيها الملك إن عداوة بني العلات لا تبرئها الأساة، ولا تشفيها الرقاة، ولا تستقبل بها الكفاة، والحسد الكامن هو الداء الباطن، وقد علم بنو أبينا هؤلاء أنا لهم ردء إذا رهبوا، وغيث إذا أجدبوا، وعضد إذا حاربوا، ومفزع إذا نكبوا، وإنا وإياهم كما قال الأول (وهو أوس بن حجر: إذا ما علوا قالوا أبونا وأمنا وليس لهم عالين أم ولا أب
فقال ميثم: أيها الملك إن من نفس على ابن أبيه الزعامة، وجد به في المقامة، واستكثر له قليل الكرامة، كان قَرِفاً (خليقاً) بالملامة، ومؤنباً على ترك الاستقامة،وإنا والله ما نعتد لهم بيد، إلا وقد نالهم، منا كفاؤها، ولا تذكر لهم حسنة إلا وقد تطلع منا إليهم جزاؤها، ولا يتفيأ لهم علينا ظل نعمة إلا وقد قوبلوا بشرواها (بمثلها)، ونحن بنو فحل مقرم، لم تقعد بنا الأمهات ولا بهم، ولم تنزعنا أعراق السوء ولا إياهم، فعلام مط الخدود، وخزر العيون والجخيف والتصعر، (الإعراض) والبأو والتكبر ألكثرة عدد أم بفضل جلد أم لطول معتقد؟ وإنا وإياهم لكما قال الأول (وهو ذو الإصبع العدواني):
لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب
عني ولا أنت دياني فتخزوني
ومقاطع الأمور ثلاثة: حرب مبيرة، أو سلم قريرة، أو مداجاة وغفيرة. فقال الملك: لا تنشطوا عقل الشوارد، ولا تلقحوا العون القواعد، ولا تؤرثوا (تذكو) نيران الأحقاد، ففيها المتلفة المستأصلة، والجائحة، والأليلة، (الثكل)، وعفوا بالحلم إيلاد الكلم (آثار الجراح)وأنيبوا إلى السبيل الأرشد، والمنهج الأقصد، فإن الحرب تقبل بُزبُرج الغرور
( الزينة) وتدبر بالويل والثبور، ثم قال الملك:
ألا هل أتى الأقوام بذلى نصيحة
حبوت بها مني سبيعاً وميثما
وقلت اعلما أن التدابر غادرت
عواقبه للذل والقل جرهما
فلا تقدحا زند العقوق وأبقيا
على العزة القعساء أن تتهدما
ولا تجنيا حرباً تجر عليكما
عواقبها يوماً من الشر أشأما
فإن جناة الحرب للحين عرضة
تفوقهم منها الذعاف المقشما
حذار فلا تستنبثوها فإنها
تغادر ذا الأنف الأشم مكثما
فقالا: لا أيها الملك بل نقبل نصحك، ونطيع أمرك، ونطفئ الثائرة، ونحل الضغائن ونثوب إلى السلم.
