قيادي حوثي يذبح زوجته بعد رفضها السماح لأطفاله بالذهاب للمراكز الصيفية في الجوف    الكشف عن شرط حوثي صادم مقابل السماح بنقل البنوك إلى عدن    استشهاد وإصابة أكثر من 100 فلسطيني بمجازر جديدة للاحتلال وسط غزة    انهيار كارثي للريال اليمني.. والعملات الأجنبية تكسر كل الحواجز وتصل إلى مستوى قياسي    ماذا يجري في الجامعات الأمريكية؟    صحفي سعودي: الأوضاع في اليمن لن تكون كما كانت قبل هذا الحدث الأول من نوعه    هذا ما يحدث بصنعاء وتتكتم جماعة الحوثي الكشف عنه !    تعليق على مقال زميلي "سعيد القروة" عن أحلاف قبائل شبوة    البخيتي يتبرّع بعشرة ألف دولار لسداد أموال المساهمين في شركة الزناني (توثيق)    النخب اليمنية و"أشرف"... (قصة حقيقية)    لماذا نقرأ سورة الإخلاص والكافرون في الفجر؟.. أسرار عظيمة يغفل عنها كثيرون    فشل العليمي في الجنوب يجعل ذهابه إلى مأرب الأنسب لتواجده    اعتراف رسمي وتعويضات قد تصل للملايين.. وفيات و اصابة بالجلطات و أمراض خطيرة بعد لقاح كورونا !    مدرب بايرن ميونيخ: جاهزون لبيلينغهام ليلة الثلاثاء    كأن الحرب في يومها الأول.. مليشيات الحوثي تهاجم السعودية بعد قمة الرياض    لأول مرة.. مصر تتخذ قرارا غير مسبوق اقتصاديا    رسالة سعودية قوية للحوثيين ومليشيات إيران في المنطقة    وزارة الأوقاف بالعاصمة عدن تُحذر من تفويج حجاج بدون تأشيرة رسمية وتُؤكّد على أهمية التصاريح(وثيقة)    الكشف عن الفئة الأكثر سخطًا وغضبًا وشوقًا للخروج على جماعة الحوثي    ليفاندوفسكي يقود برشلونة للفوز برباعية امام فالنسيا    ثلاثة صواريخ هاجمتها.. الكشف عن تفاصيل هجوم حوثي على سفينة كانت في طريقها إلى السعودية    عودة تفشي وباء الكوليرا في إب    رئيس مجلس القيادة: مأرب صمام أمان الجمهورية وبوابة النصر    الجرادي: التكتل الوطني الواسع سيعمل على مساندة الحكومة لاستعادة مؤسسات الدولة    حاصل على شريعة وقانون .. شاهد .. لحظة ضبط شاب متلبسا أثناء قيامه بهذا الأمر الصادم    أصول القطاع المصرفي الاماراتي تتجاوز 4.2 تريليون درهم للمرة الأولى في تاريخها    القرءان املاء رباني لا عثماني... الفرق بين امرأة وامرأت    رئيس كاك بنك يشارك في اجتماعات الحكومة والبنك المركزي والبنوك اليمنية بصندوق النقد والبنك الدوليين    فيتنام تدخل قائمة اكبر ثلاثة مصدرين للبن في العالم    رباعي بايرن ميونخ جاهز لمواجهة ريال مدريد    عاجل محامون القاضية سوسن الحوثي اشجع قاضي    ليفربول يوقع عقود مدربه الجديد    قائمة برشلونة لمواجهة فالنسيا    المواصفات والمقاييس ترفض مستلزمات ووسائل تعليمية مخصصة للاطفال تروج للمثلية ومنتجات والعاب آخرى    يونيسيف: وفاة طفل يمني كل 13 دقيقة بأمراض يمكن الوقاية منها باللقاحات    وفاة امرأة وإنقاذ أخرى بعد أن جرفتهن سيول الأمطار في إب    الذهب يستقر مع تضاؤل توقعات خفض الفائدة الأميركية    اليمن تحقق لقب بطل العرب وتحصد 11 جائزة في البطولة العربية 15 للروبوت في الأردن    استهداف سفينة حاويات في البحر الأحمر ترفع علم مالطا بثلاث صواريخ    ''خيوط'' قصة النجاح المغدورة    رغم القمع والاعتقالات.. تواصل الاحتجاجات الطلابية المناصرة لفلسطين في الولايات المتحدة    افتتاح قاعة الشيخ محمد بن زايد.. الامارات تطور قطاع التعليم الأكاديمي بحضرموت    للمرة 12.. باريس بطلا للدوري الفرنسي    كانوا في طريقهم إلى عدن.. وفاة وإصابة ثلاثة مواطنين إثر انقلاب ''باص'' من منحدر بمحافظة لحج (الأسماء والصور)    ريمة سَّكاب اليمن !    نداء إلى محافظ شبوة.. وثقوا الأرضية المتنازع عليها لمستشفى عتق    في ذكرى رحيل الاسطورة نبراس الصحافة والقلم "عادل الأعسم"    السعودية تعيد مراجعة مشاريعها الاقتصادية "بعيدا عن الغرور"    كيف يزيد رزقك ويطول عمرك وتختفي كل مشاكلك؟.. ب8 أعمال وآية قرآنية    طلاب جامعة حضرموت يرفعون الرايات الحمراء: ثورة على الظلم أم مجرد صرخة احتجاج؟    أسئلة مثيرة في اختبارات جامعة صنعاء.. والطلاب يغادرون قاعات الامتحان    الدوري الانكليزي الممتاز: مانشستر سيتي يواصل ثباته نحو اللقب    من هنا تبدأ الحكاية: البحث عن الخلافة تحت عباءة الدين    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    قضية اليمن واحدة والوجع في الرأس    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كيف دخلت الإمامة إلى اليمن وتحولت إلى سلطة مركزية ؟
