طفولة غريرة لاتذبل.. نسائم لاتشيخ.. مقاهٍ تصقلها أنامل الوقت.. ومحطة يستريح على أفيائها وعتباتها المذهبة كل المسافرينتتبدل الأزمنة، وتتصلب النفوس، لكن الأماكن لاتغير مواضعها، وما يبقى حياً في الذاكرة يبقى حياً في القلوب والأرواح معاً، ولولا عواصف الوقت وتباريحه، وتكتكات عقاربه المقلقة لظلت الصور الرائعة نابعة بالسعادة تتجدد كلما تجددت الرؤيا المتفائلة، والبصائر الشاعرية، كما هو الحال مع مدينة القاعدة، تلك المدينة التي أودعتها طفولتي فأودعتني بهاءها، ومنحتها شبابي فمنحتني نضارتها.. كانت المدينة الأولى في العالم التي احتضنتني، وكنت مؤمناً أنها الوحيدة في هذا الكون، وأقصى حدوده، وكلما طالعت أحداث التاريخ، وجغرافيا الفلك ومتاهاته، لم يكن يخرج خيالي عن أروقة هذه المدينة الاسطورية، وتتشكل الأماكن بسرعةٍ فائقة في جمجمتي، فأنسب الأحداث إلى كل موضعٍ فيها، ولم أكن أحب أن أسأل أحداً خصوصاً والدي الذي قيدني بتعاليمه الصارمة، لإيماني العميق أن الخيال أروع وأبهى وأشهى من الحقيقة. أغلى الأشياء إن كل مايتسرب من بين أصابعنا لا أهمية له سوى العمر أو الحياة فإنها أغلى الأشياء التي يمكن الحرص عليها، ومثلما كان يحافظ الموسيقار عبدالوهاب على صحته وفنه حافظت على ذكرياتي ووفائي لهذه المدينة، رغم علمي المسبق بنهاية الأشياء حتى تلك التي نحافظ عليها، وسوف نظل نمضي إلى مصيرنا المحتوم سواءً شئنا هذا أم أبينا، ويبقى السؤال: ماذا بعد الموت والفناء.. هل يحتفظ الروح بالأشياء التي نحبها ونعشقها؟! وتتوالد من صلب هذه العلامة الاستفهامية آلاف الأسئلة التي تبحث لها عن إجابة في متاهات الفراغ المحتوم، والأمطار الصفراء، فأنسل من بين تسنومايتها عائداً إلى مدينتي وواقعي مستمتعاً باللحظات قبل أن تحتضر أو تتبخر، مجتراً الذكريات التي بدأت تضمر لأسقيها بالحديث عنها، والاسترحال فيها، وإبرازها على سطح الوجود، أنفخ فيها الروح، وأحرك بعض أوصالها المتجمدة، فتعانق الأشياء كل الأشياء أرواحها حتى الجمادات، وتتفتح أزهار الماضي ناثرة عبقها النفاذ على الحاضر والمستقبل، فأنظر المدينة بعين العقل وعين العين، وعين الحب، وعين الطفولة التي لم تبرح ذلك المقهى الكائن أمام مدرسة سبأ الثانوية، والسماء الشفافة ترسل سحبها الملونة الممزوجة بدموع الحوريات الفرحة.. كانت لحظات صباحية لاتموت، وخطوات متموسقة تذرع الشارع المترب المبلل، وأفق متوهج على امتداد البصر يتسع حتى اللانهاية، وأجراس النسيان تذكر الكون بأنه على هذه القشرة الجنائية توجد مدينة الأمن، الحلم الجميل تسمى القاعدة، والقاعدة في اللغة أساس الشيء وصرحه القوي الصلب.. إنها مدينة في منتصف مدينتين، ولؤلؤة في قلب جوهرتين، وجنة ضائعة في وسط روختين، وشمس في محور فلكين، وقمر ساطع مابين نجمتين إنها ابتسامة الله، ومركز عرشه