- مبارك الحمادي .. «إلى من تتزين تحت شفتيه أجراس المفردات، أستاذي/ ياسين الزكري» ينصرف كعادته الساعة العاشرة مساءً من منزله، وبمحاذاة الطريق المنخرطة تجاه «مفرق البيرين» يظل يرقب صوحات أطفال لم يبلغوا سن الحلم بعد، أفواههم مملوءة بفتات القات وفي ديمومة المتابعة، يترنم «الخليد» هواءً طلقاً كون الليل غاية في السكون، يصغي جيداً لهموم العمال الذين يتجمهروا قبالة شاشة التلفاز، يحظى بإعجاب حد التقديس من قبلهم، ليس وسيماً أو قسيم، لكنه صريح القول، رصين اللسان، وبلا هوادة قال أحدهم لمن يحاذيه في الجلوس: حين يأتي المسلسل من قناة «B.B.C» أنظر إلى «خليد» كيف يشخص بصره، ويكثر من التدخين، ومن فتحتي أنفه تشاهد سحب سايرة بخطين متوازيين، تواً يردف عليه بالسؤال كيف عرفت هذا؟!! إنه الشخص الوحيد، يتسلل من هذه القرية لمتابعة هذا المسلسل والأخبار ويظل هنا حتى وقت متأخر من الليل. عجباً، ولهذا سأركز عليه. حقيقة حديث الأول عنه واضحة، وذلك لاستحواذ ذاك المسلسل على جل حواسه، ومن أجل متابعته يخاطر المشي في ليل دامس وقاتم الظلمة، وحسب قوله لقرينه «عبدالله» بأنه لاينام دون مشاهدة حتى حلقة واحدة، وذات يوم، لتلقيه قولاً لاذعاً من والدته «ستأتي يوماً.. تلعن فيها مغامراتك الليلية» أثناه القول عن المسلسل، وأضاف إلا أنني لم أنم.. سامرت نجوم الليل دعني أقول لك قولاً ذاع صيته في البادية والحضر: «الجنة تحت أقدام الأمهات»، أياك المروق عن نصحها، بهكذا قدم له النصح الموغل في تأجيج شعلة الضمير. آه..آه.. لوتعلم..؟! بما أعلم؟! ما أعانيه ودعني أقول مثلاً، لكن لاتسألني بعده «مايشعر بالبرد إلا من جداره مريوش» حدثه على غرار لكنه أهل وأبناء الحجرية، ولنباهة الآخر وقع في هوة من الصمت، أستأذن أحدهما الآخر بالإنصراف كلٌ إلى منزله وفي الطريق، يسند «خليد» فكرة حلقة المسلسل على الواقع، ويغدق في إيلاجها أملاً في إيجاد حلولاً مواتية تحول دون تكرار المعضلة، ولغوره في الحلقات الماضية، فهم مضمون المسلسل، وفي اليوم التالي، في ذات المقهى الليلي رأهما يحدقان بحصافة نحوه، لم يعرهما اهتمامه، وبعد إنتهاء زمن الحلقة، يمشط الطريق كعادته، إلا أن هذه الليلة رافقه «أحمد» صديقه الودود في المرحلة الإبتدائية من الدراسة تجاذبا أطراف الحديث، بغية عدم شعورهما بطول المسافة، دون قصد سأله «أحمد». كثرة مسامرتك للتلفاز وتأخرك عن المنزل حتى في ساعةٍ تقترب أحياناً من الفجر هل شعرت يوماً بشيء اعترض طريقك وأثناك عن الخطى؟! أوضح ماتريد قوله أكثر؟! مثل «طهوش»..إلخ إن سألتني عن الطهوش كما سمعنا الحديث حولها من أسلافنا، لم أجد، وأقول لك حتى إن لم تصدقني، في قريتنا «طهوش آدمية» أحياناً تراهم بأم عينيك يعضون بأنيابهم أرباب الأسر؟! وأضاف قائلاً، كإحداث الفرقة بين المرء وابنه و....