دخول الإمامة اليمن وأساليبها
نشر في الجمهورية يوم 07 - 05 - 2007

- أمراء حرب الإمام عملوا على إذلال المواطنين وسحق آدميتهم والاستيلاء على مصادر رزقهم
- الإمام فرض العزلة على الشعب واتخذ من سياسة فرق تسد أسلوباً لإذكاء النزاع بين القبائل
- تنكر للعهود وتخلص من العلماء وسن نظام الرهائن والعقوبة الجماعية
من بديهيات القول أن ثورة 26 سبتمبر 1962م في بلادنا لم تعمل على الإطاحة بعرش ملك وتغيير شكل الدولة من ملكية إلى جمهورية فحسب،كما هو الحال لثورة 23يوليو في مصر مثلاً، وإنما أنهت سيطرة الإمامة وحكم الأئمة،وأقامت النظام الجمهوري على تلك الأنقاض.
إلا أن كثيراً من الشباب و خاصة جيل الثورة لايعرفون ماذا كانت تعني الإمامة والإمام...وأي شكل من أشكال الحكم كانت تمثله ؛ ولهؤلاء الشباب نقول:
كانت الإمامة كأداة حكم والإمام كحاكم وتعني نظام حكم فريد وغريب يختلف اختلافاً جذرياً عن أنظمة الحكم المعروفة من ملكية وجمهورية بل وإمامية أيضاً.ولا سبيل لمقارنتها بأي نظام ملكي أو جمهوري..ولا حتى بنظام الإمامة الموجود حالياً في إيران.. لأن الثورة الإيرانية قضت على الإمبراطورية الشاهنشاهية وأنهت حكم الشاه وأعلنت نظام الإمامة ،هناك الإمامة سلطة روحية راعية وموجهة لمؤسسات الدولة..إذ أنها حولت شكل الدولة من ملكي إلى جمهوري وأوجدت له مؤسساته،من رئيس للجمهورية وبرلمان ومجلس وزراء بغض النظر عن سوء الممارسات التي تحدث.
أما الإمامة التي عرفتها بلادنا فلم تقترن بأي مؤسسة من المؤسسات اللازمة لبناء الدولة...كما لم تقترن بالشورى التي أمر بها الله «وأمرهم شورى بينهم»...وإنما اقترنت بحكم الفرد..فرد واحد هو الإمام الذي أعطى لنفسه الحق المطلق في التملك والقداسة والتصرف بالوطن والمواطنين.
وقد كان الأحرار اليمنيون يدركون حقيقتها منذ بداية معارضتهم لنظام حكم الإمام يحيى وسجلوا رأيهم فيها وحكمهم عليها في منشوراتهم ومطبوعاتهم الأولى،إذ جاء في كتاب "اليمن المنهوبة المنكوبة" الذي أصدره عام 1945م مايلي:
«فسيطرة الإمامة في عهدها الطويل وحكمها الفردي لم تكن أداة حكم صالحة،بل نقول في صراحة وجلاء أنها نكبة نكب بها شعب عربي مجيد،أصيب أبناؤه بسبب أساليبها الغريبة الماكرة إصابات قاتلة في شخصياتهم ونفسياتهم وأخلاقهم وخصائصهم ومميزاتهم،حتى أنهم فوق هذا لم يستفيدوا دينياً من هذه الإمامة،بل أفسدت عليهم تعاليم دينهم وتقاليدهم وباتوا في حالة مزرية لايمكن للعقل أن يتصورها من ناحية القضاء على الشخصية العربية وحرمانهم من أي توجيه مفيد حتى في أمور دنياهم».
ومع ذلك لم يدع الأحرار لإقامة النظام الجمهوري إلا في عام 1957م ،.ولمعرفة الأثر الذي خلفته الإمامة والأضرار التي لحقت بشعبنا سنستدل بما قاله الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين عندما زار بلادنا في مطلع عام1963م أي بعد أربعة أشهر من قيام الثورة.
كانت الجزائر قد نالت استقلالها عن فرنسا في مستهل شهر سبتمبر 1962م بعد ثورة شعبية وحرب تحرير ضد الاستعمار الفرنسي دامت أكثر من سبع سنوات قدمت فيها أكثر من مليون شهيد..وعندما قامت ثورة 26سبتمبر1962م في بلادنا أرسلت حكومة الثورة الجزائرية وفداً برئاسة هواري بومدين نائب الرئيس الجزائري يوسف بن خده، وقد تنقل الوفد الجزائري بالسيارات بين المدن الرئيسية صنعاء ،الحديدة ،تعز.
