(سيدة الأمنيات سبقتها الأحلام.. وتلتها صدمة الاكتشاف فهل يكون هذا هو ثمناً لتحقيقها.. ربما). أوفى والدي بوعده واصطحبني مع شقيقي الأكبر لقضاء الإجازة الصيفية على شاطئ الساحل الذهبي في مدينة عدن مكافأة لنجاحي بتفوق في المرحلة الابتدائية فهو يعرف حبي اللامعقول للبحر وشوقي لرؤيته خاصة بعد أن غزت رسوماته التي أتقنها حوائط حجرتي وقضت على أي أمل للطلاء في الظهور أو التباهي بجمال لونه الذي بذل والدي جهداً في اختياره ليكون أقرب ما يكون لزرقة البحر حسب رغبتي، لكن دون فائدة. وجدها أيضاً فرصة مناسبة ليرد لأخيه جزءاً من زيارته المتكررة لنا محملاً بهدايا كثيرة.. اشتم فيها رائحة فريدة لا تشبه أي شيء مر في حياتي، هارباً من طقس مدينته الخانق في الصيف مستمتعاً باعتدال الطقس وبالجبال العارية التي تربض على قممها، مدينتي المتناثرة بيوتها كأوراق خريف بعثرتها الريح في كل الاتجاهات. بدت لي الطريق طويلةً …مملةً .. رغم قصر المسافة، وتمنيت لو كان لوالدي سيارة، بالتأكيد كانت ستكون أسرع من هذا الباص الذي يعج بالركاب ويبدد صمته صراخ الأطفال حيناً وأحاديث متفرقة ترتفع حدتها وتهبط كالجبال التي نعبرها حيناً آخر، لكن تواضع راتبه جعله يوفر الضروريات لعائلته مكتفياً بدفء الحب وطمأنينة البال كوسيلة نافعة جداً للتعامل مع الحياة ومعنا. حال وصولنا كان الليل قد بدأ يسدل ستارته على المدينة، قضيت الليلة انتظاراً ملتهباً حاولت إطفاءه بأحلام يقظة رفرفت فوق رأسي الصغير حتى بدأت خيوط الضوء في الانتشار لأعلن معها الثورة على النائمين في المنزل دون استثناء، استعداداً للذهاب لشاطئ البحر. حدثت نفسي طويلاً وأنا أقف أمام البحر للمرة الأولى، كان للقائه رهبة العظماء الممتزجة بود متبادل وارتعاشات نشوة حلقت بي في فضاء الخيالات التي عشعشت في رأسي طويلاً وهاهي تتحول حقيقة ساطعة أمامي، حقيقة تختزن كل ما تستطيع لأيام حرمان منه قادمة لا محاك. تجذرت قدماي في الرمال وأنا أرقبه، توغلت شراييني حباته الناعمة، غمرني ولأول مرة دفء مدهش دغدغ أطرافي بشغف بدأت استنشق نسماته فتقافز زفيري أمامي متباهياً بألوان قوس قزح الساحرة، وأمام ندائه العذب لما استطع إلا أن أطيع، تقدمت يجرفني شوق السنين التي مضت، عانقت أمواجه فتبدل صقيع قلبي دفئاً، أعادني لصدر أمي الحنون الذي غاب عني منذ عام، ليلبي نداء من نوع آخر، فهل يذيب ثلوج وحدتي المتراكمة ويهبني صداقته لألقي في جوفه أسراري، وأهمس لأمواجه المتعانقة بخبايا أفكاري، وهمهمات ذاتي الحائرة التي فشل أبي بقلبه الحنون عن فهمها أو حتى أخي الذي طغى خوفه الشديد عليّ.. على الهروب من إجابة أسئلة كثيرة أرددها بصوت عال كلما فاجأتني تغيرات جسدي أو داهمتني ارتعاشات ليلي. عدت للرمال ثانية.. ألاحق ذراتها الهاربة من بين ثنايا أصابعي، ارقب ما حولي بصمت.. الشاطئ على امتداده يعج بالناس.. شباباً وشيوخاً.. أطفالاً ونساءً.. لكل منهم طريقته الخاصة في التعامل مع البحر مع أمواجه الهادئة حيناً والغاضبة حيناً آخر.. مع رماله التي تحتضن أحلامهم وتشكلها فتمنحهم متعة تحقيقها ولو للحظات، مع صخوره التي تترنح على سطحها أقدام عارية منتشية بحرارتها فتمدها بقوة أعماقها التي تواجه أعتى الأمواج. الشمس تعلن انسحابها.. هكذا تغادرنا اللحظات السعيدة قبل أن ننعم بها، تداهمنا بنهاية موجعة ونحن نتجول في ثناياها، الشمس تعلن انسحابها بهدوء، وقبل أن تمنح البحر دفء المساء ونشوة همساته، وقفت مودعة.. أدرت له ظهري.. هاجت أمواجه، تلاحقت، تلاطمت، أطلقت دوياً صم أذني وأعاد لمخيلتي كوابيس مرة كانت تنهش أحلامي وتبتلع نومي لساعات قبل أن تلفظه لأجفاني مرة أخرى. الجميع يستعد للرحيل ربما مثلي يخيفهم ليل البحر وربما لكل منهم حكاية يرغب في إنهائها بالوداع أو بمد جسورها إلى الغد الذي أحاول استقدام تفاصيله في مخيلتي لأطرد خوفاً اعتلى سمائي وأقلق سحبي فجأة دون إنذار.. جاهدت أفكاري كي لا أعيد النظر إليه ثانية لأحتفظ بروعة ما كان.. ممتنة له بالسعادة التي وهبنيها دون مقابل، وامتزجت أصوات الأمواج الهائجة مع أصوات غريبة قادمة من كل صوب.. ترصد عيناي كل ما يحدث أمامها محاولة ربط ما يدور ببعضه.. تزايد الصراخ غير الواضح وتدافع الناس من كل جانب ،حرضني فضولي بشدة لمعرفة ما يجري.. تسارع نبضات قلبي، وجفاف فمي جعلاني أصارع تفسيراً اعتراني منذ لحظات رافضة تصديقه.. وبلا شعور وجدتني أهرول باتجاه البؤرة التي تجمهرت حولها جميع الأصوات رافضة الإنصات لنداء يتردد بقوة من خلفي طالباً مني التوقف، لكني لم أفعل، جسدي يتقدم دون خيار.. أزاح كل ما يعيقه، وانتصب مذهولاً..! ثمة جسد لفظه البحر، ثم جسد ملقى، بلا حراك.. وجه آخر.. سيدة الأمنيات التي سبقتها الأحلام.. تلتها صدمة الاكتشاف.. هل أدت ثمن تحقيقها..!؟