الخفي واللامرئي أدنى درة إب، وأعلى حالمة تعز. سوق الثلاثاء تقع مدينة القاعدة على مبعدة خمسة وعشرين كيلومتراً من مدينة إب، وهي نفس المسافة التي تبعدها عن مدينة تعز من الاتجاه الآخر، وتتبع في التقسيم الإداري اللواء الأخضر إب، وعلى مبعدة عشرة كيلو مترات تقع مديرية ذي السفال التي تتبعها هذه المدينة، ومن أهم مناطقها العُرير التي تمتطي صهوة الجبل المسمى باسمها المحدق في وادي الجندية من جهة، ومن الجانب الآخر وادي خنوة، وإلى جانبها منطقة ضابح، و«ضابح» في اللهجة العامية بفتح الضاد، وكسر الباء شدة الغضب مع شدة الفقر، ويطلق أهل المنطقة على الرجل المعدم «ضبحان» وأحياناً تستخدم للتعبير عن الانهزام والحزن، وقد أرجأ البعض سبب هذه التسمية للرجل الأول الفقير الذي سكنها، ومن أشهر حارات هذه المدينة «المرباع» وهو سوق يجتمع فيه الناس الفلاحون منهم بالذات مرة في الأسبوع هو يوم الثلاثاء، ومن شتى المناطق المجاورة سواء من تعز أو إب، يبتاعون ويشترون المواشي بمختلف أنواعها والحبوب، والصناعات التقليدية المحلية كالمدر والمكانس المصنوعة من سعف النخيل، وغيرها، كما تتوفر في هذا اليوم كافة الاحتياجات وبأسعارٍ تتناسب مع الدخل الشحيح للمواطنين المعجونين بشقاء الحياة القاسية، وغالباً ماترتفع حوادث السرقات في هذا اليوم المزدحم بالأبرياء السذج الذين يقعون في مصيدة النصابين والمتحذلقين والمتثعلبين، وإلى جانب هذا السوق الأسبوعي، المكتظ بالضجيج ينزلق المركزي المختنق بالبهارات الحارة والحبوب والجبن البلدي والزبيب والخضروات والفواكه والذباب والمجانين والقمامة والوحل والروائح الغريبة وتتفرع من خلاله عدة شوارع مكسرة مليئة بالمطبات والحفر والبيارات الطافحة وفوق المركزي مباشرة فرزة الجعاشن المجنونة، والتي تستوقفك سياراتها الصوالين ببشرها المحشورين في بطونها، وعلى ظهورها،وفي كل موضع يكاد يسمح ليد واحدة بالتثبت والإمساك بتلابيب السلامة المهدورة.. إنها مدينة تجمع في أعماقها جميع المتناقضات، وربما أن هذا الشيء هو الوحيد الذي جعلني أتماهى في أسرارها، زد على ذلك أن أحداً لم يتطرق إليها بالسلب أو الإيجاب، رغم أنها محطة يتزود فيها المسافرون بالسعادة، ويملأون منها أعينهم بالجمال، وبطونهم بالطعام اللذيذ الذي لايمكن لأي مدينة إنتاجه. مدينة المتسولين والباعة الجائلين منذ الفجر الأول الذي أيقظ سني النائمة، والمطر الأبيض الذي أنبت الآمال المزغبة، والمراهقة المعربدة التي ابتلعت الطفولة المشاكسة،وفتحت البراعم المغلقة على مدينة غالبية سكانها باعة جائلون ومتسولون وأطفال تائهون.. منذ ذلك الزمن المنصهر ومدينة القاعدة تكاثر هذا المزيج وتغني للغلابى والمقهورين والمهمشين،وترتفع الألسن المتموسقة مرغبة في شراء بضائعها الرخيصة من بيض مسلوق، وفاين ولحوح وبسبوسة، وحبات قلا، أو كِشد