أيها القلب أغتنم الفرصة واخرج نغمات الحزن فلم يعد هناك وقت فذات يوم ستصمت إلى الأبد قيتارة الحياة «1» «1» وأما بنعمة ربك فحدث الرجل الذي ترك مؤلفات تربو على الخمسين مؤلفاً والذي جعل اسمه يسبق بالشاعر والناقد والمحقق والكاتب والمفكر..لم يكن رجلاً عادياً بل كان رجلاً عظيماً بكل ماتعنيه العظمة من معنى فعلى الرغم من كل تلك الحواجز والقيود التي كانت تكبل تحركاته وتعيق طموحاته والتي كانت تتمثل في إصابته وهو في ريعان شبابه بالعمى وظروفه الاجتماعية القاسية «سكنه في مدينة حيس النائية وظروفه المعيشية الصعبة..والقيد المقيت الذي فرضه عليه زبانية الإعلام والثقافة بعزلة وأقصاه عن كل مؤسساتهم الثقافية والإعلامية.. «مساحة الضوءلهم وحدهم...وليخرس الأبدعوالأجود«2» إلا أن كل ذلك ماكان ليقف في طريق قيثارة الحياة فعلى مدى ثلاثين عاماً ماسمعته شكا أو تذمر «فقده بصره، بل اعتبر ذلك الابتلاء فضلاً كبيراً ونعمة عظيمة وكان يرفض كل العروض التي عرضت عليه من بعض أصدقائه لعلاجه خارج اليمن. «أوما أمسيت في ظلمائها قمراً ترشف الأقمار حسنه خالق الأكوان ألقاك على فوهة البركان نفساً مطمئنه إن من ألقاك في أعماقها كم تولاك بإلطاف ومنه» «3» قنع من الحياة بالفتات وكم من الليالى والأيام بات طاوياً..واتخذ لنفسه مبادئ صارمة ماحاد عنها ولامال تمثلت هذه المبادئ في معرفته لنفسه وكثيراً ماكان يردد هذا البيت للطفرائي.. فمالي بنفسي عرفاني بقيمتها فصنتها عن فسيلة در مبتذل لكن هذا لايهمني أنه كان مغروراً أو نرجسياً إنما كان لايغمط نفسه حقاً عرف حجم كل تلك البراهين والأوزاغ وعرف قدر نفسه فاعطاها حقها ومابخسها شيئاً فدع الأوزاع لاتحفل به وأصبو للعلياء في أرفع قنه بين ألحانك زرياب فهب للمدى قيثار زرياب ومزنه «4» ثاني تلك المبادئ: التفرغ للعلم فمابقي من العمر لايضيع في مقايل وثرثرات وخصومات «إن غبن العمر أن تهدره في إشاعات وثارات وإحنه» «5» وثالث تلك المبادئ نمي موهبتك ووسع اهتماماتك فالمرء حيث يضع نفسه والموفق العارف هو الذي لايرضى بالدون وتنامى بمواهبه وقدراته إلى الأفق «6». «2» قرن هجري جديد «عام هجري حزين» والعالم الإسلامي يستقبل القرن الرابع عشر الهجري أقامت B.B.C أو مان يسمى بهيئة الإذاعة البريطانية مسابقة شعرية بهذه المناسبة ومن بين عشرات الالاف من القصائد فازت مشاركة «قيثارة الحياة» بالمرتبة الأولى: الدجى وصنع ودار الأرق وابتهالات الرسول الأعظم «7» ولقد كان لهذا التكريم الموفق أثره الطيب في نفسيته..الأمر الذي شجعه على مواصلة الشذو..وفي ذات مناسبة والعالم الإسلامي يحتفل بالعام الهجري الجديد «1428ه» كان يرحمه الله مشغولاً باستقبال عالم آخر ويستعد لتكريم مختلف تكريم طالما رجا الله عزوجل وتوسل إليه بأن يكون من أهله. «3» الأزيب الذي لايرحم وأبو علي الأزيب أول مانشرت له من مشاركات أدبية كانت قصيدة بعنوان «إلى الأزيب الذي لايرحم» في مجلة الحكمة اليمانية آواخر الستينات «قبل إصابته بفقد للبصر والأزيب الذي قصده هو تلك القوى الغاشية التي وقفت في طريقه وعرقلت جهوده في إنشاء ناد ثقافي بمديرية حيس: ماذا تريد من الفراس النامي تهوى بهامته إلى الأقدام اهذرت زرعاً كان أبسط حقه حق البقاء كعوسج وثمام «8» واسجل هنا ملاحظتين هامتين الأولى: إنه باستثناء القصيدة السابقة فإن كل كتابات المرحلة الضبابية «وقد أطلق هذا الاسم على الفترة التي عاشها قبل إصابته بفقد البصر» قد أحرقها بنفسه ولم يكن يتحرج يرحمه الله منها ولهذا سمحت لنفسي هنا بالحديث عنها..