الجنوب يفكّك مخططا تجسسيا حوثيا.. ضربة جديدة للمليشيات    أمطار رعدية تعم 20 محافظة يمنية خلال الساعات القادمة.. وصدور تحذيرات مهمة    لحظة بلحظة.. إسرائيل «تضرب» بقلب إيران وطهران: النووي آمن    بعد إفراج الحوثيين عن شحنة مبيدات.. شاهد ما حدث لمئات الطيور عقب شربها من المياه المخصصة لري شجرة القات    اقتحام موانئ الحديدة بالقوة .. كارثة وشيكة تضرب قطاع النقل    مسيرة الهدم والدمار الإمامية من الجزار وحتى الحوثي (الحلقة الثامنة)    مليشيا الحوثي تحاول الوصول إلى مواقع حساسة.. واندلاع مواجهات عنيفة    السعودية تطور منتخب الناشئات بالخبرة الأوروبية    الشباب يكتسح أبها.. والفتح يحبط الرائد بالدوري السعودي    بالصور: متناسيا أزمته مع الاتحاد السعودي.. بنزيما يحتفل بتأهل الريال    العثور على جثة شاب مرمية على قارعة الطريق بعد استلامه حوالة مالية جنوب غربي اليمن    طعن مغترب يمني حتى الموت على أيدي رفاقه في السكن.. والسبب تافه للغاية    استدرجوه من الضالع لسرقة سيارته .. مقتل مواطن على يد عصابة ورمي جثته في صنعاء    سورة الكهف ليلة الجمعة.. 3 آيات مجربة تجلب راحة البال يغفل عنها الكثير    مركز الإنذار المبكر يحذر من استمرار تأثير المنخفض الجوي    إنهم يسيئون لأنفسم ويخذلون شعبهم    عملة مزورة للابتزاز وليس التبادل النقدي!    نقطة أمنية في عاصمة شبوة تعلن ضبط 60 كيلو حشيش    إيران تغدر بحماس وتطعنها وراء ظهرها.. صفقة إيرانية أمريكية لاجتياح رفح مقابل عدم ضرب إيران!    طاقة نظيفة.. مستقبل واعد: محطة عدن الشمسية تشعل نور الأمل في هذا الموعد    رغم وجود صلاح...ليفربول يودّع يوروبا ليغ وتأهل ليفركوزن وروما لنصف النهائي    مولر: نحن نتطلع لمواجهة ريال مدريد في دوري الابطال    الفلكي الجوبي: حدث في الأيام القادمة سيجعل اليمن تشهد أعلى درجات الحرارة    الدوري السعودي ... الشباب يكتسح ابها بخماسية    "لا حل إلا بالحسم العسكري"..مقرب من الرئيس الراحل "علي صالح" يحذر من مخيمات الحوثيين الصيفية ويدعو للحسم    شقيق طارق صالح: نتعهد بالسير نحو تحرير الوطن    نقل فنان يمني شهير للعناية المركزة    ارتفاع حصيلة الشهداء في قطاع غزة الى 33.970    تنفيذي الإصلاح بالمحويت ينعى القيادي الداعري أحد رواد التربية والعمل الاجتماعي    لجنة الطوارئ بمأرب تباشر مهامها الميدانية لمواجهة مخاطر المنخفض الجوي    ريال مدريد وبايرن ميونخ يتأهلان لنصف نهائي دوري ابطال اوروبا    مصرع وجرح عدد من العناصر الإرهابية على يد القوات الجنوبية بوادي عومران    انطلاق أعمال الدورة ال33 للمؤتمر الإقليمي لمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو) لأفريقيا    سقوط 9 مدنيين في الحديدة بسبب الألغام ومخلفات الحرب خلال مارس الماضي مميز    الرئيس: مليشيا الحوثي تستخدم "قميص غزة" لخدمة إيران ودعم الحكومة سيوقف تهديداتها    بمناسبة الذكرى (63) على تأسيس العلاقات الدبلوماسية بين اليمن والأردن: مسارات نحو المستقبل و السلام    قبل قيام بن مبارك بزيارة مفاجئة لمؤسسة الكهرباء عليه القيام بزيارة لنفسه أولآ    دراسة: اقتصاد العالم سيخسر 20% بسبب التغيرات المناخية    وفاة مواطن وجرف سيارات وطرقات جراء المنخفض الجوي في حضرموت    آية تقرأها قبل النوم يأتيك خيرها في الصباح.. يغفل عنها كثيرون فاغتنمها    غرق شاب في مياه خور المكلا وانتشال جثمانه    بن بريك يدعو لتدخل إغاثي لمواجهة كارثة السيول بحضرموت والمهرة    "استيراد القات من اليمن والحبشة".. مرحبآ بالقات الحبشي    دوري ابطال اوروبا ... ريال مدريد يطيح بمانشستر سيتي ويتأهل لنصف النهائي    دراسة حديثة تحذر من مسكن آلام شائع يمكن أن يلحق الضرر بالقلب    مفاجأة صادمة ....الفنانة بلقيس فتحي ترغب بالعودة إلى اليمن والعيش فيه    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    10 أشخاص ينزحون من اليمن إلى الفضاء في رواية    خطة تشيع جديدة في صنعاء.. مزارات على أنقاض أماكن تاريخية    وللعيد برامجه التافهة    السيد الحبيب ابوبكر بن شهاب... ايقونة الحضارم بالشرق الأقصى والهند    ظهر بطريقة مثيرة.. الوباء القاتل يجتاح اليمن والأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر.. ومطالبات بتدخل عاجل    أبناء المهرة أصبحوا غرباء في أرضهم التي احتلها المستوطنين اليمنيين    وزارة الأوقاف تعلن صدور أول تأشيرة لحجاج اليمن لموسم 1445ه    تراث الجنوب وفنه يواجه.. لصوصية وخساسة يمنية وجهل وغباء جنوبي    تأتأة بن مبارك في الكلام وتقاطع الذراعين تعكس عقد ومرض نفسي (صور)    تخيل أنك قادر على تناول 4 أطعمة فقط؟.. شابة مصابة بمرض حيّر الأطباء!    النائب حاشد: التغييرات الجذرية فقدت بريقها والصبر وصل منتهاه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإسلام دين يعبر عن الإيمان الحقيقي الذي تدعيه المسيحية
الحوار المسيحي الإسلامي
نشر في الجمهورية يوم 20 - 04 - 2007

تأليف/ محمود ايدن.. دعاء محمود فينو - قراءة في كتاب: التصورات اللاهوتية المسيحية عن المسلمين منذ مجلس الفاتيكان الثاني
يقع الكتاب في 370 صفحة ، ويتكون من قسمين غير المقدمة والخاتمة ، في القسم الأول ثلاثة فصول عن : تعاليم الكنيسة الكاثوليكية حول الحوار مع غير المسيحيين بصورة عامة والمسلمين بصورة خاصة قبل مجلس الفاتيكان الثاني ، وهذه التعاليم بعد مجلس الفاتيكان الثاني ، وتعاليم مجلس الكنائس العالمي ، أما القسم الثاني فيتكون من ثلاثة فصول أخرى : الرؤية المسيحية المعاصرة لموقع القرآن الكريم ، ولنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، ولطبيعة المسيح عليه السلام ، وتتعلق هذه المراجعة بالقسم الأول فقط ، إذ أن أهمية القسم الثاني تجعل من الأنسب تخصيصه بمراجعة مستقلة.
وقد نشر الكتاب «مجلس البحث في القيم والفلسفة» التابع للجامعة الكوثوليكية في العاصمة الأمريكية واشنطن ، عام 2002م ضمن سلسلة «التراث الثقافي والتغيير المعاصر» وقد أصدر هذا المجلس ضمن سلسلة الإسلام ، إضافة إلى هذا الكتاب المتميز ، مجموعة من الكتب باللغة الإنجليزية ، منها : الإسلام والنظام السياسي ، ودراسة في «المنقذ من الضلال» لأبي حامد الغزالي ، والثقافات الإسلامية والمسيحية : صدام أم حوار والدين والعلاقة بين الحضارات .
يرصد محمود إيدن الباحث التركي المسلم السياق التحاوري للمسيحية مع اتباع الأديان الأخرى ، وذلك بابراز الوثائق الرسمية الصادرة عن الكنيسة الكاثوليكية ومجلس الكنائس العالمي منذ ما قبل المجلس الفاتيكاني الثاني إلى نهايات القرن العشرين.
وقد حرصنا في عرضنا لكتاب ايدن على أن نعرض ماتوصل إليه المؤلف الذي أعد كتابه بالإنكليزية ، بالقدر الممكن من الأمانة ، مع الإشارة إلى بعض مراجعه المتعلقة بالوثائق الرسمية التي صدرت عن الكنيسة الكاثوليكية ، وذلك لاستحضار الذهنية المرجعية لهذه الوثائق ، وقد قدم المؤلف تحليلاً منصفاً للخطاب الرسمي المسيحي من وجهة نظر إسلامية مقبلة على التحاور مع الآخر المسيحي.
بدا من المعلوم بالضرورة أن عصر العولمة قد فرض نفسه في دورة الزمان ، وغدا العالم قرية صغيرة أشهر سماتها الانفتاح والتعددية ، وفرض هذا بدوره على المنادين بالإيمانيات من أصحاب الديانتين الأكثر انتشاراً مراجعة دور الدين في زمان سيطرة المادية ، وعليه فإن المسيحية الكاثوليكية التي يمثلها الفاتيكان ، والفرق الكنيسة الأخرى ممثلة بمجمع الكنائس العالمي أظهرت إقبالاً على الآخر المسلم ، فالانفجار المعلوماتي قدم لمسيحيي أوروبا معارف غير مسبوقة عن الأديان الأخرى ، إلى جانب الدراسات الجديدة في الأديان التي قدمتها المراكز العلمية في الغرب ، ثم تنامي الاحتكاك بين الأفراد من الديانات المختلفة الذي فرضه عامل الهجرة المتنامي من الشرق إلى الغرب ، وقد عبر عالم الديانات «كانتويل سميث» عن هذه الحقيقة بقوله : «كلما ازداد وعينا بمن حولنا وجدنا أنهم غدوا جيراننا وزملاءنا في العمل ، إنهم ليسوا فقط هناك معنا على طاولة الأمم المتحدة ، ليست فقط حضارتنا بمجموعها متأثرة بهم ، بل نحن نتأثر بهم على المستوى الشخصي ، فنحن نشرب القهوة يومياً معاً».
وقد وجدت المسيحية في مراجعة وثائقها الرسمية المتعلقة بمفاهيم ومواقف مسبقة عن غير المسيحيين بداية للاقتراب والتعاون مع الآخر ولمواجهة تحديات العولمة ، وكان لابد من الإجابة على الأسئلة الأكثر حضوراً في العقل المسيحي في هذا السياق التاريخي فمثلاً إذا كان الإله إله الإنسانية جمعاء فلماذا يكون الطريق لمعرفته محدداً باتجاه واحد ؟ والذي لم يكن متوافراً لملايين من البشر ؟ وربما لايزال غير متوافر وكذلك ، وإذا كان الإله الخالق وهو رب للجميع ، فهل كان ممكناً أن لايقدم الدين الحقيقي إلا لفئة قليلة مختارة ؟
ضمن هذا السياق الإنساني التاريخي انطلقت فكرة الحوار المسيحي مع غير المسيحيين عامة ومع المسلمين خاصة ، برعاية رسمية من السلطة الكنسية ، كان ذلك لرعاية تفاهم متبادل ، وتواصل مدروس ومثمر ، في تعديل الصورة النمطية للآخر ، ثم إعادة اكتشاف مساحات الاختلاف والتشابه معه ، سواء بسواء ، عند المسيحيين وأتباع الديانات غير المسيحية عامة ، وفي مقدمتها الإسلام ، لأجل هذا وجدنا الكنيسة الكاثوليكية ممثلة في الفاتيكان تؤسس أمانة عامة للأديان غير المسيحية ، وكذلك قام مجمع الكنائس العالمي الذي يضم الفرق المسيحية الأخرى (البروتستانت ، الأورثوذوكس ، الانجليكيون) بإنشاء وحدة داخلية خاصة للتحاور مع أتباع الديانات والأيدلوجيات الأخرى ، كلا الفريقين قام بنشر وثيقتين هامتين في هذا السياق : الأول ، علاقة الكنيسة مع غير المسيحية من الديانات الأخرى «1965» والثانية منهجية التحاور مع الأديان والعقائد المتبعة «1979».
وتزامن مع هذا الاهتمام الرسمي الكنسي بفرقه المتعددة اهتمام مواز ومتنام من قيادات فكرية مسيحية وقدمت دراسات متعددة عنيت بأبرز تعاليم هذه الأديان والشخصيات الإنسانية الأبرز تأثيراً في تشكيلها ، ومن ثم علاقتها بالمسيحية ، ولعل بعض هذه الدراسات قد غالت في بعض نتائجها فقدمت مقولة محذرة بيانها :«أن العقيدة المسيحية في مراحل تطورها لم يقع في حسبانها التحدي الواقع عليها من أديان العالم الأخرى ، والذي بدوره لن يبقي مصداقية لها».
