الجريمة المركبة.. الإنجاز الوطني في لحظة فارقة    أول ظهور للبرلماني ''أحمد سيف حاشد'' عقب نجاته من جلطة قاتلة    فرع العاب يجتمع برئاسة الاهدل    صحيفة تكشف حقيقة التغييرات في خارطة الطريق اليمنية.. وتتحدث عن صفقة مباشرة مع ''إسرائيل''    الإطاحة بشاب وفتاة يمارسان النصب والاحتيال بعملات مزيفة من فئة ''الدولار'' في عدن    أكاديمي سعودي يتذمّر من هيمنة الاخوان المسلمين على التعليم والجامعات في بلاده    البحسني يكشف لأول مرة عن قائد عملية تحرير ساحل حضرموت من الإرهاب    العميد باعوم: قوات دفاع شبوة تواصل مهامها العسكرية في الجبهات حماية للمحافظة    وكالة دولية: الزنداني رفض إدانة كل عمل إجرامي قام به تنظيم القاعدة    حزب الإصلاح يسدد قيمة أسهم المواطنين المنكوبين في شركة الزنداني للأسماك    مأرب: تتويج ورشة عمل اساسيات التخطيط الاستراتيجي بتشكيل "لجنة السلم المجتمعي"    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    لا يوجد علم اسمه الإعجاز العلمي في القرآن    - عاجل شركة عجلان تنفي مايشاع حولها حول جرائم تهريب وبيع المبيدات الخطرة وتكشف انه تم ايقاف عملها منذ6 سنوات وتعاني من جور وظلم لصالح تجار جدد من العيار الثقيل وتسعد لرفع قضايا نشر    ناشط يفجّر فضيحة فساد في ضرائب القات للحوثيين!    المليشيات الحوثية تختطف قيادات نقابية بمحافظة الحديدة غربي اليمن (الأسماء)    خال يطعن ابنة أخته في جريمة مروعة تهزّ اليمن!    في اليوم 202 لحرب الإبادة على غزة.. 34305 شهيدا 77293 جريحا واستشهاد 141 صحفيا    "قديس شبح" يهدد سلام اليمن: الحوثيون يرفضون الحوار ويسعون للسيطرة    الدوري الانجليزي ... السيتي يكتسح برايتون برباعية    فشل عملية تحرير رجل أعمال في شبوة    إلا الزنداني!!    مأرب.. تتويج ورشة عمل اساسيات التخطيط الاستراتيجي بتشكيل "لجنة السلم المجتمعي"    الزنداني.. مسيرة عطاء عاطرة    انخفاض الذهب إلى 2313.44 دولار للأوقية    المكلا.. قيادة الإصلاح تستقبل جموع المعزين في رحيل الشيخ الزنداني    ارتفاع عدد الشهداء الفلسطينيين جراء العدوان الإسرائيلي على غزة إلى 34305    إيفرتون يصعق ليفربول ويعيق فرص وصوله للقب    الشيخ الزنداني رفيق الثوار وإمام الدعاة (بورتريه)    ذهبوا لتجهيز قاعة أعراس فعادوا بأكفان بيضاء.. وما كتبه أحدهم قبل وفاته يُدمي القلب.. حادثة مؤلمة تهز دولة عربية    مفاوضات في مسقط لحصول الحوثي على الخمس تطبيقا لفتوى الزنداني    تحذير أممي من تأثيرات قاسية للمناخ على أطفال اليمن    لابورتا يعلن رسميا بقاء تشافي حتى نهاية عقده    مقدمة لفهم القبيلة في شبوة (1)    الجهاز المركزي للإحصاء يختتم الدورة التدريبية "طرق قياس المؤشرات الاجتماعي والسكانية والحماية الاجتماعية لاهداف التنمية المستدامة"    نقابة مستوردي وتجار الأدوية تحذر من نفاذ الأدوية من السوق الدوائي مع عودة وباء كوليرا    نبذه عن شركة الزنداني للأسماك وكبار أعضائها (أسماء)    الإصلاحيين يسرقون جنازة الشيخ "حسن كيليش" التي حضرها أردوغان وينسبوها للزنداني    طلاق فنان شهير من زوجته بعد 12 عامًا على الزواج    رئيس الاتحاد الدولي للسباحة يهنئ الخليفي بمناسبه انتخابه رئيسًا للاتحاد العربي    تضامن حضرموت يظفر بنقاط مباراته أمام النخبة ويترقب مواجهة منافسه أهلي الغيل على صراع البطاقة الثانية    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    سيئون تشهد تأبين فقيد العمل الانساني والاجتماعي والخيري / محمد سالم باسعيدة    اليونايتد يتخطى شيفيلد برباعية وليفربول يسقط امام ايفرتون في ديربي المدينة    دعاء الحر الشديد .. ردد 5 كلمات للوقاية من جهنم وتفتح أبواب الفرج    لغزٌ يُحير الجميع: جثة مشنوقة في شبكة باص بحضرموت!(صورة)    الخطوط الجوية اليمنية تصدر توضيحا هاما    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    الديوان الملكي السعودي: دخول خادم الحرمين الشريفين مستشفى الملك فيصل لإجراء فحوصات روتينية    برشلونة يلجأ للقضاء بسبب "الهدف الشبح" في مرمى ريال مدريد    دعاء قضاء الحاجة في نفس اليوم.. ردده بيقين يقضي حوائجك ويفتح الأبواب المغلقة    أعلامي سعودي شهير: رحل الزنداني وترك لنا فتاوى جاهلة واكتشافات علمية ساذجة    كان يدرسهم قبل 40 سنة.. وفاء نادر من معلم مصري لطلابه اليمنيين حينما عرف أنهم يتواجدون في مصر (صور)    السعودية تضع اشتراطات صارمة للسماح بدخول الحجاج إلى أراضيها هذا العام    مؤسسة دغسان تحمل أربع جهات حكومية بينها الأمن والمخابرات مسؤلية إدخال المبيدات السامة (وثائق)    مع الوثائق عملا بحق الرد    لحظة يازمن    وفاة الاديب والكاتب الصحفي محمد المساح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أعلام بارزة أثْرت التراث اليمني القديم شعراً وأدباً
هذا هو تاريخ اليمن (الإرهاص)
نشر في الجمهورية يوم 25 - 12 - 2006


-د. عبد الله علي الكميم ..