8- الحرث بن ذبيان بن لجا بن منهب اليماني
هو الحرث بن ذبيان بن لجا بن منهب. كان معمراً مشهوراً، كما كان من الخطباء المشهورين، وكان فصيحاً بليغاً، يتكلم في المناسبات الكبيرة، والحشود العظيمة، وفي الخطوب المهمة، وكان لكلامه وقع كبير في نفوس الناس، وله كثير من الوقائع، والقصص، منها ما رواه ابن دريد بسنده إلى ابن الكلبي، عن أبيه قال: اجتمع طريف بن العاص الدوسي، وهو جد طفيل ذي النورين بن عمرو بن طريف، والحرث بن ذبيان بن لجا بن منهب، وهو أحد المعمرين (اجتمعا) عند بعض مقاول (أقيال) حمير فتفاخرا، فقال الملك للحرث: يا حارث ألا تخبرني بالسبب الذي أخرجكم عن قومكم، حتى لحقتم بالنمر بن عثمان؟ فقال: أخبرك أيها الملك، خرج هجينان منا يرعيان غنماً لهما، فتشاولا (تضاربا) بسيفيهما، فأصاب صاحبهم عقب صاحبنا، فعاث فيه السيف فنزف فمات، فسألونا أخذ دية صاحبنا دية الهجين، وهي نصف دية الصريح (الخالص- الحر) فأبى قومي وكان لنا رباء (زيادة) عليهم، فأبينا إلا دية الصريح، وأبو إلا دية الهجين. وكان اسم هجيننا ذهين بن زبراء. واسم صاحبهم عنقش بن مهيرة وهي سوداء أيضاً فتفاقم الأمر بين الحيين، فقال رجل منا:
حلومكم يا قوم لا تعزبنها
ولا تقطعوا أرحامكم بالتدابر
وأدوا إلى الأقوام عقل ابن عمهم
ولا ترهقوهم سبة في العشائر
فإن ابن زبراء الذي قاد لم يكن
بدون خليف أو أسيد بن جابر
فإن لم تعاطوا الحق فالسيف بيننا
وبينكم والسيف أجور جائر
فتضافروا علينا حسداً فأجمع ذوو الحجا منا أن نلحق بأمنع بطن من الأزد، فلحقنا بالنمر بن عثمان، فوالله ما فت في أعضادنا نأينا منهم. ولقد أثأرنا صاحبنا وهم راغمون. فوثب طريف بن العاص من مجلسه فجلس بإزاء الحرث ثم قال: تالله ما سمعت كاليوم قولاً أبعد من صواب، ولا أقرب من خطل، ولا أجلب لقذع من قول هذا . والله أيها الملك ما قتلوا بهجينهم بذجا (خروفاً- والكلمة فارسية) ولا رقوا به درجا، ولا أنطوا به عقلا، ولا اجتفئوا به خشلا (اجتفئوا صرعوا) ولقد أخرجهم الخوف عن أصلهم، وأجلاهم عن محلهم، حتى استلانوا خشونة الإزعاج، ولجأوا إلى أضيق الولاج قُلا وذلا. فقال الحارث: أتسمع يا طريف؟ إني والله ما أخالك كافاً غرب لسانك، ولا منهنهاً شرة نزوانك، حتى أسطو بك سطوة تكف طماحك، وترد جماحك، وتكبت تترعك (تهتُكك واستهتارك) وتقمع تسرعك فقال طريف: مهلاً يا حارث لا تعرض لطحمة استناني، وذرب لساني، وغرب شباتي، وميسم سناني، فتكون كالأظل الموطوء، والعجب الموجوء. فقال الحرث: إياي تخاطب بمثل هذا القول! والله لو وطئتك لأسختك، ولو وهصتك لأوهطتك (كسرتك وأهلكتك) ولو نفحتك لأفدتك، فقال طريف:
وإن كلام المرء في غير كنهه
لك النبل تهوي ليس فيها نصالها
أما والأصنام المحجوبة، والأنصاب المنصوبة، لئن لم تربع على ظلعك، (غمزك) وتقف عند قدرك، لأدعن حَزْنك سهلا، وغَمرك ضِحلا، وصفاك وحلا، فقال الحرث: أما والله لو رمت ذلك لمُرعت بالحضيض، وأغصصت بالجريض،وضاقت عليك الرحاب، وتقطعت بك الأسباب، ولألقيت لقى تهاداه الروامس، بالسهب الطامس، فقال طريف: دون ما ناجتك به نفسك مقارعة أبطال وحياض أهوال، وحفزة إعجال، يمنع معه تطامن الإمهال، فقال الملك: إيهاً عنكما (نهي) فما رأيت كاليوم مقال رجلين لم يقصبا (يشتما) ولم يثلبا ولم يلصوا ولم يقفوا (لصاه وقفاه بمعنى قذفه).
