مثلما أدهشت تهامة عاصمة الثقافة العربية صنعاء سنة 2004م بشعرها وشعرائها المجيدين وغالبيتهم من الشباب أدهشتني تعز بجديدها الشعري الجيّد والجم وكنت أحسبها متفردة بالجانب العلمي فإذا هي ذات تبريز رائع في ميدان الكلمة الشاعرة، وحين أقول تعز لا أخص المدينة وحدها وإنما كل مديرياتها، هذه المحافظة سبق لها إنجاب قامات شعرية فارعة على امتداد البعدين الوطني والقومي وهي اليوم تغمرني بأشذاء وأصداء بلابلها المتميزين في دنيا الشعر، أمثال: عبدالغني المقرمي وعبدالحميد الحسامي ومحمد نعمان الحكيمي وعبدالمنعم الشيباني وعلي وعبدالملك الحسامي وأحمد الشلفي وكان لي مع دواوينهم وقفات ملأتني حبوراً واستبشاراً، كما تألقت المعافر، الحجرية وشرعب منذ القرن الخامس بمدارسها وعلمائها على امتداد قرون حتى القرن التاسع وكأنما هذان الصقعان في سباق لاينتهي، وكان لشرعب عالمات محدثات ترجمهن السخاوي في «الضوء اللامع» كما ترجم قبله «ابن حجر» لعلماء اليمن وبخاصة علماء تعز على نطاق المحافظة في القرن الثامن بكتابه «الأنباء»، والجديد الذي تتميز به بلابل الشعر التعزي أن أكثريتهم لم يكتفوا بالإشجار في العربية حتى أضافوا اطلاعاً متمكناً في الإنجليزية.. إلّا أنهم ذو تخصصات جامعية علمية ولقد أستوقفني تناولات بعضهم لمواضيع تقليدية كالنبويات.. كنا نظن الا جديد فيها بعد البوصيري والبرعي فإذا بمحمد نعمان الحكيمي صاحب ديوان «بوابة الشجن» يتحفني بنبوية جديدة أدهشني منها تجديده اللغوي والمضموني والخيالي، حتى وجدتني أستعيدها وأمتع نفسي بإشراقتها وروحانيتها من مثل هذا: يكون الشعر أشبه بالظلال إذا مالاح طيفك أو بدا لي وتسفر في عيون الفيض روحي متوجة بأسورة الهلال وتخضر الرؤى في قاع نفسي وترفل بالسناء يد الخيال وتمتزج اشتعالات الروابي بتبريح الجداول والتلال وتغمرني السعادة حين تغدو شخوص الحب ماثلة حيالي أراني حين ألهج باسم طه يضيء الوجد في كل انفعالي وأشتم الحروف تضوع عطراً على وهجٍ تضمخ في مقالي وتزكو مهجتي مادام طه حبيبي الفرد بل كل انشغالي أراني مارنوت إليه أحظى بأسرار المحبة.. والجمال وما أسلمته الوجدان إلْا أحطت مدى الحياة بكل غالي ألتقي منهم اليوم ديوان شاعر معافري من أديم هو/ عبدالفتاح قائد الأسودي في ديوانه «العزف الصامت» وتؤزني من بدايات الديوان جمرية تجربته وتشظيات صوره ومفرداته. ماكنت أحسب أن بدراً ناعماً يوماً يلطخ كفه بدمائي ما كنت أحسب أن ثغراً باسماً سيلوكني ويلوك كل وفائي ومثل: تجاهلت قلباً نقي الهوى وقدست في الحب مِنْ لم يفِ والقيتني مثل ثوبٍ قديم فمن منصفي منكِ من منصفي؟ وهذان أيضاً: وأين تورد خد الصبا وإغراء مبسمك المرهفِ ولولا حديثك لم تعرفِ فلم يبقَ منكِ سوى المعطفِ والشاعر يحب في إشفاق واستغراق يقول عنها في قصيدته «دفتر الثقافة»: فحسنها أصيل تفسده الإضافه يدُ الإله زينت من ثغرها ضفافه والورد في خدودها قد أعلن اعتكافه كالخيزران إن مشت وإن تقف صفصافه وأبياته التالية: فليتني في حضنها كدفتر الثقافه تضمُه فلا يرى برداً ولامخافه أحسده إن لامست أنفاسها غلافه إن حب هذا الشاعر مغرورق بالاشفاق مهوْم في استغراق: فإني أخاف على حسنه نسيماً يبعثر أزكى ثمرْ وأخشى سبيلاً سيمضي به وأخشى عليه من المنحدرْ هذا وهو يعلن جبروت الحبيب وجساوة عاطفته: فإني أحب به قسوة فما للحنانِ به من أثرْ وتخبرنا القصيدة أنها مرضت في «قطر» ورُبما كان مرضها فاذكري الأسودي في تجربة جميل بن معمر مع سوداء الغميم: ناتجاً عن التياعها إليه وتعلقها بذكرياتها معه وخبرت سوداء الغميم مريضة فأقبلتُ من «مصر» إليها أعودها فوالله ما أدري إذا ماأتيتها أأبرؤها من دائها أم أزيدها فصاحبنا يُبدع في براءة عذرية لاتعرف انتقاماً ولكنها تنثال رحمة وهياماً: وياربٌ ياخير من يُرتجى أعد صفوه ونقاء الفكرْ وأنسه يوماً رآني به وأنسه عشقاً أتى بالضررْ لينسى فتى أسمراً ناحلاً قريباً يُوارى قرار الحُفرْ يبدو أن صاحبنا مولع بأن من الشعر لحكمة فهو يستهلٌ قصيدته بإهلالة ناصحة يتلوها بيت متلألئ بالجمالية: في قصيدة «درة» الحب عهد والوصال وفاء هذا الذي نادتْ به الحكماء يامن قطفت من الجنائن وردة كالصّبح فيها عفةٌ وحياءُ قد خصها المولى ببعض سنائه حتى لقد نسبت لها الأضواء وقصيدته «قبلة الهوى» رفرفة روح: حتى لكأنها فراشة ندية مسربلة بالربيع: ويعجبني من قصيدته «الأمل الغارب» هاذان: والعصافير استقالتْ من أغاريد البكور وورود الروضِ جفتْ في مآقيها العطور من قصائدة الجديرة «آية».. في وزنها ومفرداتها وصورها وفيها قفزات فنية أهنئ الشاعر عليها من مثل: ترنو فيقبلُ الهنا على غيوم ممطره ومثل: وكيف لا وسحرها رصاصة مقدره ومن وثباته في قصيدته «المرافعة»: ومشاعري عبق الزهور ورقة الأنسام. قصيدة «حورية» تمثل نقلة تحولية، ذلك لأنه يتخلى عن القافية الواحدة فينوعها مع التزام بالوزن غير أن مواصفات الجمال الأنثوي فيها عنده لاتزال هي ذات المواصفات التي يتغنى بها، والجديد فيها هو هذا البيت: «صادفتها كماسةٍ تموج بالبهاء» وجديده في قصيدته «غصين البان»: «من لون عينيها جاء الهوى الوان» وبعد: فهذا حصادُ جلسات ثلاث أفرغتها لهذه المجموعة الشعرية احتفاءً بأخلاقية الشاعر الذي لم أعرفه التقاء وإنما عرفته وجدانياً وفنياً.. فهو عميق الإيمان سليم القلب متجرد لتكريم الجمال في عفة مشاعر ولغة شأن ذوي النفوس الرقيقة والمشاعر المهذبة، والذي أحرص على أن أهمس به في آذان كل شبابنا المتطلعين بضاغط من الحياة إلى متنفسات الشعر وطالما كان الشعر شرفة روحية ورئة فنية يجد صاحبها من خلالها الدواء والعزاء، أهمس لهم جميعاً إن الشعر أولاً موهبة يجدها صاحبها في نفسه كنزاً يبحث عن نافذة إطلالة على الحياة يتأثر ويؤثر بها، ثم هي ثقافة تحلق بها وتضاعف من مقدرتها، وليست الثقافة التي أعنيها.