لأجل ما تقدم ذكره جميعاً وجدنا الخطاب المسيحي مع غير المسيحيين عامة والمسلمين خاصة شهد تحولاً تاريخياً سريعاً في عقود زمنية قليلة نسبياً ، على المستوى الرسمي الكنسي والفكري الثقافي بإنشاء مايسمى الحوار الديني إلا أن السؤال الذي يفرض نفسه جلياً ضمن هذا السياق هو إلى أي مدى كان هذا التحول ضمن الوثائق الرسمية التي أعلنتها الكنيسة المسيحية في الغرب على اختلاف فرقها ؟ ومن ثم يطرح التساؤل عن فعل هذه الوثائق إن كان لها فعل حقاً في تغيير الصورة النمطية التي حملها الغرب المسيحي عن المسلمين وعن الإسلام.
كان محور الدراسة التي قدمها محمود إيدن تقييم مبادرة الحوار الديني الذي سارعت إلى إنشائه الكنيسة ما بعد المجلس الفاتيكاني الثاني «1962 1964» والحوار الديني المسيحي في هذا السياق يعني ، السعي المسيحي رسمياً وفردياً لايجاد قراءات وأفهام جديدة لميراثهم الديني لمقابلة التحديات الثقافية والدينية المقابلة في ميراث الأديان الأخرى غير المسيحية اعتماد لآلية المبادرة بالحوار مع الآخر.
أولاً : لمحات تاريخية موجزة للتعاليم الكاثوليكية إلى ما قبل مرحلة المجلس الفاتيكاني الثاني:
يبدو الاهتمام بهذه الفترة جلياً إذا عرفنا أن هذه المرحلة الزمنية في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية هي لحظة البداية لمحاولة الاقتراب من الآخر ، فقد أصدر مكتب التعاليم في الكنيسة الكاثوليكية (the magisterium) وثيقة رسمية تسبل فيها الكنيسة على الأديان الأخرى صفة اعتبارية ، فقد صرحت «أن هذه الأديان معتبرة وينبغي على الكنيسة احترامها ، كما ينبغي على المسيحيين التحاور معها» ، وعليه فإن من الأهمية بمكان العناية بالوثائق الرسمية الكنسية التي صدرت تبعاً لهذا الإعلان الكاثوليكي ، ليس فقط لمتابعة تطور مبادرة التحاور مع الآخر ورصد جديتها وتطورها ، بل لتلمس الفهم الديني المسيحي لغير المسلمين على العموم وللمسلمين بصورة مباشرة كمقابل للمسيحية ، وهذا سيكون جلياً واضحاً مثلاً ، إذا تابعنا المفردات والمفاهيم الأكثر حضوراً في هذه الوثائق والمراسيم الكنسية التي تم التأكيد عليها في عقيدة المسلمين ، والتي تم حذفها وتجاهلها من الخطاب المسيحي في سعيه للحوار معهم.
إلا أنه من اللازم علينا لتثمين هذه الجهود النظر في الوثائق الصادرة عن الكنيسة الكاثوليكية فيما قبل هذه المرحلة معتمدين على ما قدمه لنا إيدن والتي كان يسود فيها التساؤل عن إمكانية الخلاص لغير المسيحيين في القرون الثلاثة الأولى في العقل المسيحي الرسمي والثقافي الفردي ، حيث عبرت عنه القاعدة الأكثر أهمية وتأثيراً في تلك الحقبة «لا خلاص خارج الكنيسة».
وجد عالما الأديان هانز كنغ وسوليفان في تتبعهما للجذور التاريخية لهذه الوثيقة أنها قدمت للعالم المسيحي من الأسقف lgnatius في سوريا .. ويجادل العالمان نيتر وسوليفان في قراءتهما الكنيسة على الاخاء والوحدة ، ولم تكن موجهة إلى أتباع الديانات الأخرى ، إلا أن هذه الوحدة لم تتحقق أبداً ، بل أن هذه القاعدة قد زادتهم تفرقاً ، غير أن السؤال الذي ينشأ بحكم الضرورة هنا هو : إن لم تكن هذه القاعدة الكنسية في منشئها موجهة إلى أتباع الديانات الأخرى فمتى بدأ توظيفها لإخراج الآخر من «الخلاص المسيحي» الذي لن يتجاوز بحال أعتاب الكنيسة؟
لقد بدأ هذا تاريخياً في القرن الرابع بإعلان المسيحية الدين الرسمي للامبراطورية الرومانية عندما قام باباوات الكنيسة متأثرين بالقسيس أوغستين بتوظيف قاعدة الاستعاد «الخلاص المسيحي» لأصحاب الديانات الأخرى ، بمعنى أن الكنيسة انتقلت إلى «الحصرية» لإقصاء الآخر بدلاً عن «الاقترابية» هذه الحصرية تعززت بما ورد في الانجيل مارك (16:1516) والتي تضمنت أن الإيمان والتعميد معاً يحققان «الخلاص» وقد أضاف القسيس أوغستين مؤكداً أن «الخلاص» لن يتحقق لتلك الفئة التي سمعت بما جاء به الإنجيل ولم تعتنق المسيحية ، لأنهم بذلك مذنبون لرفضهم ، وعليه فلن يشملهم «الخلاص» لأن الخلاص لايكون إلا لأتباع الكنيسة فقط ، هذا التصريح شمل بالضرورة الوثنيين واليهود ثم أضيف المسلمون الذين كان يصطلح على تسميتهم بالأتراك إلى هذه القائمة ، وهنا نستطيع الخلوص إلى أن القاعدة التي كان منشؤها التوجه بالدعوة إلى هؤلاء المبتدعة الانفصاليين من المسيحيين الذين يؤرقون وحدة الكنيسة بالعودة إليها ، غدت بعد مرحلة أوغستين عنواناً محدداً لاستبعاد كل من لا ينتمي إلى الكنيسة من «الخلاص».
والأمر لم يقف عند هذا الحد الذي رسمه أوغستين فقد جاء الإعلان الذي صدر عن مجلس لأتران الرابع «1215» بإعلان «كنيسة واحدة عالمية للمؤمنين لا يكون بمنجى من اختار أن يكون خارجاً عنها» وهو الإعلان الذي اضاف إلىه البابا بونيفيس الثامن BONIFaca لاحقاً شرطاً جديد «1302» يتمحور حول الاعتراف بالسلطة البابوية لمن أراد أن يكون تابعاً للكنيسة ليتحقق له محو الخطايا و«الخلاص» والحياة الأبدية.
قاعدة «لا خلاص خارج الكنيسة» بقيت فاعلة فيما يتعلق بالدواعي المتصلة بأصل نشأتها ، ثم بدأ اتساعها على مستوى توظيف النص إلى أن طالت كل من لاينتمي إلى الكنيسة ، ثم لمن لايعترف بسلطة البابا ، بمعنى أنها ماعادت موجهة للمسيحيين المبتدعة أو الانفصاليين المؤرقين لوحدة المسيحيين ، بل لكل من لم يعتنق المسيحية بالكيفية التي رسمتها الكنيسة الكاثوليكية سابقاً ، وهي تشمل بذلك المسيحيين من غير الكاثوليك واليهود والمسلمين وغيرهم من غير الموحدين من الوثنيين ، في هذه الحقبة ازداد استبعاد الكنيسة للآخر دون أن يتم التساؤل عن المؤدي الثقافي لهذه القاعدة في الأوساط العالمية غير المسيحية ، فالمسيحيون الغربيون كانوا منشغلين بالتهديد الإسلامي الذي يمثله الجيش العثماني ، إلا أن اكتشاف اميركا «1492» قد زحزح أنظار الكنيسة إلى عوالم جديدة وبلاد تحمل ثقافات مختلفة لم تصلها رسالة المسيح ، فضلاً على أن تؤمن بها وعليه وجدت الكنيسة في تأويل نص الاستبعاد الأولي لغير المسيحيين وسيلة لفتح أبواب «الخلاص» المغلقة لذا فقد قام البابا بيوس التاسع pius lx 1854 بفتح الكوة لغير المسيحيين فقال:
«كما ينبغي الاعتقاد أن الخلاص لايكون بحال لمن لاينتمي للكنيسة الرومانية لأن الكنيسة هي سفينة نوح لهذا الخلاص ، إلا أننا بكل تأكيد يجب أن نؤمن أن الذين قد يكون جهلهم بالدين الحق خفياً ليسوا مذنبين في عين الرب» بعبارة أخرى الخلاص الذي لم يصرح البابا كيف له أن يتحقق غدا ممكناً لغير أتباع الكنيسة.
ثم وجدنا أن هذه الكوة أذن لها باتساع أكبر بمرسوم اطلقه البابا بيوس الثاني عشر piusx ll تم بموجبه القبول بالتعميد أو التعلق بمحبة خفية علوية بالمسيح ليتم لغير أتباع الكنيسة الكاثوليكية الخلاص ، ويبدو أن هذه التصريحات والمراسيم الكنسية الأخيرة قدمت في تحليل إيدن تعبيراً إيجابياً لرغبة الكنيسة في الخروج عن انغلاقها وحصريتها الذين فرضتهما على نفسها ، غير أن هذا الاستنتاج قد لا يخرج عن الاحتمال في قراءة تحليلية أخرى ، بمعنى أن توظيف هذه النصوص ليشمل «الخلاص» غير المسيحيين ، يبقى تفسيراً محتملاً يمكن الكنيسة من فتح باب الحوار مع الآخر ، والأهم من هذا زيادة المقاربة بين الكنيسة الكاثوليكية والكنائس الأخرى نحو وحدة مسيحية كاملة.
التفسير الديني للأديان غير المسيحية
في القرن العشرين قام مفكرون مسيحيون بارزون بالبحث عن تفسير إيجابي أرحب للقاعدة الكاثوليكية : «لا خلاص خارج الكنيسة» لتطوير رؤية كاثوليكية مكينة وأكثر ايجابية للأديان الأخرى ، فالرؤى السابقة لعلماء ما بعد اكتشاف امريكا كانت هشة ومنقوصة ، فهي لم تكن سوى عبارات وتعليقات مفككة افتقدت القدرة على التأثير في المواقف الرسمية للكنيسة ، إلا أن الحال تغير بعد منتصف القرن العشرين ، فالمفكرون بدوا وكأن لهم تأثيراً غير مباشر في تغيير الرؤية الكنسية للآخر ، من هؤلاء لويس ماسينيون وكارل راهنر ، فالأول كان عالماً فرنسياً متخصصاً بالدين الإسلامي والتصوف ، أما الثاني فكان متخصصاً بالعقائد الدينية عموماً ، كلاهما قد أسهم برفع الرصيد المعرفي للفهم المسيحي للإسلام ، وكلاهما أثر بوضوح في مجلس تعاليم الكنيسة الرومانية الكاثوليكية.
في حالة ماسينيون ، كان الاستناد إلى الميراث الإبراهيمي لإعادة تشكيل العلاقة بين اليهودية والمسيحية والإسلام ، وهو قد دعا الكاثوليكية المسيحية إلى رؤية المسلمين بذلك من خلاص النبي اسماعيل عليه السلام ، وبذلك تلتقي الأديان الثلاثة عند نبي الله ابراهيم عليه السلام ، هذا الالتقاء يجعلها جميعاً في خطة إلهية واحدة «للخلاص» الإلهي فاليهودية في السياق الذي يقدمه ماسينيون هي دين الأمل ، والمسيحية دين المحبة ، ثم يأتي الإسلام ليكون دين الإيمان ، وهو يحث المسيحيين على اعتبار القرآن مصدراً دينياً صحيحاً ، فهو أي القرآن مصدق لما جاء في التوراة والإنجيل ، ولعل التصوير القرآني للسيد المسيح وأمه مريم ، وإيمان المسلمين بنبوءة عيسى وطهر أمه وعذريتها عليهما السلام كان الباعث لاستنتاج ماسينيون ، فهو يجد في القرآن الوحي الذي نقل لمحمد عليه الصلاة والسلام بوساطة ملائكية ليكون صلة الخطاب الرباني بين الإله والإنسان ، يضاف إلى ذلك أن ماسينيون يرفض الصورة النمطية التي قدمتها بعض الفصائل الكنسية ، والتي تقدم محمداً عليه الصلاة والسلام نقيضاً للمسيح ، فهو يؤكد إخلاص محمد عليه الصلاة والسلام بدليل أن محمداً عليه الصلاة والسلام تلقى الوحي في مكة للدعوة ، ومن ثم فهو قد تعامل معه بوصفه نبياً يكتشف وحدانية الإله.
وفي المدينة قام بأداء شعائر تعبدية تؤسس لهذه الوحدانية ، وهو أي محمد لم يتبع اليهود في ادعاءاتهم بما يتعلق بالسيد المسيح وميلاده ، بل هو قد أكد ميلاده من مريم العذراء ، وهو قد انقذ اسماعيل عليه السلام من الاقصاء من الوعد المقدس ، إلا أن ماسينيون بما قدمه من زحزحة ايجابية لصورة محمد عليه الصلاة والسلام في الرؤية المسيحية ، يقدم محمداً نبياً سلبياً في جانب الإله ، وذلك «لأن دوره بوصفه نبياً هو إنكار أن يكون الإله أكثر مما قد ساقه هو عنه» ومع ذلك فإن ماسينيون يصر على أن دور المسيحية يجب أن يتجاوز «التبشير إلى الحوار» بمعنى أن الرؤية المسيحية لاينبغي أن تقف عند رؤية الإسلام من الخارج ومعاداته تبعاً لذلك ، بل يجب أن تكون رؤية الإسلام من خلال التعايش الذاتي مع النقاط المحورية فيه ، والتي يتمحور فيه الغيب وبوارق الحقيقة بصورية غير محسوسة.