صدم الواقع المعاش في بلادنا مشاعر الثائر هواري بومدين عندما وجده جزءاً من حياة القرون الأولى،لاتربطه أية رابطة بحياة القرن العشرين،لم يكن هناك أية طرق رئيسية مسفلتة سوى طريق الحديدة صنعاء التي فرغ الصينيون لتوهم من شقها وسفلتتها، وما عداها لاتوجد أية طريق رئيسية أو فرعية حتى ترابية بين المدن الرئيسية أو داخل المدن الرئيسية نفسها بما في ذلك العاصمة صنعاء، بل لم يجدوا آلة كاتبة لطبع البيان المشترك،وشاهدوا المواطنين الذين يتوافدون من مختلف مناطق القبائل بصورة جماعية للتهنئة بالثورة باسم القبيلة ،وهم شبه عراة وأقدامهم الحافية تثير أثناء سيرهم نحو القصر الجمهوري سحباً من الأتربة تسد الأفق،فقال بومدين معلقاً على ذلك بما معناه:
«إذا كان الاستقلال يصنع هكذا في الشعوب فعلينا نحن الذين حاربنا الاستعمار أن نصنع له تمثالاً»..
وما أزعج بومدين وأخافه من تخلف وبدائية في بلادنا لم تكن من صنع الاستقلال وإنما من صنع الإمامة والأئمة.
لذا سنتحدث عن الطريقة التي وجدت بها الإمامة في بلادنا وتحولها إلى سلطة مركزية لتصنع ما صنعته.
جرت العادة بين أفخاذ القبائل المتناثرة في الجزيرة العربية أن تلجأ عندما يشتد الصراع والخلاف فيما بينها لأي سبب من الأسباب إلى البحث عن شخصية من خارج القبيلة تستقدمها للإقامة بين ربوعها وتوليها على نفسها، وتكون حكماً فيما يحدث بينها من نزاع ، وقد كان والد الشاعر اليمني المعروف إمرؤ القيس بن حجر الكندي، من ملوك كنده في حضرموت ،ملكاً على بعض قبائل نجد..وهناك شخص آخر يدعى زيد عينته بعض القبائل النجدية ملكاً عليها،وقد اعتادوا أن يحملوه بالأيدي وهم يرددون:«نحن عبيد زيد نحمله بالأيد».
هذا بالنسبة لشخصيات يمنية استقدمتها قبائل نجدية وملكتها عليها،أما بالنسبة للشخصيات الحجازية التي استقدمتها قبائل يمنية وحكمتها على نفسها ،فقد حدث نزاع بين فخذين من قبيلة خولان بن عامر اليمنية ،في القرن الثالث الهجري.. ذهب بعضهم إلى المدينة المنورة في الحجاز لمقابلة السيد يحيى بن الحسين الرسي ،يطلبون منه القدوم إلى قبيلتهم ليكون حكماً بينهم فيما يحدث بينهم من نزاع.
لبى يحيى بن الحسين طلبهم وقدم إلى اليمن عام 284ه واستقر في صعدة لا ليكون حكماً، إنما ليستقر فيها كإمام ،وقد عمل في بادئ الأمر على حل الخلاف بين الأفخاذ المتخاصمة ، ثم دعاهم إلى القسم على المصحف الشريف أن يتركوا الفتنة فيما بينهم ويعملوا على طاعته وتنفيذ مايقوله لهم ومما قاله:
( لأجل أن نامر بالمعروف وننهي عن المنكر أنا وانتم جميعاً فإنني سألزم في معاملتي لكم بالكتاب والسنة وأني سأوثركم على نفسي،ولا انتهز مغنماً لنفسي وسأعطيكم أول شطر من أي مغنم نحصل عليه..وسأكون في مقدمتكم عند مجاهدة العدو وفي مقابل ذلك اطلب منكم أمرين.. التمسك بكتاب الله تعالى وإطاعة تعاليمي في السر والعلن،ولي عليكم الطاعة مادمت أنا في طاعة الله).
اتخذ من صعدة مرتكزاً لتحقيق مطامحه ومطامعه في احتلال الأراضي اليمنية،وأسس فيها نظام الإمامة وأخضعها لحكم الأئمة من خلال الحروب التي قام بها ضد المواطنين واحتلال مناطقهم وإخضاعهم لطاعته، وكلما استشعر الضعف طلب من أقاربه في إيران أن يمدوه بقوات عسكرية.
ومع ذلك عجز أن يفرض سلطته على اليمن كلها ،كما عجز الأئمة الذين خلفوه أن يحققوا ذلك..فبقيت الإمامة تعيش محصورة كسلطة دينية، في مناطق جبلية متنقلة بين صعدة وشهارة وحجة وفقاً لمقر إقامة الإمام في ظل الدولة المركزية حتى عام 922ه أي بعد اكتشاف البرتغاليين الطريق البحري الجديد الذي يصل أوروبا بأقصى الشرق عبر رأس الرجاء الصالح.
