ثمن وهم التفوق في صفقات السلاح في خضم التطورات الجيوسياسية المتسارعة التي يشهدها الشرق الأوسط، تظل صفقات السلاح الكبرى والميزانيات الدفاعية الضخمة محط أنظار المراقبين والمحللين. إنها ليست مجرد اتفاقيات لشراء عتاد، بل هي مؤشرات عميقة على التوازنات الإقليمية، ودلالات على الأولويات الوطنية، وفي كثير من الأحيان، مرآة لتأثير القوى الكبرى والمصالح المتشابكة. لقد أثارت تبادل الزيارات الرئاسية الأمريكية السعودية، وما يتبعهما من إعلانات عن استثمارات أو صفقات أسلحة بمليارات الدولارات، تساؤلات جوهرية حول العائد الفعلي للدول العربية المستثمرة. فبينما تُعلن الأرقام الفلكية، يبرز السؤال الملح: ما المقابل الحقيقي والمضمون الذي تحصل عليه هذه الدول في مقابل ثرواتها الهائلة؟ المحور الأول: استنزاف الثروات بلا ضمانات حقيقية إن تبديد ثروات الأمة، والتي تُقدر بتريليونات الدولارات، في مشاريع أو صفقات قد لا تعود بالنفع المرجو أو المضمون، يمثل هاجساً اقتصادياً ووطنياً. ففي مثال صفقة طائرات "إف-35" المحتملة، يتضح أن الحصول على تعهد مبدئي من رئيس أمريكي لا يضمن شيئاً، وذلك لسببين رئيسيين: * سيطرة "الكونغرس" وحق النقض: لا يكفي قرار السلطة التنفيذية في واشنطن، بل يجب أن يمرر "الكونغرس" الصفقة. هذا الشرط يُبقي مصير أي صفقة معلقاً على توازنات سياسية داخلية. * عقبة التفوق النوعي (QME): يبرز الاعتراض القوي من جانب حلفاء الولاياتالمتحدة الإقليميين، والذين يمتلكون نفوذاً كبيراً في مراكز صناعة القرار. هذا الاعتراض يقوم على مبدأ الحفاظ على "التفوق العسكري النوعي"، وهو ما يحول عملياً دون انتقال التكنولوجيا المتقدمة بالسهولة أو السرعة المطلوبة للدول العربية. هذا المشهد يجسد مأزقاً استراتيجياً: أن تدفع الأمة أموالها لضمان مصالح الآخرين، بينما تظل احتياجاتها الأمنية معلقة على موافقات وشروط خارجية. المحور الثاني: "تقادُم" السلاح وتأخير التسليم حتى في حال الموافقة على الصفقة وتجاوز عقبة "الكونغرس"، تبرز عقبتان لوجستيتان تزيدان من الشكوك حول جدواها: * مدة الانتظار الطويلة: تتطلب عملية الإنتاج والتسليم لهذا النوع من الطائرات سنوات طويلة، قد تتجاوز الخمس سنوات. وخلال هذه المدة، تظل أولوية التسليم للشركاء الأساسيين والحلفاء المقربين، أعني تل أبيب مما قد يؤدي إلى تأخير التسلم لسنوات إضافية. * خطر التقادم التكنولوجي: عند استلام السلاح أخيراً، قد يكون قد "تقادم" جيله. فالطائرات التي تُسلم بعد فترة طويلة، غالباً ما تكون أمام أجيال أحدث وموديلات أكثر تطوراً أُدخلت الخدمة بالفعل لدى القوى العظمى وحلفائها المقربين، فتصبح الدولة المستلمة متأخرة تكنولوجياً حتى بامتلاكها السلاح المتقدم. المحور الثالث: المواصفات "المُخفّضة" والسيطرة الخارجية (تبديد السيادة) وهنا تكمن النقطة الأكثر حساسية في صفقات الأسلحة الغربية المتقدمة للدول خارج الدائرة الضيقة من الحلفاء: * مواصفات أدنى: غالباً ما تُسلم هذه الطائرات بمواصفات أدنى من تلك المستخدمة لدى سلاح الجو الأمريكي أو حلفائه، خاصة فيما يتعلق ببعض التقنيات الحساسة والحمولة القتالية. * "شفرات الإغلاق والقفل" (Kill Switches): يُعتقد على نطاق واسع أن العديد من أنظمة السلاح المتقدمة تحتوي على برمجيات سرية تسمح للجهة المصنّعة بالتحكم فيها، أو تعطيلها، أو حتى تدميرها عن بعد في حال وقوع خلاف سياسي أو عسكري. هذا يعني أن قرار استخدام السلاح الفعلي يبقى رهناً لجهة خارجية. الرابح الوحيد: أجندة القوى الكبرى هذا المشهد يُعيد للأذهان التحذيرات التي يطلقها مفكرون وكتاب حول استغلال المنطقة وتوجيه قراراتها، بما يخدم استراتيجيات القوى الكبرى. وفي هذا السياق، يكتسب عنوان كتاب الدكتور حسن حسين الرصابي، "الشرق الأوسط الجديد بأجندة صهيونية"، أهمية خاصة. إذ يتوافق المقال مع الفكرة الجوهرية للكتاب وهي: كيف يتم رسم ملامح المنطقة وهدر مواردها لخدمة مصالح وأجندات ليست بالضرورة عربية أو إسلامية. إن السعي للحصول على سلاح متطور، بينما تستمر الدولة في "استجداء الحماية" من القوة التي تبيعها هذا السلاح، هو تناقض جوهري. فإذا كانت السيادة والأمن مستمدان من واشنطن، فما الجدوى من هدر المليارات على أدوات دفاعية يمكن تحييدها بضغطة زر أو برفض سياسي من "الكونغرس"؟ الخلاصة: إن صفقات السلاح الكبرى، بالصيغة الراهنة التي تُهدر فيها الأموال الطائلة على سلاح محدود الكفاءة، متأخر التسليم، ومُقيّد الاستخدام، تجعل من واشنطن وحلفائها هم الرابح الوحيد. فهم يجنون تريليونات الدولارات، ويحافظون على تفوقهم النوعي، ويضمنون استمرار التبعية العسكرية والسياسية. والأمة، للأسف، تظل تدفع الثمن غالياً.