لبنى عبدالله : - ارتسمت على ملامحه كل علامات الدهشة والانبهار.. التمعت في عينيه نظرات وجل يائسة وكأنهما في حوار خفي وموجع يسوده ضجيج صامت لكنه يسمعه يدوي كبركان داخل خلايا رأسه.. حوار بين ماضٍ ظن أنه قد دُفن في ضريح النسيان وبين ذكريات جاءت كي تنفث عنها رماد السنين الماضية.. - اشتعل الماضي بكل ثقله وأحداثه وشخوصه بمجرد أن لاحت له من خلف حشد متواضع ممن ألف وجوههم..تثاقلت الأفكار وتعالى نحيبها..تلاطمت الكلمات وزاد صراخها..تبعثرت في مخيلته كل الأخيلة.. فأراد التأكد من صحة مايراه وبأن حرارة الشمس وجفاف الأرض لم يتحدا عليه ويشكلا خداعاً لنظره أو سراباً متموج الأبعاد يخنق الحرف على الشفاه...حينها أزاح بعضاً من الغبار عن عينيه الغائرتين ووسع فيهما مجال الرؤية وزاد من التحديث أكثر وأكثر فاتسعتا كبحر حزين ومتناقض،يضم في زرقته هموم كل الحياة وحيرة كل المثقلين بالصبر.. - كانت هي وكان هذا وجهها المليء بالغموض وابتسامتها المتناقضة كانت هي وكأن الحياة لم تتحرك من تحت أقدامه منذ أمد طويل ،ماعاد يتذكر كم مرت من سنين قاسية ذاق فيها ألم الهجر ومرارة الفراق.. مازال صوتها يتردد وهي تكرر بأنها لن تعود ولن تكون له.. عاد إليه الماضي بذكرياته وتجدد النسيان كزلزال مدمر لم يستعد لمجابهته إلا بقلب ذبيح يسكنه الألم وطعنات جارحة.. - بالرغم من جراحه الغائرة في صدره..والدموع المكتومة في صدى صوته..وبالرغم من سكين الغدر المغروسة في خاصرته.. إلا أن الحقد لم يدق باب روحه المشرعة على حبها وظل يحمل حبها كجمر يغطيه برماد يأسه ودمع أنينه.. وضحت له الرؤية وأيقن أن الماثلة أمامه هي نفسها من أراد أن يعتزل الوجود ويسكن مآقيها..يستبدل دقات قلبه بحروف اسمها..وهي نفسها من ألقت به خارج حساباتها مخططات أوراقها.. كتب لنفسه العذاب كي تهنأ بحياتها..رضي بالتعاسة لعمره الآتي ليضمن لها دمعه فرح بينما كان من نصيبه دموع طائرجريح كلما ارتفع في السماء تناثرت دماؤه لتغطي بقاع أوسع من الأرض. - تذكر كيف تعلم على يديها فلسفة القلوب الهائمة..ومعادلات الأشواق كيف صاغ من عينيها قصائد لاتُغنى إلا لها..ونسج من خيوط الشمس واحة لاتسكنها إلا هي.. فهي من أضاء لها من زيت قلبه شموعاً وهي من أحرقت بالغدر بقايا مقلتيه..وفي هذه الوهلة حدق فيها وابتسم بحزن شديد..وحزن بسعادة خفية وكأن الأقدار تحقق له أمنية قد أخمدها وفي ذات الوقت تمنى أن تحدث وأن لاتحدث.. كان لحظتها في نزاع حاد بين كل مشاعره وماضيه وحاضره..بين ماضٍ مضرج بمخالب جحودها وبين إحساسه بأن حبها لم يمت رغم كل جراحها...وبأنه سعيد وهو يضم أطيافها بين أجفانها الشاردة. - سلسلة من احتراق آماله وتطلعاته ومستقبله الضائع فيها تجددت بظهورها دونما إشارات أو علامات تنذر بوقوعها كالصخرة على قلبه المحطم...تمر من أمامه كشريط يفوح منه دخان الألم..ذكريات أفاقت وزمجرت كإعصار كاد أن يبتلعه وهو جامد عند نفس النقطة الفاصلة بينه وبين مستقبل يعده بمزيد من الخيانة والجحود والجراح وعلى يديها أيضاً.. وإلى الأن مازال يقف عند نفس النقطة الأولى وهي دائماً تأتي وترحل وتتركه جامداً كما تركته أول مرة..