الملاحظة الثانية: الأزيب هي ريح موسمية تهب من الجنوب الغربي تقتلع ماتستطيع عليه ولكنها مع ذلك رياح يتفاءل بها المزارعون فهي تعني لهم بداية موسم خير حافل بالعطاء..وسوف تطالع في ديوان سجادة الخضر قصيدة تحكي هذا الجانب «إلى أبي علي الأزيب» وهو اسم الأزيب السابق..يقول في مطلعها ليخفقك يااخا تشرين رس له في نفس ذي الأشجان نفس «9» وواضع للمتأمل لاتضاد بين القصيدتين فهناك تحدث عن جبروت الأزيب وهنا عن نفه. «4» أنها الأشياء الصغيرة «وشاي يقدمه أنور هو العطر والمسك والعنبر وسل عبد قادرنا إنه يناديه من مصره الأزهر ومثل علي الفتي اللالمعي وياليته عندنا يحضر» حكاية الأبيات السابقة ترجع إلى تلك المرحلة الجميلة من عمري أيام الطفولة..والصفاء! فبعد أن فرغنا من تناول طعام غداء ذهبت في حاجة لي واحضر أنور «10» الشاي فقال على البداهة البيت الأول فقال عبدالقادر «11» وأنا فقال ايضاً على البداهة البيت الثاني فقالا له وعلي «3» فقال البيت الثالث وعلى بساطة الأبيات إلا أنَّا نستشف منها أريحيته وبساطته مع تلامذه وأولاده وسرعة بداهته ومثل هذا كثير في حياته كأتي إليه ابن اخته حاملة ابنها منصور فيقول على الفور «قمر في يد القمر جاء كالطل كالزهر قلت مالاسم قيل لي هو منصور بن علي» وصديق رزق مولود اسماه سيبويه يرسل إليه يخبره فيجيبه على الفور مبارك رائحة التفاح وبهجة الصباح والمساء «سيبويه باللغة الفارسية» ومن الأشياء الصغيرة في حياته أنه كان يحب سماع أم كلثوم إلا أنه في الفترة الأخيرة عدل عن ذلك بحجة تفاؤله بها فكان يقول لنا «إنني بعد سماع أم كلثوم أتوقع أحداثاً مزعجة». كان يتفق مع سقراط في مقولته «تكلم حتى أراك» ليست تلك الرؤية البصرية بل تلك الرؤية العقلية وكان يصدر أحكاماً غالباً ماكانت موفقة على شخص من أول لقاء.. ومن الأشياء الصغيرة التي نحب أن نشير إليها هنا أنه كان لاينام الليل إلا قليلاً ومعظم نومه كان بعد تناوله طعام الصبوح في السابعة صباحاً وحتى وقت أذان صلاة الظهر. وكان يفرح كثيراً برؤياه المنامية وكثيراً ماكان يلتقي أحباءه وأصدقاءه الروحانيين وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة. وعندما كان يسجل أفكاره وقصائده كان يسجلها على باطن أصابعه ثم عند الأملاء يبدأ بإفراغ حمولتها واحدة بعد أخرى تماماً مثلما تتفتح أزهار البرقوق «13». «5» صديق المتنبي صديق الحقيقة المتنبي شاعره العظيم والذي لاتفتر لسانه عن ترديد أبياته في كل موقف ومناسبة حتى لتخاله حافظاً لديوانه وعلى ذكر ديوان المتنبي فلقد كان أول ديوان اقتناه ولقد رفض استبدال تلك النسخة المهترئة بنسخة أخرى جديدة أهديت له وأهداها بدوره إلى أحد تلاميذه. من حبه لهذا الشاعر أدرج اسمه ضمن موسوعته التأريخية «كواكب يمنية في سماء الإسلام». على الرغم من عدم وجود مايبرر ذلك سوى نسب جعفي بعيد» هذه الصداقة والمحبة لهذا الشاعر لم تكن لتجعله يبرر له غروره ونرجسيته وتصرفاته الحمقاء «كان المتنبي طامعاً في الحكم وعجز أن يحسن معاشرته لزملائه في