كانت اليمن بمثابة همزة وصل بين الشرق والغرب تعمل السفن التجارية بينهما عبر البحر الأحمر الذي تتناثر على شواطئه عدد من الموانئ اليمنية،وتتحكم في مضيق باب المندب..
وبعد اكتشاف البرتغاليين لرأس الرجاء الصالح كطريق بحري جديد ووصولهم إلى الهند وإندونيسيا طمعوا في احتكار التجارة مع الشرق،وقاموا بتأسيس أول مستعمرة في شبه القارة الهندية هي مستعمرة «جاوا» ،ومع بداية القرن السادس عشر أخذوا يعملون على تحويل سير التجارة بين أوروبا والشرق من الممر المعتاد عبر البحر الأحمر إلى الممر الجديد عبر رأس الرجاء الصالح، والسيطرة والتحكم في الممر القديم بوضع سفنهم الحربية عند مدخل البحر الأحمر لمهاجمة السفن العربية وغير العربية ونهبها ومنعها من نقل البضائع بين أوروبا والشرق إلا بإذنها.
وبالتالي حاولت احتلال الجزر اليمنية في البحر الأحمر والاستيلاء على الموانئ اليمنية مثل ميناء عدن وميناء المكلا وغيرها،وكانت اليمن يومها تحت حكم السلطان عامر بن عبدالوهاب الذي جهز السفن الحربية لمقاومة السفن البرتغالية وفك الحصار عن الموانئ اليمنية،إلا أن إمكانيات اليمن وقواتها خاصة السفن البحرية محدودة..ولما كانت مصر الخاضعة لحكم المماليك يومها هي الأخرى تضررت من ذلك الحصار البرتغالي،وكانت مصر هي الدولة العربية الوحيدة التي تمتلك أسطولاً بحرياً قوياً، فقد سيرت أسطولها في البحر الأحمر وتمركزت في الجزر الهامة المنتشرة فيه،بما فيها الجزر اليمنية التي أذن لهم السلطان عامر بن عبدالوهاب التمركز فيها لمنع البرتغاليين من احتلالها وردع قواتهم الغازية..إلا أن الإمام شرف الدين،الذي كان يعيش في «ثلاء» مثل أسلافه معزولاً هناك كسلطة سياسية ودينية،قرر استغلال ذلك الظرف العالمي والخطر البرتغالي لأهدافه السياسية ومطامعه الشخصية باستعدائه قوات المماليك المتواجدة في البحر الأحمر ضد السلطان عامر بن عبدالوهاب والقضاء على حكومته المركزية ،وذلك بتحريضه لهم على احتلال اليمن مبدياً لهم تعاونه معهم..فكتب رسالة لرئيسهم حسين الكردي إلى جزيرة كمران مقر إقامته ، وقد نشر الرسالة حفيده عيسى بن لطف الله بن المطهر شرف الدين في كتابه«روح الروح» ص 17والكتاب من منشورات وزارة الإعلام والثقافة.
وفيما يلي جانب مما ورد في الرسالة المنشورة تحت عنوان رأي سديد كان فيه هلاك الخصم المبيد ،جاء فيه:
واختتم شرف الدين رسالته هذه بقوله:( أجمع رأي الإمام شرف الدين عليه السلام أن يكتب إلى رئيس الأجناد المصرية كتاباً يستصرخهم فيه على آل طاهر ويستنجد بهم على الملك الظافر، فكتب إلى الأمير حسين كتاباً هذه نسخته.
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم،نعمة شملت وسبغت ومنحة كملت فبلغت من لدن حكيم خبير على أهل بيت البشير النذير أجراها الله على يد ملك بسيف أميره الهمام الخطير الضرغام الشهير المقدام الأثير، أميرالأمراء الإسلامية،مفرج كروب العترة الطاهرة الزكية ،الناقم بنار الحرمين من الفرقة الظالمة العامرية ،المتحلي من أجل ذلك بكل زين ،المتبري فيما هنالك إن شاء الله عن كل شين..الوافي بحق اسم سيد الشهداء سبط المختار الحسين..ذلك الأمير الجليل النبيل حسين حياه الله من السلام أسناه..ومن الإكرام أزكاه..والله المسئول أن يوفقه وإيانا لإصابة مراده وهداية عباده واجراء أحكام شريعته الطاهرة في عباده..وتطهيرها من آثار جور الجائر وتنويرها من ظلمات جرأته وعناده.
وبعد:
فكتابنا هذا لتعريف خاطر الأمير وفقه الله الملك القدير بأنا لم نزل إلى الله مبتهلين ولما لديه من الفرج منتظرين وبالتجرد لمنابذة عدو الله الجائر والقيام بالدعاء إلى دفاعه وجهاده امتثالاً لأمر الله القوي القادر على عدم من ٍ من المعين والناصر ،وخذلان من أهل الزمان المشئوم القاصر،وميل من الناس إلى الأطماع الحقيرة وانخداع من الخلق بزخارف الباطل الفاضحة المبيرة حتى تمكن منهم هذا الظالم الغشوم وأوقعهم من الخزي والوبال والهوان في أقصى التخوم ،وشمل بشره الغوي والبري،والشجي والخلي وتتبع بمعظم خبثه وجوره ومكره أعيان أهل بيت النبي ولم يبق في سلطانه لأهل البيت باقية ولا أجيب له إجابة نافعة وأعية حتى بددهم هذا الظالم في البلاد وفرق منهم بين الآباء والأولاد ومات الأكثر منهم في تخوم اليمن مطرودين مشردين يتمنى الولد أن يحضر موت أبيه والوالد أن يشاهد أحوال بنيه وفعله بآل المصطفى ماقد حرمه الله في ملك اليمين بل في سبي الكافرين الخارجين من الدين)..