9- الأوس بن حارثة
هو أخو الخزرج، وهما جذرا البطنين العظيمين (الأوس والخزرج) الذين شكلوا القوة الحاسمة في معارك الإسلام الأولى. وكانوا مأوى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسنده الأهم. وهم من بني مزيقيا من الأزد، الذين تفرعت منهم الهجرات اليمنية المتعاقبة عبر آلاف السنين قبل الميلاد. وقد شكل الأوس والخزرج إحدى حلقات في سلسلة الهجرات اليمنية الطويلة ونزلوا بيثرب عند الخروج من اليمن. وكان يسكنها طوائف من اليهود فتعايشوا معهم فترة، ثم اختلفوا، ودخلت قلوبهم العداوة والبغضاء ضد بعضهم بسبب غدر اليهود، وسوء تصرفاتهم. وكان الأوس من المعمرين الذين عاشوا دهراً طويلاً، ولم يكن له سوى ولد واحد هو (مالك)، وكان قومه قد طلبوا منه مزيداً من الإنجاب إلا أنه كان مكتفياً بمالك معتبراً أنه يساوي العشرة من البنين. يقول ابن دريد عن أوس بن حارثة: حدثني عمي عن أبيه عن هشام بن محمد السائب الكلبي عن عبد الرحمن بن أبي عبس الأنصاري قال: عاش الأوس بن حارثة دهراً وليس له ولد إلا مالك. وكان لأخيه الخزرج خمسة أولاد: عمرو، وعوف، وجشم، والحرث، وكعب . فلما حضره الموت قال له قومه: قد كنا نأمرك بالتزوج في شبابك فلم تتزوج حتى حضرك الموت، فقال الأوس: لم يهلك هالك ترك مثل مالك. وإن كان الخزرج ذا عدد، وليس لمالك ولد، فلعل الذي استخرج العذق من الجريمة (النواة) والنار من الوثيمة (قدح الأحجار بحوافر الخيل) أن يجعل لمالك نسلا، ورجالاً بسلا. يا مالك، المنية ولا الدنية، والعتاب قبل العقاب، والتجلد لا التبلد. واعلم أن القبر خير من الفقر،وشر، شارب المشتَف (المستقصي) وأقبح طاعم المقتف (الأخذ بعجله) وذهاب البصر، خير من كثير من النظر. ومن كرم الكريم الدفاع عن الحريم. ومن قل ذل، ومن أمر فل. وخير الغنى القناعة، وشر الفقر الضراعة. والدهر يومان، فيوم لك ويوم عليك. فإذا كان لك فلا تبطر، وإذا كان عليك فاصبر، فكلاهما سينحسر، فإنما تعز من ترى، ويعزك من لا ترى؛ ولو كان الموت يشترى لسلم منه أهل الدنيا، ولكن الناس فيه مستوون: الشريف الأبلج، واللئيم المعلهج (المتناهي في الدناءة) والموت المفيت خير من أن يقال لك: هبيت (الأحمق) وكيف بالسلامة لمن ليس له إقامة، وشر من المصيبة سوء الخلف، وكل مجموع إلى تلف وحياك إلهك.
ولعل نبوءة أوس قد تحققت فقد أخرج الله من صلب مالك النسل الكثير، بحيث كانوا نداً لبني عمهم الخزرج. وكانوا يقفون في وجه من يريد بهم الشر.
10- عمران بن عامر الأزدي
هو عمران بن عامر (مزيقيا وماء المزن) بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد. وسمي أبوه مزيقيا لأنه كانت تنسج له في كل سنة ثلاثمائة وستون حلة ثم يأذن للناس في الدخول، فإذا أرادوا الخروج استلبت عنه وتمزق قطعاً. وكذلك سمي مزيقيا. وكانت الحاكة بمأرب تقيم له حلة في كل سنة نسجها ذهب أحمر. وكان له عيد من الحول إلى الحول تعد له فإذا أراد الرجوع إلى منزله مزقت عليه.
أما اللقب (ماء المزن) فقد كان إذا نزل بقومه الجدب فتح بيوت أمواله وعالهم حتى يخصبوا ويقوم لهم مقام المطر، إذا فقد، كانوا يقولون: كفانا عامر قحطنا هو ماء المزن لنا!!