ولمزيد من البرهنة على شاعرية اليمانيين «عصر ما قبل الإسلام» نسوق هنا ترجمة لكوكبة أخرى من أولئك النجباء الذين عاشوا عصر ما قبل الإسلام بزمن طويل وبعضهم بالقرب من انبلاج شفقه وبعضهم ممن عاشوا الفترتين فتخضرموا ولاشك أنهم قد قالوا شعرهم وصاغوا خطاباتهم وحكمهم وأمثالهم باللغة الفصحاء أو (المتينة) هذه التي نتكلمها اليوم لأنها كانت ولا تزال لغتهم كما أثبتنا ونثبت هذا لاحقاً أما كتاباتهم فقد كانت بالمسند والجزم معاً إلا أنهم تفردوا بالمسند كميزة لهم.
ويكفي أن نشير هنا إلى أن كتاب الإنجيل قد كتب بخط الجزم هذا في اليمن عام 520م قبل مولد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخمسين عاماً كما أوحت رسائل بعض نصارى نجران إلى إخوان لهم من الغساسنة. على أني أؤُكد هنا أن هؤلاء المترجم لهم هنا ما هم إلا قطرة من مطرة إذا ما نسبوا إلى شعراء وخطباء وحكماء اليمن في العهود القديمة. لإقناع من لم يقتنع بعد.
قال: فقام إلى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيخ من عبد القيس عظيم الهامة طويل القامة بعيد ما بين المنكبين فقال: فداك أبي وأمي، وأنا رأيت من قس عجباً. فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما الذي رأيت يا أخا بني عبد القيس؟ قال: خرجت في شبيبتي أربع بعيراً لي ندَّ عني، أقفو أثره في تنايف قفاف ذات ضغابين (أشواك) وعرصات جثجاث (نبات) بين صدور جدعان، وغمر حوذان، ومهمه ظلمان، ورصيع لهيقان، فبينا أنا في تلك الفلوات أجول بِسَبْسَبِها، وأرنق فَدفَدها، إذا أنا بهضبة في نشزائها أراك كباث مخضوضلة، وأغصانها متهدلة، كأن بربرها حب الفلفل، وبواسق إقحوان، وإذا بعين خرارة، وروضة مدهامة، وشجرة عارمة، وإذا أنا بقس بن ساعدة في أصل تلك الشجرة، وبيده قضيب. فدنوت منه وقلت له: أنعم صباحاً! فقال: وأنت فنعم صباحك! وقد وردت العين سباع كثيرة، فكان كلما ذهب سبع منها يشرب من العين قبل صاحبه، ضربه قس بالقضيب الذي بيده، وقال: اصبر حتى يشرب الذي قبلك فذعرت من ذلك ذعراً شديداً. ونظر إلي فقال:لا تخف. وإذا بقبرين بينهما مسجد، فقلت: ما هذان القبران؟ قال: قبرا أخوين كانا يعبدان الله عز وجل بهذا الموضع، فأنا مقيم بين قبريهما أعبد الله حتى ألحق بهما فقلت له: أفلا تلحق بقومك فتكون معهم في خيلهم وثباتهم على شرهم؟ فقال لي: ثكلتك أمك أو ما علمت أن ولد إسماعيل تركوا دين أبيهم واتبعوا الأضداد وعظموا الأنداد، ثم أقبل على القبرين وأنشأ يقول:
خليلي هبا طالما قد رقدتما
أجدكما لا تقضيان كراكما (النعاس)
أرى النوم بين الجلد والعظم منكما
كأن الذي يسقي القطار سقاكما
أمن طول نوم لا تجيبان داعياً
كأن الذي يسقى العقار سقاكما
ألم تعلما أني بنجران مفرداً
ومالي فيه من حبيب سواكما
مقيم على قبريكما لست بارحاً
إياب الليالي أو يجيب صداكما
أبكيكما طول الحياة وما الذي
يرد على ذي لوعة إن بكاكما
فلو جعلت نفس لنفس امرئ فدى
لجدت بنفسي أن تكون فداكما
كأنكما والموت: أقرب غاية
بروحي في قبريكما قد أتاكما
قال: فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رحم الله قساً أما إنه سيبعث يوم القيامة أمة وحده.
16- سحبان وائل
هو سحبان بن زفر بن إياس الوائلي وائلة باهلة وباهلة هي بنت صعب بن مذحج أم جاهلية يمانية من كهلان نسب إليها بنوها من زوجها مالك بن قيس عيلان... وأخت باهلة بجيلة، وينسب إليها أبناؤها من زوجها أنمار بن آراش من معد أو من كهلان.
وعن سحبان تقول الموسوعة العربية: خطيب مخضرم من وائل باهلة أسلم في زمن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يجتمع به، عاش مدة عند معاوية ابن أبي سفيان بدمشق، وقيل: إنه عمر مائة وثمانين سنة. وكان إذا خطب يتوكأ على عصا ويسيل عرقاً، ولا يعيد كلمة ولا يتوقف، ولا يتنحنح، ولا يبتدئ في معنى فيخرج منه دون أن يتمه، فضرب به المثل، وقيل أبلغ من سحبان وائل واعتمد في خطبه على العبارات القصيرة المزدوجة، التي تضم حكماً مقررة صالحة للشيوع أو أفكاراً متقابلة.
ومن أبلغ عباراته الحكيمة بل العلمية قوله: العقل بالتجارب لأن عقل الغريزة سلم إلى عقل التجربة.
إذن فسحبان قد عاش مائة وثمانين عاماً في عصر ما قبل الإسلام، وفي عصر صدر الإسلام إلى سنة 54 ه . قال الأصمعي عنه: كان إذا خطب يسيل عرقاً،ولا يعيد كلمة، ولا يتوقف، ولا يقعد حتى يفرغ، وقدم على معاوية وفد من خراسان، فيهم سعيد بن عثمان فطلب سحبان فأتي به فقال: تكلم! فقال: انظروا لي عصا تقوم من أودي (اعوجاجي) فقالوا: وما تصنع بها وأنت بحضرة أمير المؤمنين؟ قال: ما كان يصنع بها موسى وهو يخاطب ربه وعصاه في يده! فضحك معاوية. قال: هاتوا عصاه! فأخذها ثم قام فتكلم من صلاة الظهر إلى أن قامت صلاة العصر، ما تنحنح ولا سعل ولا توقف، ولا ابتدأ في معنى فخرج منه، وقد بقي عليه شيء، فما زالت تلك حالته حتى أشار معاوية بيده فأشار إليه سحبان: أن لا تقطع علي كلامي فقال معاوية: الصلاة! فقال: هي أمامك، ونحن في صلاة وتمجيد، ووعد وعيد، فقال معاوية: أنت أخطب العرب. قال سحبان: والعجم والإنس والجن.