كما يسميها البعض،وجبن بلدي، وحتى اليانصيب فإنهم يبيعونه والعاباً سحرية أخرى تدر على صاحبها بنصف قوت يومه أو ربعه أو لاشيء، وترتفع المآذن منادية للصلاة، وعلى أبواب المساجد متسولون ومجانين ونساء أكثر بكثير من المصلين الذين يمنعهم التأفف والتقزز من إكرامهم ولو بنصف التفاتة،فيبتلعهم الزقاق بثيابهم البيضاء الناصعة النقية كلحاهم وخطواتهم الهاربة، والصدى يردد تسبيحاتهم وتحميداتهم،ويتحمل الجائعون الجوع عاماً كاملاً إلى أن يأتي شهر رمضان الكريم لإنقاذهم، إذ على امتداد سنة كاملة تبدأ بانتهاء شهر الصوم، وتنتهي بابتدائه يرتكب الاثرياء كل الخطايا والذنوب، وتمر أيام الفطر بلا مراقبة السماء، فيرتكبون كل الحماقات والأوزار التي تؤدي إلى مصالحهم،وكأن الله غاضاً طرفه عنهم كل هذه الفترة الزمنية التي تتقدم شهر التوبة والغفران، حتى إذا أقبل جهزوا له كل شيء... أنفسهم وأموالهم وخضوعهم،ومن أول ليلة يحولون منازلهم إلى مطاعم عملاقة تستقطب كافة الفقراء والمطحونين والغرباء،وتزخر موائدهم بكافة الأطعمة الدسمة والمختلفة،ويصل بهم حب الخير والإحسان إلى درجة التسابق واحتجاز مساجد وشوارع بأكملها لضم أناسها إلى ضيافتهم، مما يحدو بفقراء الأرياف البعيدة التي تتغلغل في الجبال والأحراش مسافة أكثر من عشرين كيلو متراً أن يتوافدوا منذ الأصيل على هذه المدينة مصطحبين أولادهم وأكياسهم البلاستيكية التي تبتلع مافضل من الطعام الذي ينفعهم في اللحظات المسغبة .. إنهم يكفرون أدران العام،ويذيبون جليدهم ونقاطهم السوداء في شهر واحد، والمحظوظ من اختطفه عزرائيل في تلك اللحظات المباركة، ولم يعد هذا الأمر مستغرباً على أحد،إذ أصبح هذا الجدول ديدن هذه المدينة التي صادفت فيها العديد من أولئك الباحثين عن لقمة شحيحة تدفع عنهم شبح الهلاك، وحين سألت أغلبهم عن شعورهم بهذا الشهر الفضيل، أجابوا وعلى أفواههم شجرة ابتسامة ركلت ذبولها الطويل:ليت العام كله رمضان. وادي خِنَوة إن الأمكنة التي نولد فيها، ليس شرطاً أن نموت فيها، ووجدت إجابة تهز أغصان الأشجار علامة الموافقة، وأنا وإن كنت قد ولدت في مكان ما لكنني أود أن أغوص في أعماق ثرى القاعدة، وإن لم يكن فعلى الأقل أنام في أحضان نجد الله أكبر المؤدي إليها.. كانت تلك مجرد أمنية ارسلتها من على شرفة لوكندة البحرين الواقعة في الطابق الثاني لمبنى عتيق لايتعدى الطابقين، وتحت بصري مباشرة يتمدد الخط العام بضوضائه وازدحامه وعدم تنظيمه وعشوائيته،ومقابلي مباشرة من الجهة الأخرى فرزة متداخلة السيارات المختلفة،وأصوات تتردد: الغيل .. الغيل .. ذي السفال .. ذي السفال، فأدرك حينها أن المقصود بالغيل هو وادي نخلان التابع لمديرية السياني،والذي كان إلى ماقبل العقدين من الزمن نهراً لاينقطع، تقذفه أعماق جبال التعكر العملاقة، لولا أن أشجار القات قد وأدته.