تعالى الله. وقد كان عمران ملكاً متوجاً قبل أخيه عمرو،. وقد عمر أربعمائة سنة كما أنه كان كاهناً لم يكن في الأرض أعلم منه وكان بيده علم من بقايا دعاة سليمان. وكان له حظ عظيم من ذلك. وكانت العرب لا تعدل بعلم عمران بديلاً، وكان يخبر قومه أن بلادهم ستخرب آخر الزمان، حتى يفترق قومها في مشرق الأرض ومغربها. وكانوا يكتمون ذلك من قوله ويقولون شيخ قد كبر وبلغ من السنين أربعمائة عام. وكان أخوه عمرو بن عامر قد بلغ ثلاثمائة عام. فلما حضر عمران الموت دعا بأخيه عمرو وقال له: يا عمرو إني ميت، وهذه البلاد ستخرب، ويفترق أهلها، وأن لله عليها نعمتين وسخطتين: أما النعمة الأولى فهذه النعمة التي كنتم فيها، والسخطة الأولى: ينهدم السد، ويفيض عليكم، فيهلككم ويهلك زرعكم وجناتكم وأموالكم وتفترقون في الأرض. والسخطة الثانية تغلب عليكم الحبشة، والنعمة الثانية يبعث الله النبي محمداً التهامي صلى الله عليه وسلم بالرحمة ويغلب أهل الأوثان.
11- نفيلة بن عبد المدان الجرهمي اليماني
12- عبد المسيح بن نفيلة بن عبد المدان الجرهمي اليماني.
13- مضاض بن عبد المسيح بن نفيلة بن عبد المدان الجرهمي اليماني.
14- الحارث بن مضاض بن عبد المسيح بن نفيلة بن عبد المدان الجرهمي اليماني.
هؤلاء الأربعة المعمرون من أسرة واحدة، بل هم الجد، وابنه، وحفيده من الجيل الأول، وحفيده من الجيل الثاني، أورد قصتهم صاحب التيجان، في معرض حديث طويل رواه رجل من أهل الطائف، يقال له بهتان أو نبهان من أهل هزان بن سكسك بن وائل بن حمير ثم إياد، الذي صحب الحارث بن مضاض إلى مقبرة أبيه وجده إذ قال إياد: فلما أصبح قال لي: قم يا بني فقمت معه فمشى وهو يحس بيديه الأرض حتى أتى إلى صخرة مطبقة على صخرة أخرى وبينهما خلل يسير، فقال: أدن مني يا بني، فدنوت منه، فأخذ عضدي وقلع الصخرة فإذا تحتها سرب (سرداب) تحت الأرض، فأخذ بمنكبي فأدخلني السرب، وهو خلفي وحيات تصفر عن يميني وشمالي، وريح زهمة تنطح وجوهنا. فسرت بين يديه حتى أتيت إلى صخرة أيضاً مطبقة على صخرة ليس لنا مسير قال: فأمسك عضدي بيده اليسرى، وأدخل يده اليمنى إلى تحت الصخرة فقلبها، فإذا بسرب آخر أسفل من ذلك، فأخذ بمنكبي لئلا أهرب عنه، وأدخلني بين يديه. فسرنا حتى أفضينا إلى دار تحت الأرض مضيئة ولا أدري من أين ضياؤها، وفيها بيت قبلي إلى مكة فقال لي: لا تخف مما ترى فإنك ستخلص، وتمشي على الدنيا من نسلك قبائل. قال: فخرج من البيت تنين أسود أحمر العينين يجر عرفه، ودار في وسط الدار، فصار كالجبل العظيم، وجعل رأسه أعلاه ثم دخلت البيت، وأصبت في البيت أربعة أسرة ثلاثة عليها ثلاثة رجال، وواحد ليس عليه شيء، وفي وسط البيت كرش من در وياقوت، ولجين، وعقيان، فقال: خذ وقر حملك يا إياد ليس لك غيره، فإن زدت غُللت - وكان إياد دياناً بدين الحنيفية دين آبائه إبراهيم وإسماعيل وإسحاق عليهم السلام أجمعين، قال إياد: فأخذت وقر حملي دراً وياقوتاً وذهباً، وتركت بقيته، واخترت خياره، ثم خرجت فقال: أتدري من هؤلاء الموتى؟ قلت: لا قال: هذا الذي يسار سريري الخالي مضاض أبي، وهذا الذي عن يساره عبد المسيح أبوه. وهذا الذي على يسار عبد المسيح نفيلة أبوه ابن عبد المدان، قال وعلى رأس كل واحد منهم لوح من رخام مكتوب فيه كتاب بالمسند، فعمدت إلى السرير الذي كان عن يمين باب البيت، فأصبت شيخاً كبير اللحية أسيل الخد، تام العنق، تام الصلب، مسجى، وعليه ثياب كالرماد السحق، فأخذت اللوح فقرأته فإذا فيه مكتوب: أنا نفيلة بن عبد المدان بن حشرم بن عبد يا ليل بن جرهم بن قحطان بن هود النبي عليه السلام، عشت خمسمائة عام، وقطعت غور الأرض باطنها وظاهرها في طلب الثروة والملك، فلم يك ذلك ينجيني من الموت، وتحت مكتوب:
قد قطعت البلاد في طلب الثر
وة والمجد قالصاً أثوابي
وسريت البلاد قفراً لقفر
بعناني وقوتي واكتسابي
فأصاب الردى بنات فؤادي
فانقضت شرتي وأقصر جهلي
واستراحت عواذلي من عتاب
فدفعت السفاه بالحلم لما
نزل الشيب في محل الشباب
صاح أبصرت أو سمعت براع
رد في الضرع ما قرى في الحلاب
قال: ثم ملت إلى الثاني، فإذا بفتى لم أر أجمل منه وجهاً، بوجه كدرة القمرة وأشعار سقطت على خده، ولحية سوداء بلغت سرته، وسترت صدره، تام العنق تام الصلب وعليه ثياب كالهباء. وأخذت اللوح الذي على رأسه فإذا فيه مكتوب أنا عبد المسيح بن نفيلة بن عبد المدان، عشت مائة سنة، وركبت مائة فرس، وافتضضت مائة بكر، وقتلت مائة مبارز، وأخذني الموت غصباً، وأورثني أرضاً وتحته مكتوب:
حلبت الدهر أشطره حياتي
ونلت من المنى فوق المزيد
وكافحت الأمور وكافحتني
فلم أخضع لمعضلة كؤود
وكدت أنال في الشرق الثريا
ولكن لا سبيل على الخلود
قال: فملت عليه إلى الآخر، فأصبت شيخاً آدم، كث اللحية، خارج الوجنتين، قصير العنق، واسع المنكبين، وعليه ثياب كالهباء، فأخذت اللوح عن رأسه فإذا فيه مكتوب: أنا مضاض بن عبد المسيح عشت ثلاثمائة عام وأخذت مصر وبيت المقدس، وهزمت الروم بالدروب، ولم يكن من الموت بد وتحته مكتوب:
قد تجرعت بعد طول زماني
غصة حين فارقوني اللدات
لا تقرن عيشك اليوم دنيا
عمراً مائة لها ميقات
منزل قد تحكم الدهر فيه
ليس للنازلين فيه ثبات
كل شيء تخنى عليه الليالي
آخر الحزن والسرور الممات
ثم نظرت إلى لوح فوق رأسه معلق، فأخذته فإذا فيه مكتوب: أنا الحارث بن مضاض عشت أربعمائة سنة ملكت مائة، وجلت في الأرض ثلاثمائة سنة متغرباً بعد هلاك قومي جرهم، وتحته مكتوب:
هل دمعي لفرقة الأحباب
واغترابي عن معشر (بالهضاب)
أوطنوا الجزع جزع بيت أبي طو
سى إلى النخل بين حجر وقاب
من ملوك متوجين لديه
وكهول أعفة وشباب
وبها ليل كالليوث مصال
يت مغاوير في الحروب اللجاب
بحلوم رواجح وبهاء
واقتدار على الأمور الصعاب
ونساء حواصل عاطلات
وبدور محجوبة في القباب
نازلات بين الحجون إلى الحيف
وخراعيب كالدمى أتراب
هاهم نازلون بالذكر فيه
حين غابوا به مغيب الشهاب