ومما روي من خطبه البليغة: أن الدنيا دار بلاغ، والآخرة دار قرار، أيها الناس فخذوا من دار ممركم لدار مقركم، ولا تهتكوا أستاركم عند من لا تخفى عليه أسراركم، وأخرجوا إلى الدنيا قلوبكم قبل أن تخرج منها أبدانكم، ففيها حييتم، ولغيرها خلقتم، إذا هلك قال الناس: ما ترك؟ وقالت الملائكة: ما قدم؟ قال حمزة الأصفهاني في أمثاله في قولهم (هو أبلغ من سحبان وائل) كان من خطباء العرب وبلغائها وفي نفسه يقول: لقد علم الحي اليمانون أنني
إذا قلت أما بعد أني خطيبها
17- الرجل الحضرمي
إن من أصحاب الأجسام العظيمة والمعمرة ذلك الرجل الحضرمي، الذي حضر مجلساً لعلي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، كما ورد في التيجان. عن هشام عن أبي يحيى السجستاني عن مرة بن عمر الآيلي عن الأصبغ ابن نباتة قال: إنا لجلوس ذات يوم عند علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) في خلافة أبي بكر (رضي الله عنه) إذا أقبل رجل من حضرموت لم أر قط أطول منه، ولا أكره وجهاً. فاستشرفه الناس وراعهم منظره، وأقبل حتى وقف فسلم وحيا ثم جلس، فكان كالقائم، فكلم أدنى القوم إليه مجلساً وقال: من عميدكم؟ فأشاروا إلى علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه- وقالوا: هذا ابن عم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعالم الناس والمأخوذ عنه، فنظر إليه علي فقال: اجلس أيها الرجل! فقال: أنا جالس أيها الهادي، فقال له علي: من حضرموت أنت؟ قال: نعم. ثم قام إليه الحضرمي فقال:
اسمع كلامي هداك الله من هادي
أن وادي السكاك إلى
ذات الأماحل من بطحاء أجياد
تلفه الدمنة البوغاء معتمداً
إلى السداد وتعليم بارٍشاد
سمعت بالدين دين الحق جاء به
محمد وهو قرم الحضر والبادي
فجئت منتقلاً من دين طاغية
ومن عبادة أوثان وأنداد
ومن ذبائح أعياد مضللة
نسيكها خائب ذو لوثة عادي
فادلل على القصد واجل الريب عن لبدى
بشرعة ذات إيضاح وإرشاد
والمم بفضل هديت اليوم من شعثي
ثم اهدني إنك المشهور في النادي
إن الهداية، والإيمان شافية
عن العمى والتقى من خير أزواد
وليس يفرج ريب الكفر عن أحد
أضله الجهل إلا حية الوادي
قال: فأعجب علي من شعره وقال له علي: لله درك ما أرصن شعرك، قال: فسر به وشرح له الإسلام فأسلم على يديه، وحسن إسلامه، ثم إنّ علياً سأله فقال له: أعالم أنت بحضرموت؟ قال: إذا جهلتها ما أعلم غيرها. قال: أتعرف موضع الأحقاف؟ قال له: كأنك تسأل عن قبر هود النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال له علي: لله درك ما أخطأت. قال: نعم خرجت في عنفوان شبابي في غلمة من الحي، ونحن نريد أن نأتي قبره، لبعد صيته أو صوته فينا، وكثرة ذكره، فسرنا في بلاد الأحقاف أياماً وفينا رجل عرف الموضع حتى انتهينا إلى كثيب أحمر، فيه كهوف مشرفة، فانتهينا إلى كهف منها فدخلناه، فأمعنا فيه طويلاً، فانتهينا إلى حجرين قد طبق أحدهما على الآخر، وفيه خلل يدخل فيه النحيف مجانفاً، فدخلته فرأيت رجلاً على سريره، فإذا مسست شيئاً من جسده أصبته رطباً لم يتغير، ورأيت عند رأسه كتاباً بالمسند: أنا هود النبي آمنت بالله، وأشفقت على عاد بكفرها، وما كان لأمر الله مرد. فقال لنا علي (رضي الله عنه): كذلك سمعت من أبي القاسم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 18- أبو الطمحان القضاعي
اسمه حنظلة بن الشرقي، ويكنى أبو الطمحان ابن جسر بن شيع الله القضاعي. عاش أبو الطمحان القيني مائتي سنة (200) فقال في ذلك:
حنتني حانيات الدهر حتى
كأني خاتل أدنو لصيد
قريب الخطو يحسب من رآني
ولست مقيداً أني بقيد
وهو القائل:
وإني من القوم الذين هُمُ هُمُ
إذا مات منهم سيد قام صاحبه
نجوم سماء كلما غاب كوكب
بدا كوكب تأوي إليه كواكبه
أضاءت لهم أحسابهم ووجوهم
دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه
وما زال منهم حيث كان مسوداً
تسير المنايا حيث سارت كتائبه
وكان أبو الطمحان شاعراً فارساً. وكان من المخضرمين، فقد عاش فترة طويلة في عهد ما قبل الإسلام، وأدرك الإسلام. وكان له قبل الإسلام مصادفة عجيبة بل مثيرة وهامة من وجهة نظر تاريخية حسبما ذكره ابن الكلبي. عن أبيه قال: خرج قيسبة بن كلثوم السكوني وكان ملكاً يريدالحج وكانت العرب تحج في الجاهلية فلا يعرض بعضها لبعض، فمر ببني عامر بن عقيل، فوثبوا عليه فأسروه وأخذوا ماله، وما كان معه، وألقوه في القد (جلد غير مدبوغ) فمكث فيه ثلاث سنين، وشاع باليمن أن الجن استطارته، فبينما هو في يوم شديد البرد في بيت عجوز منهم إذ قال لها: أتاذنين لي أن آتي الأكمة فأتشرق عليها فقد أضربي القُر؟ فقالت له: نعم وكانت عليه جبة له حبرة لم يترك عليه غيرها. فتمشى في أغلاله وقيوده حتى صعد الأكمة، ثم أقبل يضرب ببصره نحو اليمن وتغشاه غبرة فبكى ثم رفع طرفه إلى السماء وقال: اللهم ساكن السماء فرج لي مما أصبحت فيه. فبينا هو كذلك إذ عرض له راكب يسير، فأشار إليه أن أقبل، فأقبل الراكب. فلما وقف عليه قال له: ما حاجتك يا هذا؟ قال: أين تريد؟ قال: أريد اليمن. قال: ومن أنت؟ قال: أنا أبو الطمحان القيني. فاستعبر باكياً. فقال أبو الطمحان: من أنت؟ فإني أرى عليك سيما الخير ولباس الملوك، وأنت بدار ليس فيها ملك. قال: أنا قيسبة بن كلثوم السكوني خرجت عام كذا وكذا أريد الحج. فوثب عليّ هذا الحي فصنعوا بي ما ترى، وكشف عن أغلاله. وقيوده فاستعبر أبو الطمحان، فقال له قيسبة: هل لك في مائة ناقة حمراء؟ فقال له ما أحوجني إلى ذلك، فأنخ فأناخ، ثم قال له: معك سكين؟ قال: نعم. قال: ارفع لي عن رحلك، فرفع له عن رحله حتى بدت خشبة مؤخرة فكتب عليها قيسبة بالمسند وليس يكتب به غير أهل اليمن: بلغا كندة الملوك جميعاً
