من ذاكرة عدن الشعبية، ما زال كثير من كبار السن يستحضرون تلك الجولة الواقعة في قلب مدينة كريتر، والتي عُرفت قديماً باسم "أضواء المدينة"، بجوار موقع الشوكي البالي، وتُعرف اليوم ب جولة الفل .. الصورة المرفقة تعود إلى ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، حين كانت عدن تنبض بالحياة في ذلك الزمن الجميل، وقد شكل هذا المكان آنذاك ملتقى لعشاق المأكولات الشعبية وذواقيها، بما حمله من روح الدفء والحميمية التي ميزت المدينة. هناك، كان عالم آخر يحمل في طياته عبق المطاعم الشعبية يملأ الأجواء، وكانت الروائح تعبق في الهواء، عبير الكُشنات المبهرة، ودفء القلابات بشتى أصنافها وبمذاقها اللذيذ ، وقرمشة البرورو المقلية، تحكي كلها لغة الجوع والبهجة معاً .. المطاعم مصطفة، لكل واحد منها مظلته الملونة التي تُعرف المارة بصاحبه، وكأنها أعلام صغيرة تحمل بصمة الذوق والمذاق.. وعند حلول المساء، كان المكان يتحول إلى لوحة مضيئة، من خلال فوانيس البيتروماكس التي تتدلى أمام المحلات، تبعث نوراً دافئاً، وبريقاً ساطعاً يختلط بأصوات الباعة والضحكات وأحاديث الساهرين، فتغدو الجولة ملتقى الأرواح الباحثة عن المتعة البسيطة، وكأنها ساحة مسرح مفتوح للأنس والأضواء والفرفشة. وبجانب هذا المشهد المبهج، تمتد ساقية الماء "الجاري خيل"، التابعة لبلدية عدن، حيث كان يأتي عامل البلدية كل صباح ليملأها، فتشرب منها الخيول التي يملكها الحاج علي أبوبكر باسودان .. كان المشهد أشبه بركن هادئ وسط صخب الحياة، حيث يلتقي عبق الطفولة بذكريات المدينة، وتبقى "أضواء المدينة" شاهداً على زمن كانت فيه عدن تنبض بالسحر والحميمية، في مشهد يومي يضيف لمسة حياة إلى هذه اللوحة المليئة بالذكريات.
ومع مرور الزمن، انتقلت هذه المطاعم إلى موقع آخر بجوار سينما هريكن، تحت مسمى جديد وهو "سوق الليل" لكن روح المكان ظلت حاضرة، تنبض بالحياة. بلال غلام حسين 16 أغسطس 2025م