ويجد الباحث المسيحي «ترل» أن تأثير ماسينيون على الكنيسة الكاثوليكية كان ممكناً لأنه بوصفه عالم أديان أكاديمي فقد تبنت فكرة فئة مثقفة في الشأن المسيحي الإسلامي ، غير أن روابط الصداقة والحمية التي كانت تربط ماسينيون بالكنيسة وبموانتيني الذي غدا البابا السادس في المجلس الفاتيكاني الثاني ، مع أنه لم يشارك في صياغة مرسوم المجلس الكنسي فيما يتعلق بالإسلام بسبب وفاته ، جعلت لآرائه حضوراً واضحاً فيه ، فهو في قراءة «ترل» قد نقل الرؤية المسيحية غير المثمرة بل والتي ترى في العلاقة مع المسلمين «المقابل المدمر» إلى رؤية حوارية إيجابية تعاونية في عبادة إله واحد للبشر.
وقد مارس «راهنر» اليسوعي الألماني المتخصص في العقائد الدينية غير المسيحية وشغل منصباً رسمياً في المجلس الكنسي تأثيراً ضاغطاً على الصياغات النهائية للمراسيم الكنسية التي أصدرها المجلس ، بدأ راهنر بصورة مباشرة يبدي آراءه فيما يتعلق برؤيته لعلاقة المسيحية بغيرها من الديانات الأخرى في محاضرة قدمها أمام الأمانة العامة للمجلس الفاتيكاني «1961» وقدم في رؤية غير المسيحيين نقطة تحول رحبة في فكر الكنيسة فيما يتعلق بالآخر أخرجتها من حالة الاستبعاد فهو «لايجد الأديان الأخرى عناصر أولية وطبيعية لمعرفة الإله فقط ، وإنما يرى أمثلة خارقة تعكس النعمة الإلهية لما يقدمه الإله للإنسان بسبب من المسيح» وقد اعتمد راهنر على ما يسميه «بالتفسير العقدي» لبعض المبادئ الأساسية في العقيدة المسيحية الكاثوليكية ليقدم حلاً لعلاقة المسيحية مع الآخر في ظل التعددية في عالم اليوم وهو يعلن من أوليات هذا التفسير :«إن المسيحية دين أكيد لكل البشرية ، والمسيحية لن تقبل بدين آخر إلى جانبها بسمات وأولوية مماثلة ، فالمسيحية الصورة الجيدة الحقة للدين الذي يقدم فيه الإله الخلاص لكل البشرية من خلال المسيح» إلا أن راهنر يجد في العناصر الطبيعية وانعكاسات الرحمة الإلهية فيها ممهدات لقبول البشارة ، هذه الممهدات لن تتأتى لمن لايتبع ديناً ما .. غير أن هذه الديانات الأخرى التي تشكل في نظرية راهنر المراكب الموصلة لعلاقة الخالق بالمخلوق تنتهي بحضور المسيحية ، بمعنى أن فعاليتها وقبولها ينتهيان لأن «الخلاص» لن يكون إلا باعتناق المسيحية ، وبهذا يكون دور الكنيسة تقديم العون لغير المسيحيين باسم المسيح إلى أن تتبلور عناصرهم الإيمانية الكامنة ويغدون رعايا لها ، وحتى يتأتى ذلك يجب على الكنيسة أن تكون مثلاً يحتذى للآخرين.
ثانياً : المجلس الفاتيكاني الثاني والأديان الأخرى:
يشكل المجلس الفاتيكاني الثاني «1962» الذي افتتحه البابا جون الثالث والعشرون «lohn xxlll» رسمياً لحظة تاريخية في علاقة المسيحية بالأديان الأخرى فالمجلس قد أصدر وثيقتين مهمتين في هذا السياق ، الأولى هي «الإعلان عن علاقة الكنيسة بالأديان غير المسيحية «nostra Aetate» والثانية الدستور العقدي للكنيسة «lumen Gentium» .
فحتى صدور هاتين الوثيقتين لم تبد الكنيسة اهتماماً رسمياً بالحوار مع الآخر غير المسيحي ، غير أن البابا في الجلسة الافتتاحية لهذا المجلس لم يصرح بما يتعلق بهذا السياق الحواري ، فالبابا كان قلقاً بما يسمى «العداء للسامية» في رحبات الكنيسة ، والذي يبدو أن مخاوف بعض القيادات الفكرية اليهودية الفرنسية قد عبرت عنه في جلسة خاصة معه ، لذلك كان لابد للكنيسة أن تقدم وثيقة متعلقة بعلاقة الكنيس اليهودي في الكنيسة الكاثوليكية لطمأنة اليهود «1963» هذه الوثيقة قوبلت بمعارضة القساوسة العرب والآسيويين الذين لم يجدوا فيها إلا دعماً من الفاتيكان لما يسمى «دولة إسرائيل» بل أن البعض قد طالب الكنيسة بتصريح أو وثيقة تبرز نوايا الكنيسة الحسنة تجاه الإسلام والمسلمين على قدم المساواة مع اليهود ، حينها فقط جاء الإعلان الكنسي فيما يتعلق بعلاقة الكنيسة مع غير المسيحيين من أتباع الديانات الأخرى «1965» وأصدرت الوثيقة الأولى (nostra Aetate) حينها تجلت ثمار أفكار ماسينيون في بلاط الكنيسة.
غير أن إعلان هذه الوثيقة اثار جدلاً بين القساوسة المحافظين ، فهم وجدوا فيه إشكالاً في طريق المهمة التبشيرية ، بل قد يكون مسماراً في نعشها ! فوجدنا الكاردينال «بيا» الذي قام بصياغة النصين السابقين يقدم تفسيراً للقساوسة لما تعنيه هذه الوثيقة ، ذلك أن الهدف الذي صيغت لأجله لايعني الإبراز الكامل للديانات الأخرى ، وهو كذلك ليس لإيضاح نقاط الخلاف أو المقاربة بينها وبين المسيحية ، بل لبيان أن هناك رابطاً بين الإنسان والدين ، هذا الرابط هو القاعدة المشكلة للحوار أو حتى التعاون ، لذلك لابد من ابداء اهتمام أكبر لتلك الأشياء التي تجمعنا وتعين على تفاهم أكبر.
يجد «روكانين» أن الكنيسة في هذا التفسير تؤسس لعلاقة متساوية بين الشعوب الإنسانية رجالاً ونساء أمام خالقهم الواحد ، والذي يسعون جميعاً لإرضائه ، وبهذا فهو جعلنا نتلمس النصوص الكنسية باستشعار الانتقائية المصطلحية ، فالكنيسة تخلت في صياغتها للمراسيم والوثائق عن التعبيرات (terminology) التي تلقى بالآخر إلى خارج مستوى الخطاب بوسمه بالوثنية أو الصنمية أو بدعوتهم بالمذنبين وأهل الخطيئة ، فالناس جميعاً ضمن السياق الجديد لهم كرامة إنسانية متماثلة «لأن الخالق خلقهم على صورته» بهذا تتضمن الوثيقة ايحاءً بأن الديانات جميعاً تشكل تعبيراً إنسانياً في البحث عن الحقيقة بهذا تكون الكنيسة تنظر نظرة اعتبار للآخرين من خارجها ، ذلك بأنهم كما ترى الكنيسة قد سلكوا دروب تدين مقبولة لمعرفة الخالق ، لذا فإن في أديانهم شعاعاً من الحقيقة هذا الشعاع بدوره يؤثر تأثيراً فاعلاً وايجابياً في تدبير شؤون معاشهم ، «فالكنيسة لاترفض ماهو حق ومقدس في الأديان الأخرى» إلا أن السؤال الذي يبقى قائماً هو من سيملك الكلمة النهائية في اضفاء صفة ماهو حق ومقدس فيما تدعو إليه تلك الأديان عدا المسيحية؟
ويجد روكنان في تحليله «أن رفض الكنيسة أو تصويبها لما تدعو إليه الأديان الأخرى سيكون فقط إذا كان متضمناً بتعاليم المسيح ومصدقاً لمحتوى الحقيقة التي يقدمها ، لاخارجاً عنه» وقد نتساءل : أليست هذه التعاليم هي ماكانت تدعو لها الكنيسة سابقاً أم هل هي تلك التي ستكون متضمنة في المراسيم أو القراءات المختلفة أو المتقاربة للطرح الكاثوليكي أو لغيره من الكنائس العالمية الأخرى في قابل الأيام ؟ إلا أننا قد ندرك أن الثمرة لهذا الطرح في قبول الآخر قد تم انبثاقها ، فالكنيسة في سياق الرؤية الآنفة «دعت رعاياها للدخول بحصافة وتلطف في محاورات وسبل تعاون مع الآخرين مع المحافظة على إيمانهم وطريقتهم الخاصة في الحياة» وهذا يعني التحاور ثم التعاون في الأمور والاهتمامات العالمية المشتركة كالعدالة الاجتماعية ، والفقر ، والكوارث الطبيعية ، والأمراض الفتاكة المختلفة إلا أن هناك دائماً بعض الاتساع ليحاور المنخرطون في هذه الشؤون بعضهم بعضاً ، فهم قد يتحدثون عن إيمانهم الخاص واعتقاداتهم الذاتية.
المجلس الفاتيكاني الثاني والمسلمين
لم تنج الوثيقتان المشار إليهما من النقد المسيحي والإسلامي معاً فالوثيقتان مثلاً تعلنان «أن المسلمين يؤمنون بخالق السماوات والأرض الذي كلم الإنسان ، إنهم يؤمنون معنا بالخالق الرحيم وباليوم الآخر ، الذي سيقضي فيه الإله الحي القيوم الرحيم بين بني الإنسان» وهي كذلك تنص على تكليم الخالق للإنسان الذي كلم المسيح في الحالة المسيحية إلا أن الكنيسة لم تنص على ما يتعلق بالوحي في حالة الإسلام ، بمعنى أنها لم تذكر بوضوح أن القرآن الذي نقله محمد عليه الصلاة والسلام للمسلمين هو كلام الخالق أيضاً غير أن إيدن يجد في هذا التعبير الكنسي تطوراً في نظرة الكنيسة الاعتبارية للدين الإسلامي ، فهو يجد : «أننا قد نستنتج من خلاله أن الكنيسة تعد الإسلام ديناً نبوياً كاليهودية والمسيحية ، وذلك لأن الكنيسة كانت تشير إلى القرآن من طرف خفي ، وهي مع ذلك لم تقض فيه حكماً» غير أن بورمانز يشير إلى أن الكنيسة لم تقصد تقييم صحة الوحي التي يستند إليها الإسلام ، غير أن تمييز الإسلام عن غيره من الأديان الإلهية التي انبثقت عبر جهود إنسانية ، بكونه ثمرة لكلمة مقدسة ، هو لذلك وحي تماماً بما تعنيه الكلمة ، فالمسلمون يؤمنون أن الله خاطبهم بالوحي ، وهذا هو الذي قد دفع المسيحيين لاعتبار هذا الإيمان من هؤلاء المسلمين ضمن تصور خاص خارقاً ومخلصاً.
ومن الملاحظ أن الكنيسة قد راعت في خطابها للمسلمين انتقاء الصفات الإلهية ذات الدلالة الواضحة والمتداولة على المستوى العقدي الإسلامي ، فهي مثلاً عبرت أن المسلمين «يومنون بالتوحيد «لا إله إلا الله» ، ويعبدون الحي القيوم الرازق الرحيم» فهي بذلك أسست لخطاب قد يظهر فيه التساوي بين الإسلام والمسيحية ، لذا نجد «كاسير» يقول : إن الإيمان بالإله ذاته كنقطة مركزية تختلف في طبيعتها بصورة جذرية بين الإسلام والمسيحية» وعليه فقد كان على الكنيسة أن توضح هذا الاختلاف لئلا يقود الفهم المغلوط لهذه النقطة المحورية والأساسية المسيحيين إلى «مسحنة الإسلام».
غير أن الكنيسة الكاثوليكية ثمنت الشق الأول في عقيدة المسلمين «لا إله إلا الله» وتجاهلت الشق الثاني «محمد رسول الله» والذي يتمم الركن الأساسي في الإسلام ، فالكنيسة تفضل التزام الصمت فيما يتعلق بمحمد عليه الصلاة والسلام في هذا السياق التجاهلي يقول «فاروجيا» «إن أي اشارة محتملة من الكنيسة لمحمد قد تحمل شيئاً ما من التقدير الديني لأهم نبي عند المسلمين» لذلك وجدنا «أنواتي» يضيف «إلا أن هذا الصمت فيما يتعلق بهذه النقطة المركزية لابد له من نهاية ومن ثم يلزم التفصيل إذا بدأت الكنيسة حواراً مع المسلمين».