واختتم شرف الدين رسالته هذه بقوله:
( ونحن نسأل الله في تعجيل الفرج واطفاء وهج المهج على يد من هو أهل للمحامد المبرورة والمشاهد المشهورة في حياطة هذا الدين والرعاية لحق رسول رب العالمين ،وما ذاك إلا لسريرة صالحة وتجارة رابحة من السلطان الأكرم المنور المستطيل الأعظم قانصوه آدام الله توفيقه وأوضح إلى نبل كل مقصود ومبرور طريقه،ولقد ربما يسر الله الكريم المنان العظيم أمر النسب والصهر الكريم الذي جعله في مصر لخليله ابراهيم وخاتم انبيائه محمد عليهما أفضل الصلوات والتسليم ونرجو أن الله قد وفقكم أيها الغزاة الأعلام لمشابهة من قال فيكم الملك العلام"فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المومنين أعزة على الكافرين،يجاهدون في سبيل الله ولايخافون لومة لائم ،ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم").
فلننظر متأملين لهذه الرسالة من هذا الإمام الذي لم يكن يهمه تواجد البرتغاليين في البحر الأحمر ولايشغل ذهنه غزوهم للموانئ اليمنية وتحويلهم الخط التجاري الذي تستفيد منه اليمن واليمنيون، قدر ماكان يشغل ذهنه من التخلص من السلطان عامر بن عبدالوهاب والقضاء على الدولة المركزية اليمنية لتحل الإمامة محلها، فقد استغل في الرسالة كثيراً من الأمور الدينية، ونسب خليل الله إبراهيم ومصاهرته.
تجاوب حسين الكردي قائد القوات المصرية في البحر الأحمر مع الإمام شرف الدين فأرسل قواته لاحتلال اليمن ودخل في حرب ضد السلطان عامر بن عبدالوهاب انتهت بمصرع السلطان وانهيار الدولة اليمنية المركزية وقبل أن يتمكن المماليك من بسط نفوذهم على اليمن كلها سقط حكمهم في مصر وحل محلهم الأتراك العثمانيون الذين بسطوا نفوذهم على البلاد العربية كلها، وأرسلوا قواتهم إلى البحر الأحمر لمقاومة وطرد البرتغاليين، وبالتالي حلوا محل المماليك في اليمن.
لقد تحقق حلم الإمام شرف الدين في التخلص من السلطان عامر بن عبدالوهاب إلا أن حلمه في أن يحل أو تحل الإمامة محل الدولة المركزية لم يتحقق..فقد خضعت اليمن لحكم السلطنة العثمانية، فدخل هو وابنه المطهر في حرب ضد القوات التركية لإخراجها من اليمن، إلا أنهما لم يتمكنا من ذلك..فواصل أعقابهم من الأئمة الحرب بعدهما.
واستمر الأتراك في مقاومتهم للأئمة في اليمن وللبرتغاليين وغيرهم من الغربيين في البحر الأبيض والبحر الأحمر، ومنعهم من التحكم في البلاد العربية وممراتها المائية.
ثم غادر الأتراك اليمن عام 1635م الموافق 1041ه «ليستمروا بالبقاء في مختلف البلاد العربية» عقب الصلح الذي عقدوه مع الإمام القاسم بن محمد، وبذلك حلت الإمامة محل الدولة المركزية في اليمن، ويمكن القول أن ميلاد الإمبراطوريات الغربية المسيحية ومحاولاتها احتلال البلاد العربية ممراتها المائية قابلت ميلاد الامبراطورية الإسلامية والخلافة العثمانية التي تصدت لكل تلك المحاولات..وبالتالي جاء خروج الأتراك من اليمن ليمكن الإمامة من حكم اليمن باسم الدولة المركزية التي حلت محلها.
مبايعة الإمام يحيى خلفاً لوالده
وعندما غادرت اليمن تركيا عام 1635م كما أسلفنا بقيت في الحجاز على مقربة منها.
وفي عام 1839م الموافق 1235ه احتلت بريطانيا مدينة عدن وبسطت حمايتها على النواحي اليمنية المجاورة لعدن، التي جعلت منها محطة تموين لسفنها بالماء والوقود، وقاعدة عسكرية لحماية سفنها ومصالحها في المنطقة.
وفي عام 1849م عادت تركيا إلى اليمن بدعوة من الإمام المنصور محمد بن يحيى الذي استدعاهم للقدوم إلى صنعاء في طريق الحديدة مجاراة للشريف حسين بن علي حيدره في تهامة الذي وجه إليهم دعوة للقدوم من الحجاز إلى الحديدة، وفي عام 1869م ولد الإمام يحيى بن محمد بن يحىى في مدينة صنعاء، وعاش طفولته وشبابه بجانب والده الإمام المنصور محمد بن يحىى بن محمد الذي كان يعمل بالتجارة ويعتبر من أمهر وأذكى التجار في صنعاء.
