«1» كانت جدتي تحكي لي دائماً حكاية القط والفأر، بينما كان أبي يتعاطى الخمر بشراهة، وكانت أمي تبكي، وكان أخي يضحك، وكنت أشعر بأن ذلك عجيب فأتعجب! «2 ... من جهاز راديو تنساب موسيقى هادئة، تلون الغرفة بألوان قوس قزح لا مرئية، تتوقف يطل صوت المذيع حاداً: «... وانتهى وزراء خارجية الدول الإسلامية إلى تأجيل مؤتمرهم حتى يتم الاتفاق النهائي على جدول الأعمال..». و...«تفيد الأنباء أن السادات قد فتح القاهرة على مصراعيها نهائياً لأفواج الصهاينة.. وقد وصل.....». تساءل أخي: أرى أن كل المواني والمطارات العربية ممطرة.. فِلمَ نخشى الجفاف؟! قالت أمي: أرى برقاً ورعداً ولا أرى مطراً! قلت: لم تلقح الريح السحاب بعد! «... وإليكم التقرير التالي من مراسلنا الخاص: هل تغلق قبرص السفارة الإسرائيلية؟..ويشير المراقبون السياسيون إلى أن.....و.....» إندهشت أمي..تساءلت: متى تتزوجان؟! موسيقى..إعلانات تجارية..صمت.. قلت بصوت هامس: ليس الآن..لم يحن الوقت بعد! تراءت لي صورة حبيبتي تتشح بالسواد.. زمت أمي شفتيها مشت..تركتني وحيداً «لم أعد أتذكر الآن ربما أنا الذي مشيت تركتها وحيدة». هامش: «...ورأى هود رؤيا: كأن آتياً أتاه فقال له: ياهود..إذا ضربت رائحة المسك إليك أو إلى أحد من ولدك، من ناحية من نواحي الأرض، فليتبعها..ذلك النسيم..حتى إذا كف عنه نزل فذلك مستقره». «... وأن يعرب بن قحطان ابن النبي هود بن عبدالله بن الخلود بن عاد وجد رائحة المسك..فقال له أبوه: أنت ميمون يايعرب.. أنت أيمن..ولدي مر، فإذا سكن عنك ماتجده فانزل بأرض اليمن لاتمر..فإنها لك خير وطن..». هامش آخر: .. هب النسيم..أتاني من ناحيتك، فنزلتُ بأرضك لا أمر. اقترح أخي أن أتزوج ابنة العم، وكانت أمي تحبني حباً جماً فرفضت الاقتراح.. وهكذا شرعت أبحث عنك..فالطريق تمر عبرك وكل الطرق الأخرى مسدودة. .. وذهبتُ إلى العديد من الأمكنة.. لم أجدك، فسافرت إلى مدينة خضراء دافئة تقلدت سلاحي صعدت إلى قمة جبل شاهق.. تراءيت لي هناك: تتخضبين بضوء الفجر.. تستحمين بعطر الشمس.. تتكحلين بنورها، وفي الليل تلتحفين السحائب الممطرة. تهمسين: هل تحبني؟ فأجيب: ليس في ذلك شك، فلم تتساءلين؟ والمهر الذي اتفقنا عليه؟ اتفاقنا كما كان! ومتى ننفذه؟ ليس الآن! فأنت لاتحبني إذن؟! بل أحبك..ولكن! ماذا؟ هلا أمهلتني حتى تنضج الظروف! ...! تكلمي! ...! «3» ينتابني الأسى، يعذبني الألم، يسحقني.. يقذف بي إلى متاهات لا متناهية. أحس كأنني ألهث خلف سراب، في صحراء قاحلة، يتآكلني الجفاف ويقتلني الظمأ. «4» أملأ كأسي حتى حافتها. تتداخل الأشياء، تختلط أمامي الرؤى والمرئيات موسيقى ماجنة فائقة سعاد أحمد السجن عائدة السياسة المبادئ النظرية والتطبيق العمال الفلاحون ساكنو الأكواخ الأثرياء الكوادر الأمراء القبيلة قطاع الطرق - العصريون كل شيء من أجل المعركة العيون الساهرة أجهزة الأمن الأبرياء الأطفال أل ...! «وتفيد التقارير الواردة من ايران بأن....». «..ومازالت المعارك مستمرة..و..». اشرب كأسي حتى الثمالة. اجتاز كل المحيطات، أعبر كل الأنهار، أتسلق كل الجبال. أخوض كل المعارك أتعرف إلى كل النساء..أفعل كما يفعل كل الناس. «وفيما يلي مقتطفات من أقوال الصحف..» ... و« نشرت صحيفة «الوطن» مقالاً دعت فيه الشعب إلى الاستيلاء على آبار النفط قبل أن تصل إليها أيدي الأمريكان والصهاينة.. ونددت صحيفة ال .. ب ..و...». تتداخل الأشياء تختلط أمامي الرؤى والمرئيات صور باهتة مطموسة المعالم القط والفأر.. حبيبتي تتشح بالسواد. «5» يرن في مسمعي صدى صوتها: لم لا تتزوجان ياولدي؟ .... متى تمتزجان معاً دماً وروحاً؟ ليس الآن..لم ..ليس.. يبدو أنك لست قادراً على مهرها؟ .... فأنت لست أهلاً لها! كلا ياأمي..إنني أحبها..أحبها..! وماذا تنتظر؟ لاتتعجلي ستلقح الريح السحاب، ويهطل المطر، فنفتح للناس الطيبين بوابات النهار. ثم ماذا؟ حينها سأصبح قادراً على دفع المهر..وسوف نتزوج! غمرتها الفرحة، غير أن صورتها بدأت تتلاشى..بل تلاشت كل الصور..كل الصور..مددت يدي في رجاء: لم أجد، تلك اللحظة، سوى الظلمة والفراغ بكيت بلا دموع! «6» تعلو الموسيقى من جديد صمت صوت المذيع ينطلق حاداً: «.. وتفيد الأنباء أن حوادث العنف المسلح قد ازدادت ويبدو أن السلطات قد فقدت زمام السيطرة..و..». ...... أملأ كأسي للمرة العاشرة..العشرين..ال..لم أعد أدري بالضبط. موسيقى خافتة. «... وسقط آلاف الضحايا..مابين قتيل وجريح..مابين قتيل وجريح..». .... أغمضت عينيّ وكانت رائحة المسك تملأ المكان! 1980م