بلاط سيف الدولة وحالة نرجسيته المهووسة بذات عن حسن تخاطبه مع غيره قال عن العبدالصالح كافور شر ماقاله ضيف عن مضيفه.. لاشيء أقبح من فحل له ذكر تقوده أمه ليست لها رحم ولايخجل بعد ذلك أن يخاطبه: أبا المسك هل في الكأس فضل لنا له فإني أغني منذ حين وتشرب معرضاً بطلبه إمارة وأغلب الظن أنه لو أعطي مقاطعة صغيرة في الصعيد لما أحسن إداراتها «14» ماأردت أن أقوله هنا إن تلك القيثارة ماشذت إلابالحق ماتزلفت ولاتملقت في شذوه أعطت كل ذي حق حقه حتى عند حديثها عن الأعلام السياسية «الرئيس صالح والشيخ الأحمر والعميد علي محسن» وهو الأمر الذي عابها الكثيرون عليه من محب وحاقد ماشططت وماجاوزت الحق ماقصدت إلا توثيق مرحلة تأريخية «15» وسد ثغرة نقص في المكتبة اليمنية «16» وإعطاء كل ذي حقه «17». «6» ألبستك الغيوم ياصنعاء سندساً أخضر من المدن التي كان لها الأثر الكبير في حياته حيس مسقط رأسه وزبيد وتعز و..و.. ولكن تبقى صنعاء معشوقته الأولى من بين المدائن عرفها وهو لايزال غضاً طرياً في حوالي الرابعة عشره من عمره وقد حدثنا عن مرحلته تلك بشيء من التفصيل في كتاب شاعر التوحيد والعدل والجمال من ص 182 188 ومماقال عن تلك الرحلة ولو كنت امتلك بلاغه الريحاني لقلت عنها ماقاله عنها في مثل ذلك «18». وبعد هذه الرحلة والتي أعقبتها رحلات وكانت آخرها تلك التي شرفت برفقته والتي زار فيها كل من الشيخ الأحمر والعميد علي محسن الأحمر..وغيرهم مافترحبه لها بل زاد وكبر وأحب الإشارة هنا إلى أنه في أول زيارة له لصنعاء بعد إصابته بفقد البصر كتب عن تلك الزيارة قصيدة جميلة عن صنعاء ومحمديها الأربعة الإمام محمد بن علي الشوكاني والإمام محمد إسماعيل الأمير ومحمد محمود الزبيري ومحمد بن إبراهيم الوزير وقد نشرت هذه القصيدة في ديوان أجراس ومنها إليك قطعت شاسعها المجيد وجاوزت المفاوز والنجودا إلى أن أبرزت صنعاء جبيناً وأبدت كانبثاق الفجر جيداً «19» «7» في ركاب الصوفية عند تقديمه لديوان سجادة الخضر أعتقد الدكتور الشميري «20» أن صديقه بعكر قد انضم بديوانه هذا إلى ركب الشعر التصوفي وأنه قد فرش سجادته إلى جانب الحلاج وابن عربي وتفاجأ عندما وجد هذا الديوان ماهو إلا بساط سندسي أخضر.. فهل كان يرحمه الله صوفياً؟ المتأمل في بيئة الفقيد الاجتماعية سكنه في مدينة حيس تلك المدينة التي تسكنها الصوفية وكانت كما يظهر من كثرة التكايا الصوفية الموجودة فيها وأسماء بعض مساجدها مسجد ابن علي الدقاق ومسجد أبو علي الدقاق ومسجد البحيلاني ومسجد الشيخ أبو الحيا ومسجد ا لخامري والهتاري و... لن يستغرب مثل هذا الوصف لكنه ما إن يستعرض قراءة كتبه الأخيرة «جمرات نثرية، رمضان والقرآن» مناقب آل ابن الحيا، في ركاب ابن علوان..» حتى يتأكد له صحة هذا الوصف. ويزداد يقيناً كلما سبر أغوار تلك الكتب فهنا يدافع عن الحلاج ينبري للدفاع عنه « ولقد تشدد عليه الإمام الشوكاني في أول شبابه ثم عاد يحسن الاعتذار والتوقف عن القول فيه..» «21» وهنا يحس وهو يتحدث عن تجربة الإمام أبي حامد وكأنه يتحدث عن تجربته الروحية «22» جلال الدين الرومي والحديث عن مثنويه وأقواله عنه تفوق كل ماقاله مالك عن الخمر «23» أما عند حديثه عن قطب الصوفية في اليمن ابن علوان والذي وجده من المدلجين الذين بلغوا المنزل وذاقوا ماهنالك ذوق يقين وليس بالشطح والتخمين «24» وعن نصوصه يصفها بأنها نور على نور ومن نور «25» وأفرد له مؤلفاً خاصاً به تناول حياته وكتبه بشيء من التفصيل ونحب أن ننوه هنا إلى أن الصوفية التي اعتنقها وسار في ركبها ليست تلك الشركيات والشكليات وللطلممات والخزعبلات..