حيث سارت بالأكرمين الجمال
إن رووا العين بالخميس عجالا
وأصدروا عنه والروايا ثقال
هزئت جارتي وقالت عجيباً
إذ رأتني في جيدي الأغلال
إن تريني عاري العظام أسيراً
قد براني تضعضع واختلال
فلقد أقدم الكتيبة بالسي
ف علي السلاح والسربال
وكتب تحت الشعر إلى أخيه أن يدفع إلى أبي الطمحان مائة ناقة، ثم قال له: اقرئ هذا قومي فإنهم سيعطونك مائة ناقة حمراء. فخرج تسير به ناقته حتى أتى حضرموت، فتشاغل بما ورد له، ونسي أمر قيسبة حتى فرغ من حوائجه، ثم سمع نسوة من عجائز اليمن يتذاكرن قيسبة ويبكين، فذكر أمره فأتى أخاه الجون بن كلثوم وهو أخوه لأبيه وأمه فقال له: يا هذا إني أدلك على قيسبة، وقد جعل لي مائة من الإبل، قال له: فهي لك فكشف عن الرحل، فلما قرأه الجون أمر له بمائة ناقة ثم أتى قيس بن معد يكرب الكندي أبا الأشعث بن قيس، فقال له: يا هذا إن أخي في بني عقيل، أسير فسر، معي بقومك فقال: تسير تحت لوائي حتى أطلب ثأرك وأنجدك وإلا فامض راشداً. فقال له الجون: مس السماء أيسر من ذلك، وأهون علي مما خبرته. وضجت السكون ثم فاءوا ورجعوا، وقالوا له: وما عليك من هذا هو ابن عمك ويطلب لك بثأرك. فأنعم له بذلك، وسار قيس وسار الجون معه تحت لوائه، وكندة والسكون معه، فهو أول يوم اجتمعت فيه السكون وكندة لقيس، وبه أدرك الشرف. فسار حتى أوقع بعامر بن عقيل فقتل منهم مقتلة عظيمة، واستنقذ قيسبة.
وقال في ذلك سلامة بن صبيح الكندي:
لا تشتمونا إذ جلبنا لكم
ألفي كميت كلها سلهبه
نحن أبلنا الخيل في أرضكم
حتى ثأرنا منكم قيسبه
واعترضت من دونهم مذحج
فصادفوا من خيلنا مشغبه
وهكذا تمكن أبو الطمحان من إيصال الرسالة، وإنقاذ الملك قيسبة السكوني، من أسر بني عامر بن عقيل. والقصة غنية بالدلالات الثقافية والأبعاد التاريخية، ففيها دليل على أن الغالبية من اليمنيين كانوا يقرءون ويكتبون خط المسند إلى عهد قريب من الإسلام، وبرهان على أن الشعر كان يكتب بالخط المسند، وهذا يعني أنه لا بد أن يعثر عن الأدب اليمني الزاخر شعراً ونثراً وإخراجه إلى حيز الوجود لتتمتع به الأجيال، ويزيد من وعيها وثقافتها يوماً ما وليس ذلك ببعيد إن شاء الله.!.
19- زيد الخيل
هو زيد بن مهلهل بن يزيد بن منهب بن عبد رضا بن محلس بن ثور بن عدي بن كنانة بن مالك بن نائل بن نبهان بن الغوث بن جلهمة وهو طيء، سمي بذلك لأنه كان يطوي المناهل في غزواته - ابن أدد بن مَذْحِج بن زيد بن يشجب الأصفر ابن عريب بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن عابر، وهو هود النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذا نسبه النسابون والله أعلم. (قدم زيد الخيل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وفد طيء سنة تسع من الهجرة فأسلم، وسماه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (زيد الخير) وقال له: ما وصف لي أحد في الجاهلية فرأيته في الإسلام إلا رأيته دون الصفة غيرك. وأقطع له أرضين في ناجية، وكان يكنى (أبا مكنف) وكان له ابنان مكنف وحارث... وكان زيد الخير، شاعراً محسناً، وخطيباً لسناً، وشجاعاً بهمة لا يهتدى من أين يؤتى كما كان كريماً جواداً.
وأكثر سفره في غاراته ومغازيه، وأياديه عند من مر عليه، وأحسن في قراه إليه، وإنما سمي زيد الخيل، لكثرة خيله، وأنه لم يكن لأحد من قومه، ولا لكثير من العرب إلا الفرس والفرسان، وكان له خيل كثيرة منها المسماة المعروفة التي ذكرها في شعره وهي ستة هي: الهطال، والكمُيت، والورد، وكامل، ودؤول ولاحق، وفي الهطال يقول:
أُقرِب مربط الهطال إني
أرى حرباً ستلقح عن حيال
وفي الورد يقول:
أبت عادةٌ للورد أن يكره القنا
وحاجة نفسي في نمير وعامر
وفي دؤول يقول:
فأقسم لا يفارقني دؤول
أجول به إذا كثر الضراب
وما يدل على شدة تعلقه بالخيل، وحبه الشديد لها، موقفه لذلك الفرس الذي وقع في أيدي بني الصيداء من بني أسد في إحدى غاراته عليهم، حيث ظل يتابع مسيرته ويلاحقهم بل وينذر بالحرب بعد الحرب إذ يقول:
يا بني الصيداء ردوا فرسي
إنما يفعل هذا بالذليل
لا تذيلوه فإني لم أكن
يا بني صيدا لمهري بالمذيل (بالمهمل)
عودوه كالذي عودته
دلج الليل وإبطاء القتيل
أحمل الزق على منسجه
فيظل الضيف نشواناً يميل
فلما تلكأوا في إعادته شن عليهم الحروب حتى ضجوا، وملوا الحرب، وقد عبر زيد الخيل عن هذا الموقف، في قوله:
ضجت بنو الصيداء من حربنا
والحرب من يحلل بها يضجر
ببنا تزجي نحوهم ضمراً
معروفة الأنساب من منسر
حتى صبحناهم بها غدوة
نقتلهم قسراً على ضمر
يدعون بالويل وقد مسهم
منا غداة الشعب ذي الهيشر
ضرب تزيل الهام ذو مصدق
يعلو على البيضة والمغفر
وكان زيد الخيل طويلاً جسيماً، موصوفاً بطول الجسم، وحسن القامة، وكان يركب الفرس العظيم الطويل، فتخط رجلاه في الأرض كأنه راكب حماراً.