وفي عام 1890م الموافق 1307ه توفي الإمام الهادي فغادر الإمام يحيى صنعاء مع والده الذي استقر في الأهنوم، حيث دعى للإمامة لنفسه، وأعلن مقاومته للأتراك من هناك وأخذ يعمل على إخراجهم من اليمن، إلا أنه توفي في عام 1904م فبويع ابنه خلفاً له واتخذ من «قفلة عذر» عاصمة له.
تسلم الإمام يحيى السلطة في المناطق الشمالية التي كان يحكمها والده، فراح يعمل بدهائه ومكره وحنكته على ترسيخ أقدامه في السلطة واستقطاب الرجال الأقوياء، إلى صفه بما يبذله لهم من وعود في الإصلاح أو المشاركة في الحكم وإقامة الحكم المحلي الذي سيبني عليه حكمه بعد تخلصه من الأتراك حتى تعاون معه كثيرون من أبناء الأسر المنافسة له في الإمامة، وتعاون معه بعض المدنيين وشيوخ القبائل على أساس ماوعد به من الإصلاح أو الجاه أو النفوذ.
ومثلما ركز على بناء سلطته ونفوذه ركز أيضاً على مواصلة الحرب ضد الأتراك لإخراجهم من اليمن ليبسط نفوذه على المناطق التي يحكمونها وشددت قواته من حصارها لصنعاء..إلا أن الأوضاع الدولية السائدة يومها والأخطار المحيطة بالإمبراطورية التركية من قبل الدول الغربية التي أخذت تنسق مواقفها ضدها بخلق القلاقل والحركات الانفصالية وحركات الاستقلال في كثير من البلدان الخاضعة لحكمها تمهيداً لتمزيقها وبسط نفوذها على كثير منها اضطرت تركيا إلى عقد اتفاقية مع الإمام يحيى عام 1911م المعروفة باتفاقية «دعان» لتتفرغ لمجابهة المؤامرات الغربية التي تحاك ضدها.. وكانت المنافسة الاقتصادية بين الدول الأوروبية والمطامع السياسية في التوسع قد بلغت ذروتها وأخذت تقيم التكتلات والأحلاف على ذلك الأساس تمهيداً لدخول الحرب العالمية الأولى ضد بعضها، وقد اختارت تركيا أن تقف إلى جانب صديقتها وحليفتها المانيا وتخوض الحرب إلى جانبها ضد الدول الأوروبية الأخرى، خاصة وقد كان لكل من بريطانيا وفرنسا وايطاليا مطامع في احتلال البلاد العربية التي كانت تعتبر جزءاً من الخلافة العثمانية.
وفعلاً بدأت تلك المطامع تظهر عندما أقدمت ايطاليا عام 1911م على احتلال ليبيا..وعندما نشبت الحرب العالمية عام 1914م خاضتها تركيا في كل من اليمن والحجاز وسوريا وفي أوروبا، ضد أعدائها وإلى جانب حليفتها ألمانيا.
وكانت بريطانيا أكثر الدول الغربية خوفاً على مصالحها وعلى طرق مواصلاتها إلى مستعمراتها في الشرق..وعلى مستعمرتها ومحطة تموين سفنها ونقطة حراستها «عدن» القريبة من القوات التركية التي زحفت بعد اشتعال الحرب على المحميات واستقرت في مدينة الشيخ عثمان على بعد بضعة أميال من عدن.
أخذت بريطانيا تعمل منذ بداية الحرب على كسب بعض الحكام المحليين في الجزيرة العربية إلى جانبها إلا أنها عجزت عن كسب الإمام يحيى الذي كان قد عقد معاهدة صلح مع تركيا وفشل الضباط السياسيون الذين وصلوا من عدن في إقناع الإمام بدخول الحرب إلى جانب بريطانيا ضد تركيا، فقد رفض ذلك وبقي على الحياد ناكثاً بوعوده لتركيا بتقديمه المساندة لها أثناء زحف قواتها على عدن والمحميات لاحتلالها.
ومن يراجع الوثيقة رقم «36» في كتاب د.سيد مصطفى سالم وثائق يمنية ص319 وهي برقية جوابية مطولة من الوالي محمود نديم للإمام يحيى سيتعرف على مدى تخاذل الإمام يحيى وتقاعسه عن تقديم العون للقوات التركية المحاربة ضد القوات البريطانية، واحتجاج الإمام عليهم في عدم الإسراع في احتلال النواحي أو المحميات..وشكوى محمود نديم من تصرفات القوات الإمامية التي أرسلها الإمام لمساندتهم في الحرب إذ أن هذه القوات الإمامية أخذت تنهب القرى الكائنة في طريقها والممتدة من إب إلى الضالع..ومع ذلك فإن كثيرين من أبناء مناطق تعز والعدين وإب لم يقفوا موقف الإمام يحيى السلبي من الحرب، وإنما قرروا الوقوف إلى جانب تركيا ومساندتها وخوض الحرب معها ضد بريطانيا، لأنهم آمنوا بأن تلك الحرب كانت دينية إسلامية ووطنية، وليست حرباً سياسية.. فجمعوا الجيوش من مناطقهم ودخلوا الحرب إلى جانب القوات التركية تحت قيادة سعيد باشا الذي وصل بهذه القوات إلى مدينة الشيخ عثمان..إلا أن هذه الحرب انتهت بهزيمة ألمانيا وتركيا.