ثم وجدنا الكنيسة تؤكد على ابراهيم عليه السلام كأب مشترك للمسيحيين والمسلمين فالمسلمون كما قدمت الكنيسة في رؤيتها «سلموا أنفسهم بايمان للغيبيات الإلهية ، كما سلم إبراهيم للمشيئة الإلهية ، والمشيئة الإلهية بالخلاص تشمل هؤلاء الذين يعترفون بالخالق ومن ضمنهم المسلمون الذين يحملون الإيمان الذي حمله ابراهيم».
فابراهيم عليه السلام في هذا السياق «لايكون الأب العرقي للمسلمين العرب لأن هذا لايحمل دلالة دينية بحال ، إلا أن ابراهيم يشكل الأب الروحي وانموذج التضحية والتسليم المطلق للمشيئة الإلهية في عقيدة الإسلام الذي يجعله حقاً الأب الروحي لكل المؤمنين .. إلا أن الكنيسة لم تذكر اسماعيل عليه السلام وصلته بالعرب والمسلمين ، فهو يجد أن الكنيسة اعطت اهتماماً أكبر بمسألتي ابراهيم عليه السلام والوحي فيما يتعلق بالمسلمين ، ولعل مايجعلنا نتقبل هذا الطرح عندما نعلم أن حضور ابراهيم عليه السلام في القرآن ليس حكراً على مجتمع معين ولكن كأنموذج للإيمان ينبغي أن يحتذى من البشرية جمعاء.
أما فيما يتعلق بالسيد المسيح وأمه مريم عليهما السلام وجدنا أن الكنيسة في خطابها للمسلمين تقدر تبجيل المسلمين لهما ، بالتأكيد على نبوة عيسى المسيح عليه السلام وميلاده من أمٍ عذراء ، على الرغم من أن المسلمين ينفون عنه القدسية الإلهية التي توليها له المسيحية.
فالكنيسة الكاثوليكية تبجل حقاً ، السيدة مريم العذراء عليها السلام لذا فهي ستثمن الموقف الإسلامي منها ، ولأجل هذا وجدنا شخصية مسيحية معتبرة مثل ماسينيون تدعو إلى «اعتبار تقدير المسلمين العظيم للمسيح وأمه عليهما السلام للإقرار بأن القرآن وحي ليس عليه شبهة شك وهو مصدر ديني حقيقي لذلك الاعتبار » ويجد «فاروجيا» بدوره أن هذا التقدير الكاثوليكي للمسلمين منسجم مع الإعلان الكنسي «nostra Aetate والذي ينص على «أن الكنيسة الكاثوليكية لاترفض ماهو صحيح ومقدس في الأديان الأخرى غير المسيحية ، فهي لعلها تريد أن تظهر أن الإسلام يعكس شعاعاً من الحقيقة التي تنير قلوب الناس «فلعل فاروجيا يجد أن على الرغم من غياب صورة المسيح كما يراها المسيحيون عن الإسلام إلا أن الشخصية التاريخية له وعلاقته بالخطة الإلهية للخلاص ليست متجاهلة كلياً بيد أن إيدن يجد أن هذا التقدير من الكنيسة الكاثوليكية للخطاب الإسلامي للسيد المسيح وامه مريم عليهما السلام قد يشكل أرضية مشتركة لعلاقة أفضل بين المسيحيين والمسلمين.
فالكنيسة الكاثوليكية استندت إلى خطابها مع المسلمين إلى كل ماتقدم من إيمان المسلمين بإله واحد ، وإلى إقرار وتصديق باليوم الآخر كيوم يحاسب فيه الناس بالعدل أمام الخالق ، يضاف إليه الإيمان بإبراهيم عليه السلام الأب الروحي للديانات الثلاث ، وتبجيل المسلمين للسيد المسيح وأمه مريم عليهما السلام وهي تؤكد أيضاً على تقديرها للحياة الدينية والأخلاقيات التي يتبعها ويتعامل بمقتضاها المسلمون ، وهي تؤكد أهمية الدوافع الدينية والتسليم الكلي والطوعي للخالق الذي يعتنقه المسلمون في تقديم الخالق على الخلق ، وهي تثمن حقاً الصلوات الخمس التي يصليها المسلمون ، وحثهم على الزكاة وأدائها ، وصيامهم المخلص لشهر رمضان إلا أن السؤال الذي لابد أن يسأل كما في تحليل إيدن لماذا تجاهلت الكنيسة ذكر أركان الإسلام الأخرى ونعني بذلك الشهادتين بصيغتهما التامة والحج ؟
يعلل «كاسير» : أن تخصيص الكنيسة لأركان الإسلام الثلاثة جاء لأهمية فعلها في حياة المسلمين ، فالحج محدود بمرة واحدة في العمر، كما أن أداءه قد لايكون ممكناً لجميع الأفراد» ، غير أنه يضيف : «إن الكنيسة بينما كانت تعبر عن تقديرها للمسلمين وحياتهم كانت تولي اهتماماً أكبر لاخلاقيات ومبادئ الكنيسة» كما يجد «فاروجيا» ايضاً أن الكنيسة «لم تكن تعني بابراز تفاصيل العقيدة الإسلامية ، بل بابراز نوياها في مخاطبة المسلمين» بينما يفسر «كوريليوس» هذا الإعراض عن ذكر أركان الإسلام الأخرى بأن الكنيسة تعني فقط بذكر العناصر الدينية التي تتماشى مع المسيحية ولا تصطدم معها ، لإعلان توحيد انجيلي في شكل يهودي مسيحي ، لذلك يجد إيدن أن هذا العرض المسيحي ينسجم مع تصور المسيحيين للإسلام الذي امتد حتى منتصف القرن العشرين إما كابتداع من محمد ، أو امتداد لليهودية فالأقرار بالشق الثاني من الشهادتين والحج إلى مكة سيلزم الكنيسة بمراجعة عقيدتها وتصوراتها الإيمانية فيما يتعلق بالإسلام.
فالكنيسة تذكر المسلمين وتقدر توحيدهم وإيمانهم وأخلاقياتهم إلا أنها لاتعترف بالإسلام الذي يكشلهم فالإيمان الذي يحملون هو الذي يجعلهم في رؤية الكنيسة يملكون موقعاً خاصاً في الخطة الإلهية للخلاص كموحدين ، ويبين «فاروجيا» «إن هذا التقدير الكنسي جاء ليظهر للمسلمين أن النعمة الإلهية قد تكون متوافرة لهم لينالوا الخلاص الأبدي فهم في التعبير الكنسي «the people of God» الذين لم تتأتى لهم البشارة ، إلا أن الكنيسة لاتبين بأي الطرق سيتمكن المسلمون من نيل هذا الخلاص ، فالكنيسة الكاثوليكية كما يلخص إيدن بعبارة موجزة لم تتعرف أو تعرف الإسلام بوصفه ديناً آخر يعبر عن الإيمان الحقيقي الذي تدعيه للمسيحية ، فهي في مبادرتها الحوارية نصت على مايتفق من الإسلام مع أسس المسيحية كما تراها الكنيسة ، وهي في ذلك في ذلك تفتح باباً للحوار مع الأديان الأخرى عامة والإسلام خاصة من جانب ، بينما تحتفظ بباب التبشير إلى المسيحية مشرعاً لكل أتباع الأديان الأخرى.
لقد كان نسيان الماضي الدامي بين المسيحيين والمسلمين مطلباً عبرت عنه الكنيسة لبدء صفحة من التحاور ، فالتحدي الذي يفرضه استكبار الوثنية الحديثة للمادة في عصر العلمانية والعولمة يفرض اتحاداً على مستوى الأجندة الإيمانية للأديان التوحيدية كافة ، ولعل مايشهده وضع الإنسانية من معاناة لمصائب وكوارث طبيعية يحض أتباع الأديان على التكاتف لمواجهة اللادينية والفقر الذي تفرزه آليات العولمة والتردي وعلى الأخلاقيات الاجتماعية والمحبة والتعاطف بكلمة أخرى وجدت الكنيسة في الحاجات الإنسانية للإنسان على اختلاف أعراقه وتوجهاته في العصر الحديث قاعدة وأرضية مشتركة للحوار لتحقيق السلام والعدالة الاجتماعية والحرية والأخلاق وهذا هو الأمر الذي سينبثق عنه حتماً اتفاق آخر ، بديلاً عن الحوار على أرضية دينية تختلف اختلافات جذرية في أسسها وتأويلاتها.
يبقى السؤال عن امكانية تحقيق «الخلاص» لاتباع الأديان غير المسيحية ، أو توافر ممكنات هذا «الخلاص» في تعاليم الأديان الأخرى ، كذلك يبقى هذا الأمر طرحاً ملحاً في تناول الكنيسة الكاثوليكية في المجلس الفاتيكاني الثاني ، فالقاعدة الكنسية «لا خلاص خارج الكنيسة المسيحية» مازالت تمتلك تأثيراً لرسيمتها التعاليمية في تشكيل علاقة الكاثوليكية المسيحية بغير المسيحيين ، كان هذا جلياً على الرغم من محاولة السلطات الكنسية التخفيف من توظيفاتها السابقة إلى الأذهان بتمويه العبارات المفضية إليها أو تنميقها لذا فإن التساؤل عن امكانية الخلاص يبدو مشروعاً من جانب ، ومن جانب آخر سيؤدي بنا إلى تقدير جهود الكنيسة في تجاوز هذه القاعدة وجديتها في إعادة تشكيل خطابها مع الآخر.
ليخلص إيدن إلى الاجابة عن سؤالنا الملح وجدناه يرقب ما أصدرته الكنيسة في تعبيرها عن «الخلاص» من وثائق وتصريحات فالوثيقة الأقرب لصوقاً في هذا السياق كانت «الإعلان عن علاقة الكنيسة بالإديان غير المسيحية «nostra Aetate» التي تحدثت عن الأديان الأخرى بلهجة متعاطفة وباظهار النوايا الحسنة للمسيحية اتجاه الآخر ، وهي في اللحظة التي تعتبر بوضوح عالمية الخلاص الإلهي بدلالة عطايا الرب وخيراته وانموذجه الخلاصي الذي يشمل بني الإنسان ، لا تذكر كيف يتأتى لغير المسيحيين هذا الخلاص ، وهنا نجد أن وثيقة: «قيمة الخلاص لغير المسيحيين Gentuim lumen آذنت بانتهاء الفعل الرسمي لوثيقة «لا خلاص خارج الكنيسة» فاتباع الكنيسة يبدو محدداً أساسياً لتحصيل «الخلاص» هذه المرة بالتأكيد على أن السيد المسيح أثره فاعل ودؤوب ليقود الناس جميعاً في العالم إليها ، وهي تؤكد أن الالتزام بالخلق الحسن والأعمال الطيبة كافيان لتحقيق «الخلاص» في كل الأزمان ولكل أفراد الشعوب ، فخشية الرب وعمل مايرضى عنه هي السبيل.
في فقرة أخرى من هذه الوثيقة ينقسم أتباع الأديان الأخرى إلى قسمين ، هؤلاء الذين سمعوا بالدعوة المسيحية وعرفوا أن الكنيسة الكاثوليكية وجدت بالضرورة بعناية الرب من خلال المسيح إلا أنهم رفضوا الكنيسة وأولئك الذين لم تصلهم البشارة ولم يتبعوا الكنيسة إلا أنهم يرغبون بمعرفة الرب بقلوب مخلصة ، ويتحركون في نعمائه لما يرضيه بقدر معرفتهم القلبية ، فينجحون ويتأتى لهم «الخلاص» هذه الفقرة من الأهمية بمكان لأنها تعني بامكانية تحقيق «الخلاص» لغير المسيحيين بافصاحها عن السبيل إليه ، بعبارة أخرى عن شرطية ، والتي تعني عدم رفض البشارة ، وعدم رفض اتباع الكنيسة ، يرفده السعي لرضى الرب بالعمل الطيب والخلق الحسن ، وتحقيق المشيئة الإلهية التي يستشعرها هؤلاء الأفراد في ضمائرهم ، هذه الأحوال كما في ملحظ «روكانين» :«لم تتولد من اتباع هؤلاء الأفراد لاديانهم ، بل من الطبيعة التي جبلوا عليها «هذا البعد الذي تتحدث عنه الكنيسة أقل ايجابية من آراء «راهنر» قبيل المجلس الفاتيكاني الثاني ، والذي جعل فيه الأديان الأخرى غير المسيحية شرعية من جانب افرازها لخيرية اتباعها.
الوثيقة الأخرى التي أصدرها المجلس هي وثيقة السعادة والأمل «loy and Hope» ، السعادة والأمل والتي تجعل الناس جميعاً في رحبة التساوي «فالروح القدس تؤثر بخفاء بمجرد اعترافهم بأن المسيح قد مات ليحيوا لأن جميع الناس مدعوون لذات القدر المقدس ، وينبغي عليهم جميعاً أن يؤمنوا أنهم جميعاً شركاء في الدعوة إلى درب الرب» وهنا لا نجد مكاناً لغير المسيحيين ، إلا أن الإشارة إلى الفضل الإلهي تبدو عالمية ، فهي تشمل كل الناس ، فكلهم كما تعلن الوثيقة خلقوا من ذات واحدة وعلى صورة الرب لقدر واحد.