وقد أثنى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على زيد بقوله: إن فيك لخصلتين يحبهما الله عز وجل ورسوله قال: وما هما يا رسول الله؟ قال: الأناة والحلم فقال زيد: الحمد لله الذي جبلني على ما يحب الله ورسوله.
أما فصاحته وبلاغة أقواله فلا تتجلى في أشعاره فقط بل وفي أقواله المنثورة، ولعل ذلك الحوار الذي دار بينه وبين عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) بحضور رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ طلب عمر من زيد أن يخبرهم عن طيء. ملوكها نجدتها، وأصحاب مرابعها، فقال زيد: في كل يا عمر نجدة وبأس وسيادة ولكل رجل من حيه مرباع، أما بنو حية فملوكنا وملوك غيرنا، وهم القداميس (سادة) القادة، والحماة الذادة، والأنجاد السادة، أعظمنا خميساً، وأكرمنا رئيساً، وأجملنا مجالس، وأنجدنا فوارس. فقال له عمر (رضي الله عنه): ما تركت لمن بقي من طيء شيئاً، فقال: بلى والله أما بنو ثعل وبنو نبهان وجرم ففوارس العدوة وطلاعو كل نجوة، ولا تحل لهم حبوة، ولا تراع لهم ندوة، ولا تدرك لهم نبوة، عمود البلاد، وحية كل واد، وأهل الأسل الحداد، والخيل الجياد، والطارف والتلاد. وأما بنو جديلة فأسهلنا قراراً، وأعظمنا أخطاراً، وأطلبنا للأوتار، وأحمانا للذمار، وأطمعنا للجار. فقال له عمر: سم لنا هؤلاء الملوك. قال: نعم، منهم عفير المجير على الملوك، وعُمر المفاخر، ويزيد شارب الدماء، والغمرة ذو الجود، ومجير الجراد، وسراج كل ظلام، ولامة. وملحم بن حنظلة هؤلاء كلهم من بني حية. وأما حاتم بن عبد الله الثعلي الجواد، فلا يجارى، والسمح فلا يبارى، والليث الضرغامة قراع كل هامة، جوده في الناس علامة لا يقر على ظلامة. فقال عمر لزيد الخيل: لله درك يا أبا مكنف فلو لم يكن لطي غيرك وغير عدي بن حاتم لقهرت بكما العرب. أما فروسيته وشجاعته فإنها تتجلى أكثر في أسره عامر بن الطفيل، وجز ناصيته. كذلك أسر الحطيئة، وكعب بن زهير، وأطلقهما بعد أن طال عليهما الأسر، وقالا مع من معهما في الأسر من بني أسد: يا زيد فادنا، قال: الأمر إلى عامر بن الطفيل فأبوا ذلك عليه فوهبهم لعامر إلا الحطيئة وكعباً فأعطاه كعب فرسه الكميت وشكا الحطيئة الحاجة فمن عليه زيد وقال:
أقول لعبدي جرول إذ أسرته
أثبني ولا يغررك أنك شاعر
أنا الفارس الحامي الحقيقة والذي
له المكرمات واللهى والمآثر
وقومي رؤوس الناس والرأس قائد
ذا الحرب شبتها الأكف المساعر
فلست إذا ما الموت حوذر ورده
وأترع حوضاه وحُمجّ ناظر (مملق)
بوقافة يخشى الحتوف تهيباً
يباعدني عنها من القب ضامر
ولكنني أغشى الحتوف بصعدتي
مجاهرة إن الكريم يجاهر
وأروي سناني من دماء غزيرة
على أهلها إذ لا ترجى الأياصر
وعن نخوته ونجدته وكرمه يسوق صاحب الأغاني هذه القصة: أصابت بني شيبان سنة ذهبت بالأموال، فخرج رجل منهم بعياله حتى أنزلهم الحيرة، فقال لهم: كونوا قريباً من الملك يصيبكم من خيره حتى أرجع إليكن. وآلى أليَّة لا يرجع حتى يكسبهن خيراً أو يموت. فتزود زاداً ثم مشى يوماً إلى الليل، فإذا هو بمهر مقيد يدور حول خباء. فقال: هذا أول الغنيمة فذهب يحله ويركبه فنودي: حل عنه واغنم نفسك، فتركه ومضى سبعة أيام حتى انتهى إلى عطن إبل مع تطفيل الشمس، فإذا خباء عظيم وقبة من أدم فقال في نفسه: ما لهذا الخباء بد من أهل وما لهذه القبة بد من رب. وما لهذا العطن بد من إبل فنظر في الخباء فإذا شيخ كبير قد اختلفت ترقوتاه كأنه نسر. قال فجلست خلفه فلما وجبت الشمس، إذا فارس قد أقبل لم أر فارساً أعظم منه ولا أجسم، على فرس مشرف ومعه أسودان يمشيان جنبيه، وإذا مائة من الإبل مع فحلها، فبرك الفحل وبركت حوله، ونزل الفارس فقال لأحد عبديه: احلب فلانة ثم اسق الشيخ فحلب في عس حتى ملأه ووضعه بين يدي الشيخ، وتنحى فكرع منه الشيخ مرة أو مرتين، ثم نزع فثرت إليه فشربه فرجع إليه العبد. فقال: يا مولاي قد أتى على آخره ففرح بذلك وقال: احلب فلانة فحلبها ثم وضع العس بين يدي الشيخ، فكرع منه واحدة ثم نزع، فثرث إليه فشرب نصفه وكرهت أن آتي على آخره فأتهم، فجاء العبد فأخذه، وقال مولاه قد شرب وروي فقال: دعه ثم أمر بشاة فذبحت وشوى للشيخ منها ثم أكل هو وعبداه فأمهلت حتى إذا ناموا وسمعت الغطيط ثرث إلى الفحل فحللت عقاله وركبته فاندفع بي، وتبعته الإبل فمشيت ليلتي حتى الصباح، فلما أصبحت نظرت فلم أر أحداً فشللتها شلا عنيفاً حتى تعالى النهار ثم التفت التفاتة فإذا أنا بشيء كأنه طاير فما زال يدنو حتى تبينته فإذا هو فارس على فرس، وإذا هو صاحبي بالأمس، فعقلت الفحل ونثلت كنانتي، ووقفت بينه وبين الإبل فقال: أحلل عقال الفحل فقلت: كلا والله لقد خلفت نسيات بالحيرة وآليت ألية لا أرجع حتى أفيدهن خيراً أو أموت. قال: فإنك لميت حل عقاله لا أم لك! فقلت: ما هو إلا ما قلت لك، فقال: إنك لمغرور: انصب لي خطامه واجعل فيه خمس عجر (عقد) ففعلت. فقال: أين تريد أن أضع سهمي؟ فقلت في هذا الموضع فكأنما وضعه بيده. ثم أقبل يرمي حتى أصاب الخمسة بخمسة أسهم فرددت نبلي وحططت قوسي ووقفت مستسلماً، فدنا مني وأخذ السيف والقوس ثم قال: ارتدف خلفي، وعرف أني الرجل الذي شربت اللبن عنده فقال: كيف ظنك بي؟ قلت: أسوأ ظن. قال: وكيف؟ قلت: لما لقيت من تعب ليلتك وقد أظفرك الله بي، فقال: أترانا كنا نهيجك، وقد بت تنادم مهلهلاً؟ قلت: أزيد الخيل أنت؟ قال: نعم أنا زيد الخيل فقلت: كن خير آخذ، فقال: ليس عليك بأس، فمضى إلى موضعه الذي كان فيه ثم قال: أما لو كانت هذه الإبل لي لسلمتها إليك ولكنها لبنت مهلهل، فأقم علي فإني على شرف غارة. فأقمت أياماً ثم أغار على بني نمير بالملح فأصاب مائة بعير، فقال: هذه أحب إليك أم تلك؟ قلت: هذه، قال: دونكها. وبعث معي خفراء من ماء إلى ماء حتى وردوا بي الحيرة.
20- عمرو بن معد يكرب الزُبيدي
إنه عمرو بن معد يكرب بن عبد الله بن عمرو بن عصم بن زُبيد بن منبه بن سلمة بن مازن بن ربيعة بن منبه بن صعب بن سعد العشيرة بن مذحج بن أدد بن زيد بن يشجب بن عُريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن هود عليه السلام، ويكنى أبا ثور. تعمر حوالي150 سنة، وعن ضخامة جسمه، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الحمد لله الذي خلقنا وخلق عمراً تعجباً من عظم خلقه. وعن إسلامه قال أبو عمرو الشيباني: كان من حديث عمرو بن معد يكرب أنه قال لقيس بن مكشوح المرادي وهو ابن أخت عمرو حين انتهى إليهم أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا قيس إنك سيد قومك، وقد ذكر لنا أن رجلاً من قريش يقال له (محمد ) قد خرج بالحجاز يقال له نبي فانطلق بنا حتى نعلم علمه، فرفض قيس، وسفه رأيه، فقال عمرو: أمرتك يوم ذي صنعا أمراً بيناً ورشده
أمرتك باتقاء الله تأتيه وتتعده
وقد روى جويرية بن أسماء قصة إسلام عمرو فقال: أقبل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غزاة تبوك يريد المدينة، فأدركه (عمرو) في رجال من زُبيد فتقدم عمرو ليلحق برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأمسك حتى أوذن به فلما تقدم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسير، قال: حياك إلهك أبيت اللعن، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن لعنة الله وملائكته والناس أجمعين على الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، فآمن بالله يؤمنك يوم الفزع الأكبر فقال عمرو بن معد يكرب: وما الفزع الأكبر؟ قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنه فزع ليس كما تحسب وتظن: إنه يصاح بالناس صيحة لا يبقى حي إلا مات إلا ما شاء الله من ذلك، ثم يصاح بالناس صيحة لا يبقى ميت إلا نشر، ثم تلج تلك الأرض بدوي تنهد منه الأرض، وتخر منه الجبال وتنشق السماء انشقاق القبطية الجديد، ما شاء الله في ذلك، ثم تبرز النار فينظر إليها حمراء ... إلخ.