الصوفية التي نقصدها هي تلك الصوفية الإصلاحية التي أصحابها مربون للمجتمع داسن عنه..وهو مانستشفه من تقديمه لنونية ابن علوان الشهيرة والتي خاطب بها الإمام المنصور بن عمر بن رسول: هذي تهامة لا دينار عندهم ولجح أبين بل صنعاء بل عدن عار عليك عمارات تشيدها وللرعية دور كلها دمن «26» «8» أفتأسي ياصيف ألا تراني؟ قبل اختتام هذه الشذرات لابد لنا من أن نستمع من قيتارة الحياة إلى سيمفونيته المفضلة ونغمها الأصيل الصيف ومفرداته الأرض الرعد المطر السحاب الفل هذا النغم الذي يكاد أن يكون كل دواوينه الشعرية الثلاثة «27» وسوف نكتفي هنا بمقطوعتين الأولى عن الرعد وأثره الساحر في نفسه لآراه بين أحبابه وأصحابه ما أن يسمع صوت الرعد حتى يطلب الاختلاء بنفسه وقد يكون في أوج غضبه ما أن يسمع صوت الرعد حتى يهبط مؤشر غضبه إلى الصفر وترتاح أعصابه.. اعطيت انمل هذا الرعد أعصابي يريحها من عذاباتي وأوصابي ينساب دندنه تنداح ممرعة ترش جدبي وتحيى ميت أعصابي «28» أما المقطع الثاني المختار من هذه السيمفونية الخالدة فإن الفضل في اختياره يعود للأستاذ عبدالغني المقرمي فهو أول من لفت الأنظار إليه «29» أترى الصيف عارفاً كيف القاه بشوق الساعات توقع الثواني ايه نيسان يانضارة عمري واخضرار الجديب من وجداني أيه نيسان ياتنفس شعري وارتفاعي على لظى أحزاني ماالذي من شذاك نيساب في النفس انسياب الغداء في الأبدان أنا آسى أن لا أراك ضحوكاً أفتاسى ياصيف الأتراني «30» إنه ليأس ونأسى جميعاً معه يرحمك الله ياوالدي الغالي ومعلمي الأول ويسكنك فسيح جناته ويجعل مانقلك إليه خيراً مهما كنت فيه أنه سميع مجيب. هوامش: 1 مقطع من قصيدة للشاعر الهندي «أسد الله غالب» من ديوانه المسمى ديوان غالب. 2 عن قصيدة بعثها الفقيد إلى أحمد عبدالغفور العطار رئيس تحرير جريدة عكاظ. 3 من قصيدة بعنوان وأما بنعمة ربك فحدث ديوان سجاده الخضر ص77. 4 نفس المصدر. 5 نفس المصدر. 6 جمرات نثرية ص15. 7 ديوان أجراس. 8 مجلة الحكمة اليمانية العدد. 9 سجادة الخضر ص46. 10 ابنه الأكبر وبه يكني. 11 اخو الشاعر وصاحب ديوان مرآة قلب. 12 كاتب هذه الأسطر وابن اخته. 13 الأشياء الصغيرة كثيرة في حياته ويصعب استقصاؤها وقد أفردنا لها بحثاً خاصاً سيرى النور قريباً. 14 النسر السبئي ص142 وانظر ترجمة المتنبي في كواكب يمنية. 15 النسر السبئي. 16 الرجل الذي أحبه الهرم والحرم. 17 مصلح بين الناس. 18 شاعر العدل والتوحيد والجمال عبدالرحمن الآنسي ص188. 19 ديوان أجراس. 20 د/عبدالولي الشميري صاحب موسوعة أعلام اليمن كانت ومازالت اياديه البيضاء على الفقيد وأسرته وله الفضل بعد الله سبحانه في طبع معظم كتبه. 21 جمرات نثريه. 22، 23 نفس المصدر. 24 ، 25 في ركاب ابن علوان. 26 نفس المصدر. 27 وهي على التوالي أجراس مطبوع، سجادة الخضر مطبوع، أنفاس تحت الطبع. «28» سجادة الخضر ص23. 29 وذلك بنشر هذه القصيدة في الصفحة الأدبية بجريدة الصحوة العدد. 30 سجادة الخضر ص74.