ثم تأتي الوثيقة الرابعة وهي وثيقة : الخلاص العالمي المقدس :
(sacrament of salvation the universal) التي تلغي بكل وضوح «لاخلاص خارج الكنيسة» لتعلن أن هناك خلاصاً خارج الكنيسة ، إلا أنها غلفته بالغموض عندما اضافت : «إلا أن الكنيسة ضرورية لتحقيقه» ، لذلك نجد أن السؤال حول مصير أتباع الأديان الأخرى الذين ليسوا رعايا للكنيسة يعود ملحاً وبلا إجابة نهائية بين المفكرين المسيحيين لمؤدى هذه الوثيقة.
إن المتفحص لهذه الوثائق جميعاً كما بين إيدن قد حملت تعبيرات ايجابية إلا أن دلالاتها لم تكن ايجابية بما يكفي لتمهيد سبل التحاور مع أتباع الديانات الأخرى عموماً والمسلمين على الخصوص ، لأنها رافقتها بعض العبارات التي سيطرت عليها دلالات سلبية ، فهي مثلاً لاتذكر الإسلام بوصفه ديناً ، بل تكتفي بالإشارة إلى المسلمين أفراداً ، ذكوراً واناثاً ،و بالتأكيد على فعلهم الاجتماعي واخلاقياتهم دون عزوها جميعاً إلى مصدرها الديني ، الإسلام فالمجلس الكنسي لايريد الاشارة بحال إلى أن الإسلام دين فيه تحقيق «الخلاص» فالإسلام تراه الكنيسة خارج الإطار الانجيلي التاريخي ، ولاتراه كاليهودية داخلها ، هذه الازدواجية في رؤية الكنيسة تطرح تساؤلاً مهماً : «هل يكفي حقاً الرؤية المسيحية أن تضع أولاً الإسلام مع الأديان الأخرى ، ثم تعدد ثانياً كل السمات الفردية التي يحملها أتباعه مشاركة للتراث الانجيلي»؟ فهذه الوثائق جميعاً قد تصلح نقطة بدء الحوار مع الآخر ، ولا يمكن أن تشكل على أي تقدير هدفاً له ، فالمجلس الفاتيكاني الثاني لم ينجح فيما قدمه من تعاليم ووثائق في توضيح معالم أوسع لأسس الحوار الديني.
التطور في تعاليم الكنيسة الكاثوليكية مابعد المجلس الفاتيكاني الثاني فيما يتعلق بغير المسيحيين.
قام البابا بولص السادس عام 1964 بتأسيس «الأمانة العامة للأديان المسيحية» لتنظيم نشاطات الحوار التي تقوم بها الكنيسة الكاثوليكية ، وقد دعيت هذه الأمانة العامة لاحقاً في عام 1989 «المجلس الاسقفي للحوار الديني» ويعد ذلك من أهم ثمار محاولات الكنيسة الانفتاح على الآخر في المجلس الفاتيكاني الثاني ، وقد حدد البابا أهداف الحوار بالدعوة إلى التعرف إلى الآخر بأمانة وايجاد وسائل لحوار مثمر ليتعرف الآخر بدوره على المسيحية ، وقد أكد الكاردينال باولو ماريلا الرئيس الأول للمجلس أن هذا الحوار ليس بديلاً للتبشير أو متنافراً معه ، ثم طمأن رجال الكنيسة القلقين «بانهما أي الحوار والتبشير عمليتان متقاربتان إلا أنهما متمايزتان ، فالتحاور بين المسيحية والأديان الأخرى حوار على المستوى الإنساني لا الديني ، فالكنيسة لاتريد أن تجعل الآخرين يتحولون إلى المسيحية ، بل هي تريد أن تجعلهم مستعدين للإيمان المسيحي».
الكاردينال باولو ماريلا قام أعضاء المجلس بإصدار منشورات وبيانات متعددة توضح آلية التحاور وأهدافها ، والتي تتمحور حول إعادة تشكيل العلاقة مع الآخر وتجاوز كراهية الأيام الماضية والنظر لتدبير المصالح الإنسانية المشتركة ، ويترافق هذا مع تمهيد الحالة الاستعدادية للمتحاور غير المسيحي للتعرف على رسالة المسيح ، فرغم وجود الخيرية في الآخر إلا أن قدسية الوحي الكاملة لاتتوفر إلا في المسيحية ، والمجلس قد أصدر توصيات بزيادة جهود أعضائها لمعرفة المسلمين لزيادة الكفاية الكنسية في التحاور معهم وإن كان المجلس الكاثوليكي لم يرع أي منتدى تحاوري في هذه المرحلة فهو قد اكتفى بالمشاركة في بعض المنتديات الحوارية التي رعاها مجلس الكنائس العالمي.
في المرحلة التالية 1973 1980 في عهد الكاردينال بيجنيدولي انتقل المجلس الكاثوليكي من مرحلة الإعداد والدراسة إلى المباشر والممارسة ، إلا أنه لابد من اتباع الاستراتيجيات ذاتها في كسب الآخر ، والتي تتلخص بمعرفته والتعرف إلى بنيته المعرفية والتاريخية وتقاليده المتوارثه ، اللقاء الأول كان برعاية ليبية في طرابلس 1976 الهدف من هذا اللقاء كان التبادل الثقافي والمعرفي بين المسلمين والمسيحيين ، وذلك للاسهام بزيادة معرفة كلا الجانبين بالآخر على مستوى الحضارة والمدنية ، هذا بدوره سيوضح المشترك والمختلف بين الديانتين ، وبما يسمح في الوقت نفسه كلا الطرفين للتمسك والالتزام بتعاليم دينه وايمانياته الخاصة ، بنهاية لقاء طرابلس بدا وكأن الكنيسة الكاثوليكية خرجت عن صمتها السلبي فيما يتعلق بمحمد عليه الصلاة والسلام فمثلاً الأب لانجفراي طلب المغفرة من المسلمين لما صدر عن المسيحيين من الاساءات الجارحة لمحمد عليه الصلاة والسلام يضاف إلى هذه النقطة الايجابية نبذ الكنيسة للتنصير الاجباري الذي مورس على المسلمين في الماضي ، والدعوة إلى احترام الحرية الدينية لجميع الأفراد ثم كان إنشاء مجموعات بحثية مشتركة من مفكرين مسلمين ومسيحيين عام 1977 والتي لم تكن تعكس بالضرورة أو بصورة مباشرة التعاليم الكنسية والرؤية المسيحية الرسمية للمسلمين والإسلام.
وقد اصدر المجلس في الفترة 1980 1984 نسخة منقحة من
Dialogue between muslims and christians Guidalines for
الخطوات الموصي باتباعها للحوار بين المسلمين والنصارى ، ثم جاء الإعلان عن «اتجاهات الكنيسة نحو اتباع الأديان الأخرى ، توجيهات للحوار المسيحي الإسلامي».
تابع المجلس بعد ذلك برئاسة الكاردينال آرنيز الحلقات البحثية المشتركة ، فتم تنظيم ثلاث ندوات في العاصمة الاردنية ، عمان ، بالتعاون مع «المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية» في الموضوعات التالية: التعليم الديني في المجتمعات الحديثة ، دور المرأة في المجتمع في الإسلام والمسيحية ، القومية في الحاضر كذلك قام المجلس برعاية مشتركة مع المنظمة العالمية للدعوة الإسلامية بتنظيم ثلاث لقاءات اكاديمية أخرى ، هي الأديان واقع وآفاق ، الدعوة والتبشيرية والوجود المشترك للأديان.
هذه المرحلة بالذات قام مجلس الأساقفة للحوار بين الأديان بإعلان مشترك مع التجمعات التنصيرية لوثيقة : آراء وتوجهات الحوار الديني: حوار وإعلان انجيل عيسى المسيح لدرء الشبهة حول التصادم بين التبشير والحوار ، ثم عقد المجلس اجتماعين هامين لكافة أعضاء المجلس لمراجعة ماتم انجازه وتقدير فعالية الجهود التحاورية مع غير المسيحيين وذلك في عام 1992 ، ثم في عام 1995، المثير للناقد المتبصر في الشأن المسيحي أن المجتمعين أجمعوا على أن الحوار جزء من التنصير ! وهذا تماماً ما نص عليه البابا بول الثاني في مرسومه الكنسي في العام 1990 ، ثم أضاف المجتمعون «أن الحوار مع غير المسيحيين لاغناء التبادل الثقافي الذي ينبغي أن تكون المصادر المسيحية فيه المنبع لهذا الإغناء ، وإن لم يكن تحويل دين المحاور هدفاً أولياً ، إلا أنه إذا اعتنق المتحاور المسيحية فهذا مصدر غبطة للمسيحيين ، فإن المحاورين من المسيحيين يدخلون فيها باسم المسيح لإظهار محبته لكل أحد».
لذا يبدو أنه في الوقت الذي يدخل فيه المسلمون هذا التحاور باسم الله سبحانه لإعلان كلمته ، يدخل المسيحيون لإعلاء كلمة المسيح ، وما يعزوه المسلمون لله سبحانه يعزوه المسيحيون للمسيح عليه السلام غير أن هذه الإفرازات السلبية للاجتماعات الآنفة الذكر تترك متسعاً لايجابتين أولاهما: تأكيد متابعة المجلس للدراسات المكثفة للأديان الأخرى ، مما قد يعني فهماً أفضل للآخر ، والثانية التأكيد أن التحاور بين الأفراد من الجانبين ليس تحاوراً بين نظامين دينيين ، لأن هذا حتماً سيفضي إلى خلافات غير مرغوبة للجانبين.
تميز البابا بولص الثاني بأنه رجل الحوار فقد أصدر عدداً من المراسيم الكنسية التي تعني بالحوار مع غير المسيحيين من أتباع الديانات الأخرى ، ومع ذلك فقد أكدت في هذه المراسيم على ضرورة تواصل الجهود والفعاليات التبشيرية ، وأنها لاتنتهي أو تهدد بالفعاليات التحاورية ، فما زال التأكيد على أن الخيرية والقدسية الحاضرة في هذه الديانات غير المسيحية ليست إلّا آثار الفعل الخفي والمقدس للمسيح المخلص والروح القدس ، فيها فالمسيح في رأي البابا هو المخلص الأوحد للإنسانية ، وهو قد خاطب غير المسيحيين بكسر حواجز الكراهية والأحكام المسبقة عن المسيحية ، فلا بد من تعاون الجميع لنبذ الخلافات والتعاون على ايجاد أنموذج مشترك للإنسانية جمعاء ، لأن الإنسانية أصل مقدس ومشترك للجميع ، غير أن البابا ينبذ الدعوة الفكرية التي تنادي بتعدد الديانات في الأوساط المسيحية ،فالمسيحية هي الطريق الأوحد للخلاص ،بيد أن الديانات الأخرى غيرها تحتوي على بعض ماهو أخلاقي ومقدس.
وقد خاطب البابا بولص الثاني المسلمين في جولاته المتعددة في البلاد الاسلامية مؤكداً أن هناك مايتشاركون به مع المسيحيين ففي خطابه مع الشباب المغربي عام 1985م ذكر الشباب بالمشترك بين المسيحيين والمسلمين: الإنسانية وعبادة رب واحد وهو كذلك نبههم بالمصائب والتردي الأخلاقي الذي يهدد العالم الذي يعيش فيه الجميع وبعد أن سرد لهم مختصراً مرحلة المجلس الفاتيكاني الثاني ،أخبر الشباب أن حضوره كان نتاج تأثير روح القدس وبرهان عليها ،لذا فالكنيسة تجد أنه لزاماً عليها التعاون مع المؤمنين.. فالمسلمون والمسيحيون سيكون عليهم واجب الشهادة على الإيمانيات والأخلاقيات والقيم الروحية في هذا العالم الذي يتجه إلى العلمانية ،وأخيراً شجع المسيحيين ، على احترام المسلمين وتدينهم باعتبار الغنى المتعدد في دينهم مع الالتزام بايمانهم المسيحي غير أن البابا أنهى خطابه بالصلاة التي دعا فيها الرب بقوله:«رب العدالة والسلام أنعم علينا الفرح الحقيقي والحب الصحيح بالاخاء الأخير بين جميع الناس ،املأنا بنعمتك هذه للأبد».
وفي الوثيقة التي كتبها البابا بول الثاني عام1994م بعنوان: تجاوز عتبة الأمل خصص فصلاً بعنوان محمد؟«اسم النبي محمد«صلى الله عليه وسلم» متبوعاً بعلامة استفهام» مؤكداً عدم تقبل المسيحية للشطر الثاني من الركن الأول في الاسلام ،الايمان بنبوءة محمد«عليه الصلاة والسلام» ومع ذلك فالبابا قد أظهر في عدة مناسبات ووثائق احترامه لالتزام المسلمين بشعائر الاسلام كالصلوات اليومية الخمس ،والتزامهم الأخلاقي بالعلاقات الحميمة في الأسرة ،واهتمامهم بالصدقات ومعونة الغير ،إلا أنه انتقد عقيدة المسلمين فيما يتعلق بايمانهم بالرب وانكارهم للحلولية المسيحية«فليس هناك في عقيدة الاسلام ايمان بالصليب أو لبعث المسيح«كما يؤمن المسيحيون» وليس هناك تكفير عن الخطايا ،فالمسيح في الإسلام مجرد رسول.