يا عمرو أسلم تسلم فأسلم، وبايع لقومه على الإسلام، وذلك منصرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غزاة تبوك، وكانت في رجب سنة تسع. وعن شجاعة عمرو وقوة بأسه، يقول صاحب الأغاني: أخبرني أبو خليفة قال: حدثنا أحمد بن عبد العزيز قال: حدثنا عمرو بن شبة قال: حدثنا أحمد بن جناب عن عيسى بن يونس عن إسماعيل عن قيس: أن عمر (رضي الله عنه) كتب إلى سعد بن أبي وقاص إني قد أمددتك بألفي رجل عمرو بن معد يكرب، وطليحة بن خويلد الأسدي فشاورهما في الحرب. وتتكرر نفس الرواية عن الرواة أنفسهم قال: شهدت القادسية وكان سعد على الناس، فجاء رستم فجعل يمر بنا وعمرو بن معد يكرب الزُبيدي يمر على الصفوف، يحض الناس، ويقول: يا معشر المهاجرين كونوا أسداً أغنى شأنه، فإنما الفارسي تيس بعد أن يلقى نيزكه الرمح القصير). قال: وكان مع رستم أسوار لا تسقط له نشابة. فقلنا له: يا أبا ثور اتق ذاك، فإنا لنقول له ذلك إذ رماه رمية فأصاب فرسه وحمل عليه عمرو فاعتنقه ثم ذبحه. وقال علي بن محمد المدائني: وأخبرنا محمد بن الفضل وعبد ربه بن نافع عن إسماعيل عن قيس بن أبي حازم قال: حضر عمرو والناس وهم يقاتلون، فرماه رجل من العجم بنشابة فوقعت في كتفه وكانت عليه درع حصينة فلم تنفذ وحمل على العلج فعانقه فسقطا إلى الأرض، فقتله عمرو وهو يقول:
أنا أبو ثور وسيفي ذو النون
أضربهم ضرب غلام مجنون
يال زُبيد إنهم يموتون
وقال أبو عبيدة في رواية أبي زيد عمر بن شبة: شهد عمرو بن معد يكرب القادسية وهو ابن مائة وست سنين، وقال بعضهم بل ابن مائة وعشر. قال: ولما قتل العلج عبر نهر القادسية، هو وقيس بن مكشوح المرادي، ومالك بن الحارث الأشتر. قال: فحدثني يونس أن عمرو بن معد يكرب كان آخرهم، وكانت فرسه ضعيفة، فطلب غيرها فأتي بفرس فأخذ بعكوة ذنبه وأخلد به إلى الأرض فأقعى الفرس فرده، وأتي بآخر ففعل به مثل ذلك، فتحلل ولم يقع، فقال: هذا على كل حال أقوى من تلك وقال لأصحابه إني حامل وعابر الجسر فإن أسرعتم بمقدار جزر الجزرو، وجدتموني وسيفي بيدي أقاتل به تلقاء وجهي وقد عقر بي القوم، وأنا قائم بينهم، وإن أبطأتم وجدتموني قتيلاً بينهم، وقد قتلت وجردت. ثم انغمس فحمل في القوم فقال بعضهم: يا بني زُبيد تدعون صاحبكم والله ما نرى أن تدركوه حياً. فحملوا فانتهوا إليه وقد صرع عن فرسه، وقد أخذ برجل فرس رجل من العجم فأمسكها، وأن الفارس ليضرب الفرس فما تقدر أن تتحرك من يده. فلما غشيناه رمى الأعجمي بنفسه وجلى فرسه فركبه عمرو وقال: أنا أبو ثور، كدتم والله تفقدونني قالوا: أين فرسك قال: رمي بنشابه فشب فصرعني وعار ذهب منفلتاً.
وقال الواقدي: حدثني ابن أبي سبرة عن موسى بن عقبة عن أبي حبيبة مولى آل الزبير قال: حدثنا نيار بن مكرم الأسلمي قال: شهدت القادسية فرأيت يوماً اشتد فيه القتال بيننا وبين الفرس ورأيت رجلاً يفعل يومئذ بالعدو أفاعيل يقاتل فارساً ثم يقتحم عن فرسه ويربط مقوده في حقوه فيقاتل فقلت: من هذا جزاه الله خيراً؟ قالوا: هذا عمرو بن معد يكرب.
وأوفده سعد بن أبي وقاص بعد فتح القادسية إلى عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) فسأله عمر بن سعد فقال: هو لهم كالأب، أعرابي في نمرته، أسد في نامورته، ويقال في ناموسته، نبطي في حبوته، يقسم بالسوية، ويعدل في القضية وينفر في السرية. وينقل إلينا حقنا كما تنقل الذرة، فقال عمر وقد كان كتب إليه سعد يثني على عمرو: لشد ما تقارضتما الثناء. وسأله عمر عن الحرب فقال: مرة المذاق. إذا قلصت عن ساق، من صبر فيها عُرف، ومن ضعف عنها تلف، وهي كما قال الشاعر:
الحرب أول ما تكون فتية
سعى بزينتها لكل جهول
حتى إذا استعرت وشب ضرامها
عادت عجوزاً غير ذات خليل
شمطاء جزت رأسها وتنكرت
مكروهة للشم والتقبيل
وسأله عن السلاح فقال: الرمح أخوك وربما خانك، والنبل منايا تخطئ وتصيب، والترس هو المجن، وعليه تدور الدوائر، والدرع مشغلة للفارس، متعبة للراجل. وإنها لحصن حصين، وسأله عن السيف فقال: ثم قارعتك أمك عن الثكل، قال عمر: بل أمك، قال: الحمى أضرعتني!!.
وعن موته هنالك روايتان، الأولى: تقول: أنه شهد مع النعمان بن مقرن المزني فتح نهاوند، فقتل هنالك مع النعمان وطليحة بن خويلد فقبورهم هناك، بموضع يقال له الاستفيذهان.
أما الرواية الثانية فتقول: كانت مغازي العرب إذ ذاك الري ود ستبي، فخرج عمرو مع شباب من مذحج حتى نزل الخان الذي دون روذة، فتغذى القوم ثم ناموا وقام كل رجل منهم لقضاء حاجته. وكان عمرو إذا أراد الحاجة لم يجترئ أحد أن يدعوه وإن أبطأ، فقام الناس للرحيل وترحلوا، إلا من كان في الخان الذي فيه عمرو، فلما أبطأ صحنا به: يا أبا ثور. فلم يجبنا وسمعنا علزاً شديداً، ومراساً في في الموضع الذي دخله، وقصدناه فإذا به محمرة عيناه، مائلاً شدقه مفلوجاً، فحملناه على فرس وأمرنا غلاماً شديد الذراع فارتدفه ليعدل ميله فمات بروذة، ودفن على قارعة الطريق.
والسؤال هو هل اغتيل عمرو بن معد يكرب شأنه في ذلك شأن غيره من بعض كبار القادة مثل سعد بن عبادة وغيره من العلماء والشعراء، إنه سؤال يطرح حيال كل قضية من هذا النوع، وأمام كل شخصية يمنية من هذا العيار؟!! والأرجح أنه اغتيل كما توحى هذه العبارة. وسمعنا عِلزاً شديداً ، ومراناً في الموضع الذي دخله!!.
هذا وقد رثته زوجته الجعفية فقالت:
لقد غادر الركب الذين تحملوا
روذة شخصاً لا ضعيفاً ولا غمرا
فقل لزُبيد بل لمذحج كلها
فقدتم أبا ثور سنانكم عمرا
فإن تجزعوا لا يغنِ ذلك عنكم
ولكن سلوا الرحمن يعقبكم صبرا رحم الله أبا ثور (عمرو بن معد يكرب) شهيد الحق والكرامة، أشجع الرجال وأعظم القادة المسلمين. كان علماً شامخاً، وسيفاً من سيوف الله بتاراً وكان أشهر من نار على علم، ولكنه سقط كجمرة في بئر. وكأنه من غمار الناس. فكيف كان ذلك؟! ومن فعله؟ ولماذا؟! رحمه الله ورضي عنه!!