أسعدتهم أيامهم ثم ولوا
ما على الدهر بينهم من غياب
فهم المطعمون جوداً فعادوا
طعمة للثرى وصم الهضاب
فأتى الوحي بعدهم وعليهم
وإليهم من بعد ذاك مآبي
كل حي يموت حقاً فيفنى
سبب غالب على الأسباب
قال: ثم قال لي: يا بني أعطني تلك القارورة التي في تلك الكوة فأعطيته إياها، فشرب نصفها، وأطلى بنصفها جسده. ثم قال لي: يا بني إذا أتيت إخوتك وقومك فقالوا لك من أين لك هذا المال؟ فقل لهم: إن الشيخ الذي حملت الحارث بن مضاض الجرهمي، فهم يكذبونك، فقل لهم هذه آية لكم فمر بهم على الحجر المدفون بجوار زمزم فقل لهم: إن مقام إبراهيم في هذا الحجر الأحمر، وإن شعر الحارث في هذا الحجر الآخر، وهو قوله: كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
قال ثم قال لي: أعطني القارورة الأخرى، فأعطيته إياها فشربها ثم صاح صيحة ما ظننت إلا أن أهل الدنيا سمعوها. ثم تمكن من سريره وهجم على التنين، واستدار في وسط البيت على ما بقي من المال ثم مات مكانه وخرجت أنا فبلغت مكة. فقال لي إخوتي وقومي: من أين لك هذا المال، فأعلمتهم فكذبوني فمضيت بهم إلى الحجرين فرأوا مقام إبراهيم عليه السلام وقرأوا شعره وهو هذا:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
أنيس ولم يسمر بمكة سامر
بلى نحن كنا أهلها فأزالنا
صروف الليالي والجدود والعواثر
فهل فرج آت بشيء تحبه
وهل حزن ينجيك مما تحاذر؟
وكنا ولاة البيت من بعد نابت
نطوف بذاك البيت والخير ظاهر
ملكنا فأغررنا وأعظم قدرنا
فليس لحيّ غيرنا ثَمَّ فاخر
فإن تنثني الدنيا علينا بريبه
فإن لها حالاً وفيه التشاجر
فأخرجنا منها المليك بقدرة
كذلك بالإنسان تجري المقادر
أقول وقد نام الخلي ولم أنم
مدى الليل لا يبقى سهيل وعامر
وبدلت منها أوجهاً لا أحبها
وبدل منها حمير ويحابر
فصرنا أحاديثاً وكنا بغبطة
كذلك عضتنا السنون الغوابر
وفيه حمام لا يراع أنيسه
إذا خرجت منه فليست تغادر
فسحت دموع العين تجري لبلدة
بها من أمان الله فيه المشاعر
قال أبو محمد: وإن إياداً لم يعد إلى الموضع لما حرمه عليه الحارث.
15- قس بن ساعدة الإيادي
هو خطيب العرب وشاعرهم، وحكيمهم في عصره، عمر طويلاً، وكان يعيش في نجران، شهد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطبة له في عكاظ، فأعجبه قوله، وأثنى عليه بعد وفاته (قالوا إنه عاش طويلاً، وقالوا إنه أول من آمن بالبعث من الجاهليين، واعتنق النصرانية فعين أسقفاً لنجران، وتردد على قيصر الروم، فأكرمه. وأدركه النبي صلى الله عليه وسلم وسمعه يخطب بعكاظ فأعجب بكلامه، وتمثل به كثيراً، وقالوا: أنه أول من خطب على مرتفع أو ناقة، وأول من اتكأ عند خطبته على سيف أو عصا، وأول من قال في كلامه: (أما بعد) وأول من كتب (إلى فلان من فلان). ويدل ما يروى من خطبه على أنه كان يعتمد على العبارات القصيرة جداً، التي يحليها بالسجع والازدواج الطبيعيين، ورسم الصور المتتابعة السريعة.