بقي أن ننظر في الخطوات الموصى باتباعها للحوار بين المسلمين والنصارى التي أصدرها المجلس عام1969م وتمت مراجعتها وإعادة نشرها بين 19801984م ثم الخلوص إلى نتيجة حول الفعالية التأثيرية على الحوار المسيحي الإسلامي على الخصوص أنه من المهم هنا أن نذكر بملحوظة مبدئية للهدف الذي لأجله وضع هذا المنشور بتعبير الكاردينال آريتر«فهو لتزويد المسيحيين بالمعرفة الأساسية للمعتقدات الاسلامية والشعائر التعبدية لرفع كفايتهم الاستعدادية لمحاورة أفضل مع المسلمين» إلا أن الكاردينال نبه إلى أن هذه المحاورة لاتهدف إلى إنشاء شكل محدد لاستراتيجيته ،بل الاهتمام بالروح المعنوية التي يجب أن ترافقه فالمسألة هي الاهتمام بتحفيز المشاركين في مثل هذه الحوارات على التركيز على دورهم بأن يساعدوا المهتمين من الديانتين بأن يكونوا أناساً أفضل في إنشاء علاقات وأواصر طيبة مع الآخرين.
إلا أن النقطتين السلبيتين اللتين أخذتا على هذا المنشور لاتلبثان أن تظهرا للعيان ،ألا هما مايتعلق بالاعتراف الإسلام وتمييزه كدين صحيح إلهي ،وابداء مايتعلق بنبوة محمد«عليه الصلاة والسلام» فضلاً على الاعتراف بها «ترول» يشير إلى هذه الحيثية الأولية في الخطاب المسيحي مع المسلمين بقوله: «أن المسيحيين قد يقدرون المسلمين ويحترمونهم فقط إذا اعتبروا الاسلام ديناً قبل أي شيء آخر» و يجد أنه في النسخة المنقحة ما هذا المنشور لعام 1981م «أبقت المسيحية على اعتبار الاسلام ديناً له علائق بصورة ما مع التراث المسيحي اليهودي فالاسلام بمعتقداته الدينية يتمثل في ابراهيم عليه السلام انموذجاً للتسليم للرب في كل تطبيقاته إلا أن المجلس بهذا قد تجنب تماماً من تقديم أدنى تفصيل يوضح هذه العلائق».
ثم إنه لأول مرة في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية يأتي على ذكر محمد عليه الصلاة والسلام إلا أن هذا لايعني أن الكنيسة تقبلته كنبي صدق أوحي إليه كما أوحي إلى موسى عليه السلام كما يؤمن به المسلمون بل هي حثت المسيحيين على «الحكم بموضوعية على ايمانيات المسلمين واعتقاداتهم تنسجم مع ايمانهم المسيحي هذه الموضوعية ينبغي أن تسلك فيما يتعلق بالهام وايمانيات محمد من خلال الاطار التالي:
أولاً: استجابته الشخصية للأوامر الالهية ،ثانياً: وعلى نحو أوسع من خلال فعل العناية الالهية في تاريخ العالم فبورمانز يجد في هذه الخطوات المعلنة لكيفية الحوار فيما يتعلق بهذه الحيثية أن المؤلفين لهذا المنشور يشيرون إلى محمد عليه الصلاة والسلام بقولهم: «الأديب العظيم ،والعبقري الديني والسياسي» غير أن هؤلاء المؤلفين قد تركوا في سياق منشورهم هذا من العبارات ماقد يفترض«أن المسيحيين سيجدون أدلة أكيدة على أخطاء وانتقاصات هامة في تعاليمه» ومع ذلك فخطابهم التناقضي يشير إلى «أن الاعتقاد الذي يدعو إليه محمد عليه الصلاة والسلام منسجم مع رسالته في الحياة ،فمناداته بالعدالة الاجتماعية واحترام الكرامة الانسانية دعوة جهراء لايمكن اسكاتها» ثم أخيراً يعلن البطريرك تيموثي في بغداد تقديره للنبي محمد عليه الصلاة والسلام بقوله: «إن محمداً سلك طريق الانبياء ،وذلك لأنه تناغم بالتأكيد مع انموذجهم ،إلا أنه لم يتطابق تطابقاً كاملاً معهم في الاله الذي نبئوا عنه».
ثالثاً: التعاليم الرسمية لمجلس الكنائس العالمي فيما يتعلق بالعلاقة مع اتباع الأديان الأخرى على العموم ومع المسلمين على وجه الخصوص.
يبدو جلياً أن اهتمام«مجلس الكنائس العالمي» والذي تشكل في عام 1948من الكنيسة الاورثدوكسية ،والبروتستانتية ،والانجيليكانية قد أظهر فاعلية أكبر في توجهه العام إلى التحاور بين الاديان على مقابلة الكاثوليكي فحافزه إلى ذلك كان ماصدر عن مؤتمر الكنائس غير الكاثوليكية المسهمة في الحركة العالمية للتبشير في مؤتمرها في أدنبره في العام 1910 من الدعوة إلى هذا الحوار مع اتباع الاديان الأخرى ،وتشكيل «الحركة العالمية» هذه الدعوة عند بعض النقاد لم تكن في واقع الأمر ، إلا من التداعيات المسيحية لسقوط الاستعمار في الشرق ففكرة الحوار هذه التي دعا إليها المجلس العالمي للتبشير وسيلة جديدة لمهمته التبشيرية فالمرحلة قد شهدت قلة فعالية الوسائل التبشيرية التقليدية في تنصير اتباع الأديان الأخرى لذلك فإن دراسة فعاليات الحركة العالمية فيما يتعلق بالحوار مع اتباع الأديان الأخرى تبين البواعث الكامنة لسعي الكنائس الأخرى غير الكاثوليكية لمثل هذا الحوار.
نقطة البدء لهذه الأنشطة التحاورية كان في مؤتمر كاندي التداولي 1967م فللمرة الأولى يظهر واضحاً للعيان في تاريخ مجلس الكنائس العالمي بعض التغيرات في اتجاهات المسيحيين من غير الكاثوليك إلى اقامة علاقة مع اتباع الاديان الأخرى ،وهي كذلك في تصريحاتها فيما يخص غير المسيحيين تقاربت مع المجلس الفاتيكاني الثاني إلا أنه من المفيد التحدث عما كان عليه التصور المسيحي للحركة العالمية قبيل هذا المؤتمر للحوار ولعله من المفيد أيضاً في هذا السياق تلمس دور عالمي أديان معتبرين في الاوساط المسيحية ومدى تأثيرهما في تأسيس الخطاب المسيحي مع أتباع الأديان الأخرى.
وقد شكل التصريح الكنسي البروتستاني no salvation outside Christianity الذي صدر في القرن التاسع عشر قاعدة التعامل المسيحي مع الآخر حتى عام 1970م ويعد هذا التصريح مكافئاً لشعار الكنيسة الكاثوليكية في الفاتيكان xtra Ecclesiam nulla salus ونجد مثل هذه التصريحات التي تقصي الآخر في توصية المؤتمر العالمي للتبشير في شيكاغو عام 1960م والتي كانت كالتالي: «منذ أيام الحرب إلى الآن ذهبت أرواح مايزيد على البليون من الناس إلى الخلود نصف هؤلاء ذهبوا إلى بلاء الجحيم دون أن يستمعوا إلى المسيح ،أو يعرفوا من كان ولماذا هو قد مات على الصليب».
هذا التصريح كان تعزيزاً لنتائج اجتماع أعضاء ممثلين من الكنائس عدا الكاثوليكية عام 1910م لمناقشة ما آلت إليه الجهود التبشيرية وإن كان الباعث لهذه الجهود واللقاءات الحديثة التي تبعته البحث عن وسائل انجع للتبشير فالملاحظ أن هناك اختلافات واضحة في آراء المشاركين حول ماهية دين الآخر بما قد يدعو إليه من عناصر جيدة ولأن مجلس الكنائس العالمي كان يتساءل «ما الذي يحمل اتباع الاديان الأخرى في أديانهم بعيداً عن المسيح»؟ للاجابة عليه تم ارسال استبانات للقساوسة الذين يقومون بالمهمة التبشيرية في البلاد غير المسيحية إلا أن الكنيسة رغم شعورها بل وادراكها للتحدي في وسط تبرز فيه التعددية الدينية تراجعت عن الادلاء بتوصيات تهدف لخدمة فكرة الحوار مع الآخر ،بدلاً من ذلك هي أكدت على برنامج تبشيري لتنصير العالم.
التحاور المسيحي المسيحي حول العلاقة بالآخر استمر في مؤتمر لاحق في القدس عام 1928م ثم اتبع بآخر في Tambaram بالهند عام 1938م ، فالحوار مع الآخر ضمن الرؤية التبشيرية مازال مهيمناً على خطاب المجتمعين فخطاب «بارث» القاضي بأن: الوحي الإلهي لايوجد غير المسيحية» وخطاب «كريمر»: «هناك انفصال جذري بين الوحي المقدس والاديان البشرية ،بين المسيحية والاديان الأخرى» فالخطابان ينفيان الآخر نفياً عقدياً بالكلية وهو بذلك يدفع المسيحيين غير الكاثوليكيين بعيداً عن التعرف إلى الآخر بل إلى التأكيد على ايجاد مدخل تبشيري للمسيحية إلى اتباع الأديان الأخرى والذي نقل تداول فكرة الحوار المسيحي إلى المؤتمرات التبشيرية.
ولكن المسيحي لمجلس الكنائس العالمي«غير الكاثوليكية» بدأ يشهد تغيراً طفيفاً ،ففي العام 1954م عقد اجتماع المجلس في Evanston بولاية الينوي الامريكية ولمس المجتمعون آثار الحرب العالمية الثانية مما الدعوة إلى مشاركة المسيحية في بناء بلاد كثيرة في العالم الثالث فكانت هناك اشارة إلى الاديان غير المسيحية هنا كان لابد مرة أخرى من إعادة النظر في الحوار مع الآخر ثم كان مؤتمر Davos في عام 1955م يحمل عنوان: المسيحية والأديان غير المسيحية بعد عام واحد قامت اللجنة المركزية لمجلس الكنائس العالمي بالاعلان عن مشروع بحثي حول: كلمة الله والصور الحية للإيمان الناس ،والذي رافقه انشاء مراكز بحث مسيحية.
في الحالة الكاثوليكية بدا أن المفكرين من علماء الأديان كماسينيون وراهنر اثروا بصورة غير مباشرة في تغيير الرؤية الكنسية للآخر.. فكلاهما أثر بوضوح في مجلس تعاليم الكنيسة الرومانية الكاثوليكية للوصول إلى تفسير ايجابي أرحب للقاعدة الكاثوليكية» لاخلاص خارج الكنسية» مما أعاد تشكيل رؤية كاثوليكية قد تكون أكثر ايجابية للأديان الأخرى في حالة مجلس الكنائس العالمي برز العالمان الدينيان كارل بارث السويسري وهندرك كريمر الالماني.
ارتبط تقييم «بارث» للاديان الأخرى برؤيته المحورية للسيد المسيح عليه السلام «كفعل مطلق ومهيمن للعناية الإلهية بكل البشرية ،فالإله قد أوحي من خلال المسيح عليه السلام الحقيقة عن نفسه في صورة متفردة ونهائية فالمسيح عليه السلام في رؤية «بارث» يقدم بوحيه الرب كإله انتقل ليكون خادماً.
هذا بدوره يشكل باعثاً للبشر ليجادلوا لأجل الحق والخير ليصبحوا بدورهم آلهة ،وبناء على تصور«بارث» فإن على البشر أن يؤمنوا بهذا الفضل الالهي ،لأنه بهذه الفضل يكون باب النعمة لهم مشرعاً ضمن هذه الرؤية يجد بارث أن المسيح عليه السلام هو الوحي الأوحد وأن كل الاديان فيها المسيحية تشكل شراً لأنها استجابات بشرية للرب لذلك فالوحي القادم بالمسيح عليه السلام فقط هو«المطهر للدين» إلا أن بارث يقرر لاحقاً أن المسيحية هي الديانة الصحيحة والمتقبلة لأنها المرتبطة بالمسيح عليه السلام وهي كذلك التي يتمكن بها «الخلاص» وذلك لأن كل الأديان الأخرى والتي لايعنينا بحال مايظهر بها من خيرية وصحة فهي مزيفة وبلافائدة ،لأنها لاتقدم«خلاصاً» ولاتشهد للمسيح في كتاباته اللاحقة خاصة «عقائد الكنيسة» لم يغير«باث» آراءه فيما يتعلق بالأديان الأخرى ،وإن كان قد صرح أن هناك بعض النور فيها إلا أن هذا النور لايكون كذلك إلا إذا تناغم مع مافي المسيحية خاصة فيما يرتبط بالمسيح عليه السلام .