وبذلك تمزقت الامبراطورية الإسلامية أو أراضي الخلافة العثمانية، وخرجت كل الأقطار العربية من تحت سيطرة الخلافة العثمانية لتقع بين براثن الاستعمار الغربي الذي تقاسم تركة «الرجل المريض» بعد انتصاره في تلك الحرب.
ساد الأقطار العربية التي وقعت تحت وطأة الاستعمار نوع من الديمقراطية الصورية مثل المجالس المحلية والتشريعية المقيدة والأحزاب والدساتير والصحف والمجلات المستقلة أو التابعة للسلطة.
وبالتالي انفتحت هذه الأقطار على الغرب، وتعرفت على كل مايجد في العالم من تطورات في مختلف جوانب الحياة، وأخذت تتأثر بذلك وتتفاعل معه، هذا بالنسبة لما حدث للبلاد العربية التي تحررت من النفوذ التركي بعد الحرب، ووقعت فريسة للاستعمار الغربي..أما بالنسبة لما حدث في بلادنا فإن الأجزاء التي كانت خاضعة للحكم التركي واستعادت سيادتها، لم تنكب بالاستعمار مثلما حدث للأقطار العربية الأخرى..وإنما نكبت بدسائسه ومؤامراته وقد تكونت منها «المملكة المتوكلية اليمنية»..ويعتبر شهر نوفمبر 1918م شهر ميلادها، أو تأسيسها.
ففي شهر نوفمبر دخل الإمام يحيى صنعاء بدعوة من الوالي محمود نديم آخر وال تركي على اليمن ليتسلم منه مقاليد السلطة رسمياً قبل تركه وظيفته.. أما بالنسبة للمناطق اليمنية الجنوبية التي كانت خاضعة للحماية البريطانية، واحتلتها قوات سعيد باشا أثناء الحرب، فقبل انسحابه بقواته منها، طلب من الإمام يحيى أن يبعث من يستلم منه هذه المناطق، فلم يوافق الإمام على استلامها لأنه لايرغب أن يحكم المحميات الفقيرة التي ستشكل عبئاً مالياً عليه، وإنما يرغب في أن يحكم (عدن) لما سيدره ميناؤها من أموال على خزانته..وبعد انسحاب القوات التركية من المحميات عادت إلى الحماية البريطانية..كان الإمام يحيى يحسن الظن بنوايا بريطانيا وأنها ستسلم له كل المحميات ومستعمرة عدن تقديراً منها لموقفه المحايد في الحرب، وعدم تقديمه المساعدة للأتراك.
وفي وبداية الأمر عرضت عليه بريطانيا أن تتخلى له عن المحميات وستحتفظ بمستعمرة عدن..فرفض ذلك لأن مطامعه منصبة على ماسيدره ميناء عدن من أموال على خزينته، فهرول مابين هذا وذاك فلا تلك تأتي ولا ذلك حصل أما وحدة الأراضي اليمنية والسيادة عليها فلم يكن يهتم بها إلا بقدر مردودها المالي فقط..ولذا قرر التخلي عن بعض المناطق التي يحكمها مثل البيضاء ومأرب.
فبالنسبة للبيضاء التي كانت جزءاً من لواء ذمار، تقول أكثر من رواية أن أمير اللواء عبدالله بن أحمد الوزير طلب من الإمام يحيى مبلغ ألفين ريال للجيش المرابط في البيضاء كرواتب.. فأجابه الإمام يحيى بقوله:« إذا كانت وارداتها لاتفي بمصاريفها فلتلحق بأخواتها»، أي تدخل تحت الحماية البريطانية إذا كانت ستكلف رواتب الجنود والموظفين، ثم استدعى عبدالله إسحاق وسأله: هل بمقدوره إذا كان أميراً على البيضاء أن ينفق عليها من دخله، فأجاب بالإيجاب..ففصلها الإمام عن لواء ذمار وعينه محافظاً عليها، بعد أن جعلها محافظة لحالها.
وبالنسبة لمأرب، فقد روى لي أحد الأصدقاء عن الأستاذ زيد عنان قوله: أنه سمع الإمام يحيى شخصياً يقول مامعناه «مامعانا فائدة من مأرب هذه..تخسرنا كل سنة خمسة آلاف ريال معاشات ونحن مافيش معانا منها مدخول..ماعد نشتيهاش».