ولعل من أفضل حِكَمه ما رواه صاحب العقد الفريد: قيل لقس بن ساعدة ما أفضل المعرفة؟ قال: معرفة الرجل نفسه. قيل له: فما أفضل العلم؟ قال: وقوف المرء عند علمه. قيل له: فما أفضل المروءة؟ قال: استبقاء الرجل ماء وجهه. وقد حاول الألوسي تقديم نبذة عن قس بن ساعدة، فقال: هو من أشهر الخطباء ذكراً، وأرفعهم قدراً، حيث روى رسول الله صلى الله عليه وسلم كلامه، وموقفه على جمله الأورق وموعظته. وعجب من حسن كلامه، وكفى بذلك فخراً له ولقومه على مدى الأيام، فإن هذا شرف تنحط دونه رؤوس الأعلام. وفي الحديث: (يرحم الله قساً إني لأرجو يوم القيامة أن يبعث أمة وحدهُ) وبذلك نعلم أنه لم يكن على دين من الأديان المشهورة، ومن نسبه إلى يهودية أو نصرانية فقد لحن في مقاله، وانحرف عن جادة الصواب. أما كتب التاريخ فقد زخرت بالحديث عن قس بن ساعدة نكتفي باقتطاف أجزاء مما ورد في تاريخ ابن كثير (البداية والنهاية) إذ جاء فيه بعد كثير من العنعنات والرواة ما يلي: عن محمد بن إسحاق حدثني بعض أصحابنا من أهل العلم عن الحسن بن أبي الحسن البصري أنه قال: كان الجارود بن المعلى بن حنش بن معلى العبدي نصرانياً حسن المعرفة بتفسير الكتب وتأويلها عالماً بسير الفرس وأقاويلها، بصيراً بالفلسفة والطب، ظاهر الدهاء والأدب، كامل الجمال، ذا ثروة ومال، وأنه قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وافداً في رجال من عبد القيس ذوي آراء وفصاحة وبيان وحجج، وبرهان، فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وقف بين يديه وأشار إليه وأنشأ يقول:
يا نبي الهدى أتتك رجال
قطعت فدفداً وآلاً فآلا
وطوت نحوك الصحاصح تهوي
لا تعد الكلال فيك كلالا
كل بهماء قصر الطرف عنها
أرقلتها قلاصناً إرقالا
وطوتها العتاق يجمح فيها
بكماة كأنجم تتلألأ
تبتغي دفع بأس يوم عظيم
هائل أوجع القلوب وهالا
ومزاداً لمحشر الخلق طراً
وفراقاً لمن تمادى ضلالا
نحو نور من الإله وبرها
ن وبر ونعمة أن تنالا
خصك الله يا بن آمنة الخ
ير بها إذ أتت سجالا سجالا
فاجعل الحظ منك يا حجة الل
ه جزيلاً لا حظ خلف أحالا
قال: فأدناه النبي صلى الله عليه وسلم وقرب مجلسه، وقال له: يا جارود لقد تأخر الموعود بك وبقومك. فقال الجارود: فداك أبي وأمي، أما من تأخر عنك فقد فاته حظه وتلك أعظم حوبة، وأغلظ عقوبة، وما كنت فيمن رآك أو سمع بك فعداك، واتبع سواك، وإني الآن على دين قد علمت به، قد جئتك وها أنا تاركه لدينك أفذلك مما يمحص الذنوب والمآثم والحوب؟ ويرضي الرب من المربوب، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا ضامن لك ذلك، وأخلص الآن لله بالوحدانية، ودع عنك دين النصرانية)). فقال الجارود: فداك أبي وأمي، مد يدك فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنك محمد عبده ورسوله. قال: فأسلم وأسلم معه أناس من قومه، فسر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإسلامهم، وأظهر من إكرامهم ما سروا به، وابتهجوا به، ثم أقبل عليهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أفيكم من يعرف قس بن ساعدة الإيادي، فقال الجارود: فداك أبي وأمي كلنا نعرفه وأني من بينهم لعالم بره واقف على أمره، كان قس -يا رسول الله- سبطاً من أسباط العرب عمر ستمائة سنة، تقفر منها خمسة أعمار في البراري والقفار، يضج بالتسبيح على مثال المسيح، لا يقره قرار، ولا تكنه دار، ولا يستمتع به جار. كان يلبس الأمساح، ويفوق السياح، ولا يفتر من رهبانيته، يتحسى في سياحته بيض النعام، ويأنس بالهوام. ويستمتع بالظلام، يبصر فيعتبر، ويفكر فيختبر فصار بذلك واحداً يضرب بحكمته الأمثال، وتكشف به الأهوال، أدرك رأس