وقد تأثر«كريمر» بكتابات سلفه السويسري «بارث» إلا أن خصوصية التأثير على مجلس الكنائس كانت في حالة«كريمر» أكبر لشغله ادارة المعهد العالمي للمجلس ولم يجعل «كريمر» المسيح مركز رؤية الآخر واستبعاده مثلما «باث» وإنما عزا للكنيسة التفرد والفعالية في الخطة الالهية للخلاص وهو كذلك يتبنى رؤية«بارث» لموقع المسيح في الدين المسيحي ،فالأديان الأخرى غير المسيحية لاتخرج عن كونها محاولات بشرية مبررة من ذواتهم ،فهي بهذا خطأ وخطيئة وموت إذا ماقورنت بالوحي الأوحد في المسيح عليه السلام.. وهو مع ذلك لاينادي مثل «بارث» بارغام اتباع الأديان الأخرى على الدخول في المسيحية بل هو يحث المسيحيين على بذل جهود مناسبة للتعرف إليهم وإلى اديانهم التي تزامنت في وجودها مع المسيحية في مملكة الرب ويبني «كريمر» يبني على هذا المنطق الديني الموقف الأكبر والأكثر حظاً الذي ينبغي أن تتبناه الكنائس المسيحية حيث تتبلور مسئوليتها في التبشير في كافة أرجاء العالم المعاصر.
المسيحية والأديان الأخرى في رؤية مجلس الكنائس العالمي
أصبح المشروع البحثي: «كلمة الله والصور الحية من الايمان عند الناس» الذي وضعه المجلس على جدول أعماله بعد مؤتمر Davos من الموضوعات الرئيسية على بساط المناقشة في قسمي الدراسات التبشيرية والدراسات التنصيرية في الستينيات ثم تبع ذلك في عام 1961م م مؤتمر New Delhi الذي طرحت فيه فكرة الحوار مع الآخر في تاريخ المجلس العالمي للكنائس بوصفها الوسيلة التنصيرية الأكثر فاعلية فعبر الحوار يتمكن الانسان من معرفة الفرد المحاور ومن ثم فهمه مما يمكن المبشر من الشهادة على محاوره وتبليغ الانجيل إليه في سياق علائقي مقنع هذا الطرح تم تأكيده في التقرير الذي صاغه المشاركون في اجتماعهم في المكسيك في عام 1963م وأعلن فيه «أن المحاور المسيحي يجب عليه في محاورته لاتباع الاديان الأخرى التبشير بالانجيل وأن يستحضر نيته في زحزحة الآخر ليستمع إلى ماأوحي الرب المسيح عليه السلام ويستجيب له».
وقد شكل الاجتماع الذي عقده ممثلون عن المسلمين والمسيحيين من طوائفهم المختلفة في لبنان عام 1966م للتشاور حول المعتقد والنظام ،حدثاً مهماً يشير إلى تطور الحوار المسيحي الاسلامي لمناقشة سبل التعاون المشترك في المحصلة النهائية اتفق المجتمعون على نبذ الاحكام المسبقة ،والخلافات ،والتشكيك وخوف كل طرف من الآخر إلا أنهم اختلفوا في قبول أسس دينيه أرضية للتحاور فالتحاور يجب أن يبقى بين المتقابلين مسلم بإسلامه ،ومسيحي بمسيحيته.
كذلك برز خلاف مسيحي مسيحي حول فكرة الحوار في مؤتمر المجلس التشاوري في مدينة كاندي في سري لانكا باشتراك الطوائف المسيحية جميعاً بما فيها الكاثوليكية ،فيما يتعلق بالعلاقة مع غير المسيحيين حيث اعتبر بعض المشاركين أن الحوار يجب أن يكون وجهاً آخر للتنصير وبعضهم يرى في الحوار تعطيلاً له كذلك وجدنا في هذا المؤتمر من ينادي بفكرة الاقصائية الدينية والتي تعني اقصاء الآخر بصورة نهائية ورغم هذه الحالة الاختلافية للمجتمعين فالمؤتمر قد قدم صيغة وخطوة نحو الحوار مع الآخر ،وإن لم تعمد بموقف رسمي لمجلس الكنائس.. فالتصريحات التي صدرت في تقرير هذا المؤتمر تشبه إلى حد كبير تلك التي صدرت عن الكنيسة الكاثوليكية التي فتحت كوة لامكانية محتملة «لخلاص» الآخر غير المسيحي فالخلاص للبشرية لايخرج عن المسيحية إلا أنه يتخطى للآخر بفعل روح القدس فليس في هذا حديث عن وجود قيمة فيما يحمله دين الآخر غير المسيحي ،بل عن احتمال «تلمس المسيحي المحاور لوميض من فعل روح القدس أثناء التحاور تظهر مشيئة الرب وعنايته».
يبقى التساؤل عن العلاقة بين التبشير والحوار سؤالاً ملحاً للمسيحيين وغيرهم في هذا السياق العلائقي والذي يجيب عنه التقرير بقوله:«أن الحوار وسيلة ايجابية لتحصيل فهم أعمق للحقيقة من خلال الادراك المتبادل لاعتقادات الآخر وايمانياته إلا أنه هناك توقعاً في حدوث شيء جديد وفتح محور جديد لم يكن الفرد يتصوره مسبقاً فالحوار يتضمن استعداداً للتغيير في الفرد كما يتضمن تأثيراً على الآخر.
وقد أكد تقرير المؤتمر المشار إليه أنه«لايكون الحوار والتبشير منفصلين بل يتعلقان ببعضهما ،ففي أي لحظة أو مكان في أثناء العملية التحاورية هناك متسع زمني للدعوة إلى البشارة.. فالمسيحيون يعتقدون أن هذا الفعل التبشيري هو مشاركة للنبوءات الخيرة عن الرب ،فيما يتعلق بمشيئته في التاريخ في شخص عيسى المسيح فالتبشير يكون دوماً جنباً إلى جنب مع الحوار إلا أن التبشير يجب أن يتم دائماً تحاوريه وبروح من يريد المشاركة في الخير الرباني.. فهذه العبارات التي في التقرير قد تتمكن من طمأنة المحافظين القلقين الذين أبدوا مخاوفهم على اضمحلال العملية التبشيرية لصالح الحوار ، غير أنها ترفع بوضوح درجة التشكك والتخوف عند المقابل غير المسيحي الذي لن يستطيع أن يرى في أي بادرة حوار مقترحة إلا وجهاً آخر للتبشير في عالمه.
في العام 1968م عقد مجلس الكنائس اجتماعه العام الرابع في السويد بعد عام واحد فقط من مؤتمر سري لانكا وقد نوقش موضوع الحوار بين الأديان تحت عنوان «تجديد المهمة» بمعنى أنه لم يفصل ابتداء وبعنوان أولي عن التبشير إلا أن المجتمعين حالوا أن يجعلوا موضوع الحوار بين الاديان جزءاً من التوجه الديني العام لمجلس الكنائس ففي التقرير الختامي لهم جاءت فقرة موجزة: إن الحوار أمر حتمي يجب أن يكون «الانسان المشترك» بين المتحاورين ولعل المثير للاهتمام في هذا التقرير خلوه من الاشارة لمسألة «الخلاص» من قريب أو بعيد فهو قد اهتم بالتأكيد على أن هناك استحضاراً متبادلاً للشهادة الدينية للمتحاورين ،وبهذا لايكون التبشير متمايزاً عن الحوار بل متداخلاً معه بما تتضمنه الشهادة العامة للكنيسة.
ثم عقد مؤتمر آخر متعدد الاديان عقد في عام 1970م في لبنان اجتمع فيه مسلمون ومسيحيون من كافة الطوائف ،وهندوسيون وبوذيون وكان الهدف ممارسة الحوار التعددي بين المسيحية والآخر ومناقشة المشكلات والنجاحات الممكنة في هذا الحوار.
في البيان الختامي اتفق المجتمعون على أن التزام المحاور بدينه الذي يعتنقه لاينبغي أن يقف عقبة دون الحوار مع الآخر بل هو في حقيقة الأمر يقدم ويحث على اتخاذ الحوار قوة دافعة وسبيلاً للبحث عن إجراءات مشتركة بين أتباع الأديان على اختلاف معتقداتهم الإيمانية ،للعمل معاً في كافة الأوقات والأماكن التي يجدون أنفسهم فيها.
تبع هذا اجتماع لعلماء الاديان المسيحيين من الطوائف المختلفة في زيورخ لتقييم مؤتمر لبنان السالف الذكر وللاجابة على التساؤل المطروح حول عنصر رئىسي للأسس اللاهوتية المقترحة على المجلس العالمي للكنائس لهذا الحوار المتعدد وقد اشتمل التقرير الختامي لمؤتمر زيورخ على نقاط هامة فيما يتعلق بالسياق الحواري بين المسيحية واتباع الاديان الأخرى والذي يمكن أن يلخص بما يأتي:
1 الحوار بين اتباع الاديان الأخرى حتمي بسبب التعددية التي تسود في العالم.
2 وهو كذلك مطلب ملح وعام وضاغط لاقامة سلام عالمي ،وعدالة اجتماعية ومستقبل أفضل.
3 انشاء حوار حقيقي يتطلب بالضرورة انفتاحاً أصيلاً وشهادة متبادلة ومتساوية للدين الذي يعتنقه كل من المتحاورين من اتباع الاديان المختلفة.
4 المحاورة تحتمل خطر التحول الديني بمعنى أن كل مشارك في العملية الحوارية ينبغي أن يتوافر له استعداد للتأثر بالآخر أوحتى التغيير.
5 إن التحاور يشكل بوضوح جزءاً من التبشير وعليه فإن على المسيحيين تبني الحوار ضمن سياق الرسالة الربانية.
والناظر في هذه المبادئ للحوار يلاحظ أنها فتحت باب حوار مقبول في نقاطها الثلاث الأولى، إلا أنها تحولت بعد ذلك لطمأنة المحافظين المتشددين على عدم المساس بالعملية التبشيرية في الجانب المسيحي، وتعميق الحالة التشككية للمحاور غير المسيحي.
فدور المحاور المسيحي هو البحث عن أثر فعل المسيح في المقابل غير المسيحي في محاورته.
وبهذا فالمؤتمر قدم أساساً مسيحياً تنصيرياً للحوار المسيحي مع أتباع الأديان الأخرى لا يمكن بحال أن يعارض من المسيحيين على العموم والخصوص.
وقد لاحظ عالم الأديان الهندي «سمارثا» وهو الرجل الأول في قسم الدراسات التبشيرية والإنجيلية الذي أنشأه مجلس الكنائس العالمي بعد مؤتمر Kandy أن الموضوع الأساسي للحوار حسب هذه المبادئ «لم يعد كيف تحل المسيحية محل الأديان الأخرى، كما كان عليه الحال في المؤتمرات التبشيرية العالمية وإنما كيف نتمكن من الوصول إلى علاقة ما بين المسيحية المعاصرة التي يعتنقها المسيحيون وغير المسيحية من الأديان الأخرى التي يعتنقها الآخرون في عالم التعددية الحديث»؟ وقد قدم «سمارثا» خطة لمزيد من أنشطة الحوار أرسلها إلى مراكز الدراسات الدينية، تدور حول المحاور الأساسية الآتية:
1 التركيز على تقييم اللقاءات الحوارية مع أتباع الأديان الأخرى من الوجهة الدينية المسيحية حتى السبعينيات.
2 أهمية التركيز على دراسة موضوع الخلاص في العصر الحالي في تراث الأديان المختلفة.
3 التفكير بالأديان الأخرى والكيفية التي يفهم أتباعها العلاقات الإنسانية في سياقيها الطبيعي والتاريخي في عالم تتبدل فيه المفاهيم.
كما كان ل«سمارثا» حضوراً فعالاً آخر في اجتماع أديس أبابا في عام 1971م والذي شكل نقطة تحول في الحوار المسيحي، فموضوع الحوار مع الآخر لم يتم تجاوزه بل كان موضوعاً رسمياً ورئيسياً مدرجاً في أعمال المؤتمر.. فقد قدم «سمارثا» ورقة بعنوان: «الحوار بوصفة شأناً مسيحياً مستمراً» كما قدم جورج خودر ورقة بعنوان: «العالم واقتصاديات الروح القدس».. وقد قوبلت الورقتان بالنقد من المسيحيين المحافظين لأنهما شكلتا في الرؤية المحافظة «تحدياً للفهم المتوارث لفرادة وخلودية الرسالة المسيحية والمسيح».
إلا أن النتائج والتوصيات التي خرج بها المؤتمر كانت تصب لصالح الحوار، فقد تم التوصية بإعداد «وثيقة مبدئية حول سياسات وإرشادات للحوار» وهو كتيب تبرز فيه الخطوط الرئيسية للحوار واستراتيجياته المعتمدة، بصورة تكون هادية للقاءات الحوارية القادمة.
كما تم تشكيل وحدة فرعية للحوار مع الناس من أديان حية وإيديولوجيات أخرى..
وأوكلت لهذه الوحدة مهمة تنظيم لقاءات تحاورية مع أتباع الأديان الأخرى، والتأمل والتفكر في المعاني والآثار الدينية التي يتركها هذا الحوار على المسيحيين المشاركين فيه.