و... بالغت القول ياصديقي!! ولعدم معرفته مافحوى الكلام، اكتست شفتا «خليد» بالبسمة، وعلى مقربة من منزله يهديه «الكلب تحية الترحيب والنجاة من خفافيش الظلام» «نباحه» يوقظ جميع الجيران، وفي الصباح الباكر أصمت أذنيه خطاباً ذو نبرة في الجبن والغبن معاً، لم يكن يتوقع أنه جاره الشاكي مع نباح الكلب وبأنه يفزع أولاده، مع أنه يتحدى أي غريب من الاقتراب من إحدى المنازل المجاورة لمنزله، انتفض من الفراش قائلاً له: ماذا تريد بعد كل مالاقيته منك طوال السنين؟! ظل صاغٍياً من حول الحديث المورق في التحدي، فبيّت للكلب سوءاً، فقتله خلسة الأنظار، أفتقده ويظل ينوح خلال ساعات ذاك اليوم، أملاً منه ليعرف من الجاني، وبعد فوات آذان العشاء، خرج يحوم حول المنزل، برهة من الوقت وذهب لمتابعة ذاك المسلسل، ولإقتراب يوم عيد الأضحى المبارك، يعود إلى المنزل بصحبة بعض العائدين من صنعاء وفي قرارة النفس يقول: «كلهم عادوا إلى بين أولادهم إلا هو..» لإنشغال فؤادها به ظلت شاردة الذهن، أحست بأن شيء ما، أسمته «حزن» يقطن هذه الأيام بصفائح مخيلته، همس رجليه في سلم المنزل، أيقظها جيداً، سامرته في عشه، رأت الأسى قاطناً بناصيته. سألته: بماذا تفكر ياولدي؟! أفكر ياأماه.. بمن أبتاع براءتي وافترس ربابة طفولتي. داعب جفنيه الكرى ووقع في سبات عميق، هي أقسمت بأن «التبيع» سيكون ذبيحة عيدهم، وفي الصباح الباكر استيقظ على غير عادته، ولغوصه في النوم، بزغ أثر الراحة على وجهه، أخبرته، «ستذبح «التبيع» في العيد شريطة أن تمتنع عن الذهاب إلى «مفرق البيرين» في الليل. أماه، عهدتك، رقيقة الفؤاد، جياشة، اليوم آخر حلقة من المسلسل، إثرها لن أخرج من المنزل في الليل. إتفقنا، هكذا أجابته. هكذا يحدث ذاته في غضون أيام قلائل سيأتي العيد، سنمضغ اللحم و... وفي ليل هذا اليوم ظل متسائلاً عن سبب تأخر المسلسل عن الوقت المألوف لبثه، حتى الساعة الواحدة مساءً أنتهت الحلقة الأخيرة، عاد وحيداً وعلى بعد بضعة أمتار لاتتجاوز عد أصابع اليد الواحدة، رأى أعين شبيهة بضوء سيارة قادمة نحوه ببطء.. وقع أرجله ذات ضربات رباعية، يا إلهي: هذا طاهش ومن هول الفجيعة لم يستطع أن ينبس بصوت واحد، عدا تماسك أعصابه، أختفى عن ناظريه محاذياً الباب الخلفي لمنزل جارهم، شعر بأنه غير مغلق بإحكام ومن شرفة الدار، وضع بين يديه حجرة صماء ورشقه بها، وإثر خواره الأخير المفارق للحياة، علت صرخاتها من الداخل «سارق أخذ التبيع». تجمهر الناس وإذا بأحدهم عثر عليه مرمياً قبالة باب منزل الجار. جارنا، قتل الكلب والآن سرق التبيع وذبحه؟! يا أم خليد يبدو أن هذه الحجرة أجهضت حياته، هكذا يقول الحاج «علي» أحد المغيرين بحثاً عن السارق، ولإقتراب الوقت من آذان صلاة الفجر، مر قيم الجامع ذو لحية مخيفة وصوت مفزع قائلاً: هذا المنزل يقطنه الجن من زمان؟! هل الجن ينتشلون الحيوانات؟! هكذا تسأله. بالطبع وخاصة الكافرين. أما الحاج «علي» قال: سمعت قولاً بأنك تشاجرتِ مع «الخادمة» وربما بثت للبيت «زيران». ياإلهي، وإذا بها تسأل أين ولدي، اليوم تأخر، هل وهل...؟! وإذا بأحدهم يطيل ضوء كاشفه إلى أعلى المنزل رأه مسدلاً البصر نحوهم. إنه هناك؟! ولإرتفاع صيحاتهم نزل طواعية والرعشة المخيفة خالجت فؤاده، دون أن يسأله أحد قال: حين رأت عيناه شبيهة إلى حدٍ ما بعيون السيارة ماشياً تجاهي على أربع ظننته «طاهشاً» فصعدت منزل الجار وأمطرته بهذه «الحجرة» خابت رؤى المفسرين وعاد البعض إلى داره ضاحكاً فيما أمست هي تلوك وجعها.