الحواريين سمعان، وهو أول رجل ناله من العرب، ووحد وأقر وتعبد، وأيقن بالبعث والحساب وحذر سوء المآب، وأمر بالعمل قبل الفوت، ووعظ بالموت، وسلم بالقضاء على السخط والرضا، وزار القبور وذكر النشور، وندب بالأشعار، وفكر في الأقدار، وأنبأ عن السماء والنماء، وذكر النجوم وكشف الماء، ووصف البحار، وعرف الآثار، وخطب راكباً، ووعظ دائباً، وحذر من الكرب، ومن شدة الغضب، ورسل الرسائل، وذكر كل هائل، وأرغم في خطبه، وبين في كتبه، وخوف الدهر وحذر الأزر وعظم الأمر وجنب الكفر، وشوق إلى الحنيفية، ودعا إلى اللاهوتية، وهو القائل في يوم عكاظ:شرق وغرب، ويتم وحزب ويابس ورطب، وأجاج وعذب وشموس وأقمار، ورياح وأمطار، وليل ونهار، إناث وذكور، وبرار وبحور، وحب ونبات، وآباء وأمهات، وجمع وشتات، وآيات في إثرها آيات، ونور وظلام، ويسر وإعدام، ورب وأصنام، لقد ضل الأنام، نشوء مولود، ووأد مفقود، وتربية محصود، وفقير وغني،ومحسن ومسيء، تباً لأرباب الغفلة ليصلحن العامل عمله، وليفقدن الآمل أمله، كلا بل هو إله واحد، ليس بمولود ولا والد، أعاد وأبدى، وأمات وأحيا، وخلق الذكر والأنثى، رب الآخرة والأولى، أما بعد فيا معشر إياد أين ثمود وعاد؟ وأين الآباء والأجداد؟ وأين العليل والعواد؟ كل له معاد، يقسم قس برب العباد، وساطع المهاد ولتحشرن على الانفراد، في يوم البناء، إذا نفخ في الصور، ونقر في الناقور، وأشرقت الأرض ووعظ الواعظ فانتبذ القانط، وأبصر اللاحظ، فويل لمن صدف عن الحق الأشهر، والنور الأزهر، والعرض الأكبر، في يوم الفصل، وميزان العدل، إذا حكم القدير، وشهد النذير، وبعد النصير، وظهر التقصير، ففريق في الجنة وفريق في السعير. وهو القائل:
ذكر القلب من جواه ادكار
وليال خلالهن نهار
وسجال هواطل من غمام
ثرن ماءً وفي جواهن نار
ضوها يطمس العيون وإرعا
دشداد في الخافقين تطار
وقصور مشيدات حوت الخ
ير وأخرى حلت بهن قفار
وجبال شوامخ راسيات
وبحار مياههن غزار
ونجوم تلوح في ظلم اللي
ال وكل متابع موار
وصغير وأشمط وكبير
كلهم في الصعيد يوماً مزار
وكبير مما يقصر عنه
حدسه الخاطر الذي لا يحار
فالذي قد ذكرت دل على الل
ه نفوساً لها هدى واعتبار
قال: فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مهما نسيت، فلست أنساه بسوق عكاظ واقفاً على جمل أحمر يخطب الناس: اجتمعوا فاسمعوا، وإذا سمعتم فعوا، وإذ وعيتم فانتفعوا وقولوا، وإذا قلتم فاصدقوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، مطر ونبات، وأحياء وأموات، ليل داج، وسماء ذات أبراج، ونجوم تزهر، وبحار تزخر، وضوء وظلام، وليال وأيام، وبر وآثام، إن في السماء خبراً وإن في الأرض عبراً، يحار فيهن البصر، مهاد موضوع، وسقف مرفوع، ونجوم تغور، وبحار لا تفور، ومنايا دوان، ودهر خوان، كحد النسطاس (علم) ووزن القسطاس، أقسم قس قسماً، ولا كاذباً فيه ولا آثماً لئن كان في هذا الأمر رضى، ليكونن بسخط، ثم قال: أيها الناس، إن لله ديناً هو أحب إليه من دينكم هذا الذي أنتم عليه، وهذا زمانه وأوانه، ثم قال: مالي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون، أرضوا بالمقام فأقاموا؟ أم تركوا فناموا. والتفت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى بعض أصحابه فقال: أيكم يروي شعره لنا؟ فقال أبو بكر الصديق: فداك أبي وأمي أنا شاهد في ذلك اليوم، حيث يقول: في الذاهبين الأولين
من القرون لنا بصائر
لما رأيت موارداً
للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها
يمضي الأصاغر والأكابر
ولا من الباقين غابر
أيقنت أني لا محا
لة حيث صار القوم صائر


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.