وقد ظهرت إنجازات هذه الوحدة في تتابع لقاءات الحوار مع أتباع الأديان الأخرى خاصة المسلمين.. فقد عقد في لبنان 1972م مؤتمر بين المسلمين والمسيحيين تحت عنوان: «المطلب لتفاهم وتعاون إنساني، اسهام المسيحيين والمسلمين» حمل نقاطاً لها أهميتها للمسلمين والمسيحيين معاً.. وأكد أن الأصل في الحوار الحقيقي أن يبرز مساحات الالتقاء بين معتقدات المتحاورين، كما أنه من المتوقع ايضاً أن يبرز نقاط الافتراق.. لذا فأنه من أساسيات هذا الحوار أن يمارس كلا المتحاورين الحرية الكاملة في إظهار التزامه بمعتقداته الدينية وشهادته لها، فالحوار ليس لإخفاء نقاط الافتراق أو تجاهلها أو حتى تجاوزها، وإنما لاكتشاف هذه الاختلافات الاعتقادية بوضوح وبعين النقد الذاتي.
وكان اللقاء الرئيسي التالي كان في كولومبو في سري لانكا عام 1974م، والهندوسية، والبوذية، لتدارس فكرة «نحو مجتمع عالمي» المصادر والمسؤوليات للتعايش معاً.
وخلص المجتمعون إلى أن هناك إمكانية لتأسيس مجتمع إنساني متعدد الأديان يكون قادراً على التعايش والانسجام، وهذا لا يفرض محددات على أتباع الأديان على اختلافها في ادعاء تفرد معتقداتهم الدينية أو تفوقها أو حتى نهائيتها، لأن الآخر يملك الحق في أن يدعي ادعاءات مشتابهة أو متساوية، كل في حدود مجتمعه الديني، دون الإساءة للآخر أو تحدي ادعاءاته، بما يضمن مزيداً من التآلف بين أفراد مجتمع أوسع متجاوز للمصالح المتنازعة.. فالمؤتمرون إذن تجاوزو الأسئلة والأسس الدينية إلى المنحى العلمي والأهداف التي غدت مشتركة على المستوى الإنساني.
من المثير حقاً في هذه المرحلة التي تجلت فيها خطوات حثيثة نحو التفاهم على آلية حوار بين المسيحيين وأتباع الأديان والأخرى، أن يعقد مؤتمر في لوزان بسويسرا عام 1974م يؤكد أن لا حوار مع الآخر، والدعوة إلى الاعتصام بالميراث الاقتصادي والاقصائي في آن واحد.
غير أن الأنشطة الحوارية تواصلت، فعقد في بيروبي/كينيا عام 1975م اجتماع حمل عنوان: البحث عن المجتمع: البحث المشترك للناس من أديان وثقافات وإيديولوجيات مختلفة. هذا الاجتماع كان الأول انعقاداً على المستوى العام لمجلس الكنائس العالمي الذي اجتمع فيه ممثلون لأتباع خمسة أديان رئيسية: مسيحيون، ومسلمون، ويهود، وهندوس، وبوذيون، مع ممثلين من السيخ بصفة مراقبين وقد كان مما أثار حفيظة المسيحيين استئذان ممثل السيخ الدكتور/جوبال سنف للحديث ليشكر السلطة المسيحية الدينية الراعية لهذا الاجتماع، ومع ذلك فإنه لم ينل الإذن لأنه ليس من المقبول لغير مسيحي أن يوجه خطاباً لاجتماع مسيحي على هذا المستوى!
ورغم ذلك فالاجتماع لم يدل بإجابة للمطلب الذي لأجله تمت دعوة المجتمعين.
بل كانت الجهود موجهة لإبراز التوظيف الديني المتأتى من الدخول في الحوار مع الآخر للمسيحية.. وبدا أن المحافظين من التنصيريين مازالوا على الرفض للفكرة التي حملها بعض المسيحيين من أن الخلاص يتأتى لغير المسيحيين من عمل المسيح، الحاضر والخفي في آن واحد في الموروث الديني للآخر، فالمحافظون يرفضون هذه الفكرة جملة وتفصيلاً لأنهم لا يجدون خلاصاً إلا في الكنيسة، إلى جانب ذلك فهم يجدون في الحوار الديني تهديداً للأنشطة التبشيرية وإعاقة لها.. فالانقسام بين القساوسة الأوربيين والآسيويين قائم على رفض الأوروبيين لما يطلقون عليه «التوفيقية، syncretidm» وهي إشكالية التوفيق بين المعتقدات الدينية المتباينة، في حين يجد الآسيويون في الحوار مع الآخر ضرورة دينية لتشمل محبة المسيح جميع الأفراد ليكونوا أتباعه لاحقاً ومع ذلك جاءت التوصية الختامية بإعلان أن «التزامهم جميعاً بالمسيح يكون بالدعوة إلى اتباعه في كل مكان في العالم، وإلى تعميد أتباعه الجدد.. فالحوار يكون بالاستماع للآخر وفهم معتقداته، وهو كذلك الشهادة على إنجيل المسيح».
تتابعت الاجتماعات الحوارية ففي Chambesy في عام 1976م مثلاً كانت الدفة تميل عن الايجابية إلى سلبية مهددة عندما أبدى المسلمون امتعاضهم من الإرساليات المسيحية التبشيرية التي حاولت تحويل المسلمين عن دينهم في بعض البلاد الإسلامية، هذا الامتعاض قوبل باستياء مسيحي من المضايقات التي يتعرض لها المبشرون من المسلمين المسلمون ايضاً تذمروا من الإساءات المسيحية والعراقيل التي توضع أمام الدعوة الإسلامية.. في الختام تم إنشاء مجموعة من علماء مجلس الكنائس وعلماء الدين الإسلامي لتقييم الاجتماعات السابقة بين أتباع الديانتين ولتحديد برنامج للعمل المستقبلي معاً في مواجهة خطر العلمانية.. تم كذلك التأكيد على الاهتمام بإقامة حوار عادل لا يهدف إلى فرض تقارب بين المعتقدات الدينية، كما أنه لا يهدف إلى عقد مقارنة ما أو انتقاص للآخر.
في اجتماع Chang Mai التشاوري والذي عقد في عام 1977م كان تجاوز اقتراح مؤتمر كولومبو الذي نادى بworld sommunity إلى Worldwide community خطوة واسعة نحو الاعتراف بالتعددية الثقافية التي يسهم فيها تعدد الأديان، فالمؤتمر قد أكد أن «ادعاء الفوقية لثقافة معينة أو لدين معين يشكل تحدياً للخلق وللمقاصد الربانية بصورة كلية» ودعا المؤتمر المسيحيين للتعاون مع الآخرين من أجل السلام والعدل والحرية.
تبع ذلك اجتماع للجنة المركزية لمجلس الكنائس في جامايكا عام 1979م للإعلان عن دليل للحوار:«دليل إرشادي للحوار بين الناس من أديان وإيديولوجيات مختلفة».
وقد أكد الدليل على التساوي الحقوقي للمتحاورين، وضرورة الاستماع للآخر وفهمه واحترامه والثقة به، وحرية كل فرد في التعبير عن معتقداته الدينية بمصطلحاته الخاصة والحرص على الأهداف الإنسانية العامة التي تجمع المتحاورين.
مثال ذلك كان عقد لقاء مهم في كولومبو، سري لانكا عام 1982م، جمع بين ممثلين من مؤتمر العالم الإسلامي، ومجلس الكنائس العالمي، لمناقشة الجوانب الأخلاقية والعملية لمشاريع الإغاثة والتطوير في العالم الثالث، وذلك ما حدث من استغلال التنصير لبعض المشاريع الإغاثية، ثم ختم هذا المؤتمر العالمي بتوصيات تتعلق بالتعاون المسيحي الإسلامي والمهاجرين والأقليات.
مرة أخرى رجع السؤال عن الخلاص وعن الفعل الخفي للمسيح في موروث الأديان الأخرى إلى مناقشات الاجتماعات الكنسية في المجلس فانكوفر/كندا في عام 1983م، والذي جوبه بالاعتراض لأن فيه تحريفاً للرسالة المسيحية.
ثم جاء اجتماع الولايات المتحدة والذي ضم التبشيرية العالمية في سان أنتونيو عام 1989م، ليكون الحوار موضوعاً رئيساً لمثل هذا المؤتمر.. وقد تساءل المجتمعون «كيف للمسيحيين أن يدعوا الآخرين للمسيحية وينصروا العالم؟» تبع ذلك اجتماع في النمسا عام 1990م ومؤتمر في استراليا عام 1991م، حول التعددية الدينية.. وكان السؤال عن دور المسيحية ومكانها في عالم التعددية الدينية الذي تؤرقه حالة العولمة.
ثم في عام 1991م غير مجلس الكنائس العالمي تركيبته الداخلية.. ومن اللافت للنظر إسقاط مصطلح «الحوار» من تشكيلته النهائية فلم يعد هناك وجود للوحدة المعنية بشؤون الحوار فهي قد استبدل بها مكتب علاقات للأديان الأخرى دون أن يحظى بمهمات متعلقة بالحوار أو التبشير أو التعدد الديني، بل هي أسندت لوحدة «التبشير والتعليم والشهادة».
بعد ذلك وجدنا مجلس الكنائس العالمي يصدر وثيقة «قضايا العلاقات الإسلامية المسيحية» عام 1992م، وهي وثيقة موجزة أبرزت أهمية الفهم المتبادل للآخر بعيداً عن الأحكام المسبقة والتشككية في المبادرات الحوارية، كالزعم أن المبادرة الحوارية ليست إلا امبريالية جديدة أو استعماراً ثقافياً جديداً، وركزت على تحديد النقاط الأساسية المشتركة بين الإسلام والمسيحية لإبداء تقارب عام بين الديانتين، وبينت أهمية التعاون لتحقيق أهداف إنسانية عامة وملحة مثل السلام والعدالة.. ومن جهة اخرى أبرزت الوثيقة النقاط الخلافية الجوهرية بين الديانتين مثل قضايا تجسد المسيح، والتثليت، والصلب، وبعث المسيح. إلى جانب إشكالية الفهم المسيحي في الاعتراف بالقرآن وحياً مقدساً بعد الإنجيل، وأخيراً دعت الوثيقة المسيحيين والمسلمين للعمل على الحوار معاً لمناقشة موضوعات إنسانية ملحة في وقتنا الحاضر مثل حقوق الإنسان، والمواطنة، والعرقية، وتطبيق الشريعة الإسلامية، والدين والسياسة، والزواج بين أتباع الأديان المختلفة، ومكانة المرأة، وأخيراً طبيعة المهمة التبشيرية والدعوة الإسلامية.
لاحظ محمود إيدن من مراجعته محتويات هذه الوثيقة أن الاهتمام فيه انصب على الأبعاد الإنسانية والاجتماعية من الحوار المسيحي الإسلامي، تحت تأثير الزعم بأن مناقشة القضايا الاعتقادية «الثيولوجية» مثل طبيعة الاعتقاد بالله، وفهم الوحي يمكن أن يقود إلى صدام وليس إلى حوار، ولكن المؤلف يرى أن المنهج سيكون مفيداً في المرحلة الأولى من الحوار فقط، حيث يلزم بناء مناخ إيجابي. أما فيما بعد بناء هذا المناخ فإن من الضروري إثارة الأسئلة العقائدية.
وأخيراً يبين «إيدان» أن مجلس الكنائس العالمي كان مختلفاً عن توجهات الكنيسة الكاثوليكية في نشاطات الحوار مع الأديان الأخرى، وذلك في محاولاته بناء مجتمع إنساني يتكون من أناس ذوي معتقدات دينية مختلفة، وليس تبادلاً للأفكار حول معنى الحياة والحقيقة المطلقة والخلاص فالحوار كان حول مسائل علمية وليس لاهوتيا. ومع ذلك فإن المؤلف يلاحظ أيضاً أن التصريحات الحديثة من شخصيات مجلس الكنائس العالمي تشير إلى أنهم معنيون بقيام حوار ثيولوجي مناسب مع الأديان الأخرى.
الخاتمة
في قراءتنا لمفاهيم المسيحية الغربية الحديثة عن المسلمين فيما بعد مرحلة المجلس الفاتيكاني الثاني رافقنا إيدن في تحليله للوثائق الرسمية في البلاط المسيحي الرسمي فيما يتعلق بالعلاقة مع الآخر فالمسيحية الغربية الحديثة وجدت في إنشاء المبادرة الحوارية مع الآخر الديني مخرجاً من مأزق العولمة في عصرنا الحديث.. هذا الحوار كان متأملاً لها.
أن ينشىء وحدة دينية ترفع الإنسان عالياً في عالم الروح الإيماني بعيداً عن لوثة الاضطهاد والفقر والاستغلالي المادي.
ولما كان الموروث من الحقبات التاريخية القديمة للمسيحية المتمثل في القاعدة الدينية الإقصائية الاقتصارية معاً : لا خلاص خارج الكنيسة عائقاً دينياً لاهوتيا اساسياً، فقد لجأ اللاهوتيون المسيحيون الغربيون إلى تأويل هذا النص الاستبعادي لابقائه تاريخياً وذاتياً غير فاعل في اتجاه الآخر.
وفي هذا السياق وبعده وجدنا رؤية بعض علماء اللاهوت مثل «ماسينيون» تحدث بعض التأثير في زحزحة الخطاب الديني المسيحي نحو البحث عن أصول وحدة دينية مع الآخر، استناداً إلى التراث الإبراهي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.