21- حسان بن ثابت
هو حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار وهو تيم الله بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج بن حارثة بن ثعلبة (وهو العنقاء) بن عمرو مزيقيا بن عامر بن ماء السماء بن حارثة بن الغطريف بن امرئ القيس البطريق بن ثعلبة البهلول بن مازن بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، ويكنى أبا الوليد وأبا عبد الرحمن وأبا الحسام. وأمه الفريعة ابنة خالد بن قيس إلى آخر نسب شجرة الخزرج. تعمر حسان طويلاً فقد اتفق القوم على أن حسان عاش مائة وعشرين سنة ستون منها في الجاهلية، وستون في الإسلام.
وهو من بني النجار من قبيلة الخزرج الذين سكنوا مع إخوانهم الأوس مدينة يثرب (المدينة المنورة)، ولقبوا جميعاً فيما بعد بالأنصار، لمناصرتهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم فصيل من قبيلة الأزد العظيمة التي كانت تضخ الموجات البشرية عبر حقب طويلة من الزمن، حتى غطت معظم أنحاء شبه الجزيرة العربية وما حولها، وربما وصلت إلى أعماق أوروبا وإفريقيا والصين وجنوب شرق آسيا.
نشأ حسان في المدينة بين قومه من الأوس والخزرج. ويهود المدينة، وقد كان بين الأوس والخزرج سلسلة حروب... فكان نصيب حسان من هذه الأحداث نصيب الشاعر الذي أذاب الشعر، والشعر يذيبه، ويدعو القول والقول يجيبه نسيب العبقري المفتن الموهوب الذي ملك الفن عليه حسه واستبد به، حتى ما يكاد يعرف نفسه. وما الذي يتوقع من مثل حسان. وهو الشاعر العبقري، في مثل هذا المعترك إلا ما يؤاتيه به الفن، وتوحي به إليه ربة الشعر أو شيطانه حيث أن العبقري لا يعرف الإعتدال.
أما عن جودة شعر حسان ورأي النقاد فيه ومكانته بين شعراء عصره، وما قبله. فقد قال أبو عبيدة: فضل حسان الشعراء بثلاث. كان شاعر الأنصار في الجاهلية، وشاعر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في النبوة، وشاعر اليمن كلها في الإسلام، وقال: اجتمعت العرب على أن حسان أشعر أهل المدر. أما الأصمعي فقال: حسان بن ثابت أحد فحول الشعراء، وقال الحطيئة: أبلغوا الأنصار أن شاعرهم أشعر العرب، حيث يقول: يغشون حتى ما تهر كلابهم
لا يسألون عن السواد المقبل
وقال أبو عمر بن العلاء: حسان أشعر أهل الحضر. وقال عنه أبو الفرج الأصفهاني: إنه فحل من فحول الشعراء. كان حسان في عصر ما قبل الإسلام شاعراً فحلاً مكثراً، مجيداً في كل أغراض الشعر، وبالذات أغراض المدح، والحماسة والذم، دافع عن قومه وذكر بأمجاد أجداده الأقدمين أولي الحضارة والمجد. وبعد إسلامه كرس جهده في مدح الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتمجيد رسالته والإشادة ببطولات المسلمين ضد المشركين، ولم ينس وهو في غمرة حماسه في الدفاع عن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصحبه، والتبشير برسالته الخالدة أن يشيد بدور قومه (الأوس والخزرج- الأنصار) في نصرة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحمايته والفتك بأعدائه وفي سبيل نشره الدعوة وإعلاء شأن الرسالة حتى رسخت أقدامها على الأرض، يقول حسان في الفخر والاعتزاز بنسبه:
ألم ترنا أولاد عمرو ابن عامر
لنا شرف يعلو على كل مرتقي
رسا في قرار الأرض ثم سمت به
فروع تسامي كل نجم محلق
ملوك وأبناء الملوك كأننا
سواري نجوم طالعات بمشرق
إذا غاب منها كوكب لاح بعده
شهاب متى ما يبدُ للأرض تشرق
لكل نجيب منجب زخرت به
مهذبة أعراقها لم ترهق
كجفنة والقمقام عمرو بن عامر
وأولاد ماء المزن وابني محرق
وحارثة الغطريف أو كابن منذر
ومثل أبي قابوس رب الخورنق
أولئك لا الأوغاد في كل مأقط
يردون شأو العارض المتألق
بطعن كإبزاغ المخاض رشاشه
وضرب يزيل الهام من كل مفرق
أتانا رسول الله لما تجهمت
له الأرض يرميه بها كل موفق
تطرده أفناء قيس وخندف
كتائب أن لا تغدُ للروع تطرق
فكنا له من سائر الناس معقلا
أشم منيعاً ذا شماريخ شهق
مكللة بالمشرفي وبالقنا
بها كل أظمى ذي غرارين أزرق
تذود بها عن أرضها خزرجية
كأسد كراء أو كخبة تمنق
ؤازرها أوسية مالكية
رفاق السيوف كالعقائق ذلق
نفى الذم عنها كل يوم كريهة
طعان كتضريم الإباء المحرق
وإكرامنا أضيافنا ووفاؤنا
بما كان من إل علينا وموثق
فنحن ولاة الناس في كل موطن
متى ما نقل في الناس قولاً نصدق
وفق في أحكامنا حكماؤنا
إذا غيرهم في مثلها لم يوفق
وقال في مدح الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وأحسن منك لم تر قط عيني
وأجمل منك لم تلد النساء
خلقت مبرءاً من كل عيب
كأنك قد خلقت كما تشاء
وقال أيضاً في مدحه عليه الصلاة والسلام:
أغرُّ عليه للنبوة خاتم
من الله مشهود يلوح ويشهدُ
وضم الإله اسم النبي إلى اسمه
ذا قال في الخمس المؤذن أشهد
وشق له من اسمه ليجله
فذو العرش محمود وهذا محمد
نبي أتانا بعد يأس وفترة
من الرسل والأوثان في الأرض تعبد
فأمسى سراجاً مستنيراً وهادياً
يلوح كما لاح الصقيل المهند
وأنذرنا ناراً وبشر جنة
وعلمنا الإسلام فاللهُ يحمد
وأنت إله الخلق ربي وخالقي
بذلك ما عمرت في الناس أشهد
تعاليت رب الناس عن قول من دعا
سواك إلهاً أنت أعلى وأمجد
لك الخلق والنعماء والأمر كله
فإياك نستهدي وإياك نعبد


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.