الإمام يحيى يفرض العزلة على مملكته
كان من الممكن، بل والمفروض أن يتحقق حلم الطلائع اليمنية وأملها في حكم وطني عادل بعد جلاء الأتراك في ظل حكم الإمام يحيى خاصة، وقد جاءت الوفود المهنئة والمبايعة له والمطالبة منه أن يكون حاكماً لليمن كلها من مختلف أنحائها إذ كان من ضمن الوافدين إليه ابن عبيد الله السقاف مفتي الديار الحضرمية، قال فيه عدة قصائد جمعها في ديوان صغير أسماه «الإماميات»..كان من الممكن أن يتحقق حلم هذه الطلائع اليمنية التي كانت على جانب من الاطلاع والفهم بالتطورات الجارية في العالم، وتأثرت بها واحتكت بالإدارة التركية أو البريطانية واستفادت منها، لو كان الإمام يحيى صادقاً فيما بذله من عهود ووعود لهذه الطلائع وغيرها أثناء دعوته لهم ومساندته في دعوته للإمامة، خاصة وقد دانت له كثير من المناطق بالطاعة والولاء وقدم رؤساؤها لتهنئته، ومبايعته كان من الممكن أن يتحقق ذلك لو كان الإمام متجاوباً مع هذه الطلائع وله نفس تفكيرها وطموحها لكنه كان على عكسها ونقيضها..لم يحتك مثلهم بإدارات حديثة ولا تأثر بما يحدث في العالم من تطورات، ولا مؤمناً بالأخذ بأساليب الحكم الحديثة من إدارة ودستور وبرلمان وجيش في بناء الدولة.. لأنه عاش وترعرع في بيئة متزمتة تأثر بها واتخذها أسلوباً لتصرفاته ومنهجاً لنظام حكمه.
لقد جاء من مناطق جبلية جرداء قاحلة منغلقة على نفسها، ومنعزلة عن المناطق التي عاشت ردحاً من الزمن تحت الحكم التركي، ولم تكن على صلة مثلها بما يجد في العالم..ودخل صنعاء بنفسية كئيبة وروح مظلمة، وتسلم السلطة وهو أسير ذهنية قديمة متزمتة تنفر من كل جديد أو غريب..فلم يستطع أن يرقى بنفسه وطموحه إلى مستوى العصر..يتفهمه، ويستوعب منجزاته، ويستفيد ممايجد حواليه، وحاول أن يحكم بنفس القاعدة والأساليب البالية والقاسية التي حكم بها الأئمة الذين سبقوه، معتمداً على القبائل الموالية له في ضرب القبائل غير الموالية، وفي فرض الأمان والاستقرار في مملكته، ولم يحاول تكوين جيش نظامي مثل بقية الدول..لولا أن مفتي إب القاضي يحيى الحداد نبهه إلى خطورة الاعتماد على الجيش البراني، ونصحه بضرورة تكوين جيش نظامي حديث، كما نصحه باستبقاء بعض الضباط الأتراك لتدريب وتنظيم الجيش النظامي، كما عمل القاضي راغب بك «التركي» وزير الخارجية على استكمال مظاهر الدولة بإقامة علاقات وعقد اتفاقيات مع بعض الدول الأجنبية.
هذان هما فقط المظهران من مظاهر الدولة الحديثة فقط اللذان وافق الإمام يحيى على إيجادهما أما ماعداهما فقد كان سلوكه وأسلوب حكمه تجسيداً لقسوة الحياة وطبيعة التفكير والسلوك السائد في المناطق المنغلقة على نفسها..وقد فرض حصاراً رهيباً على البلاد وعزلها عن كل مايمت إلى العالم الخارجي بأي صلة، بل عمد إلى إلغاء النظم الإدارية الحديثة، وأساليب التعليم الحديث، الذي كان الاتراك قد نقلوه معهم إلى اليمن عند عودتهم الثانية إليها،وقد تحدث الاحرار اليمنيون عنها في كتاب اليمن المنهوبة المنكوبة الذي أصدروه في الأربعينيات إذ جاء فيه مايلي:
«ومما هو خليق بالذكر للحقيقة والتاريخ أن اليمن بمناطقها الجبلية وسواحلها ومختلف مقاطعاتها الممتدة في السهول والوديان كانت في عهد الحكم التركي، خاصة بعد الانقلاب الدستوري العثماني الأخير، تتمتع بحكم شعبي يتناسب وحالة العصر مما هي محرومة منه الآن.
ولو امتد حكم الاتراك إلى يومنا هذا لتدرج اليمانيون في ظل الحكم الشعبي نحو الحياة العامة المناسبة وأكثر وأكثر، ولهذا نسجل أن الولاة والمحافظين وكبار رجال الحكم الاتراك كانوا غير منفردين بالسلطة، بل كانوا يرجعون إلى الدوائر العليا في الآستانة ويحاسبون أمامها عما يكون قد حدث من تقصير في تصريف شئون الحكم»..
«كان في كل محافظة وقضاء «مركز» مجالس محلية يطلق عليها مجلس الإدارة أعضاؤها من صفوة أبناء البلاد، الواقفين على حاجيات مواطنيهم، كانوا خير أداة لعون الحكومة على تطبيق العدالة لأنهم يعتبرون وسطاء بين الشعب وولاة الأمور المسئولين».
«هذا ماعدا ما كان لليمن من نواب يمانيين كرام يتمتعون بالوطنية والكفاية بالبرلمان العثماني يناقشون ويجادلون ويسألون ويستجوبون بحرية تامة في مصالح بلادهم فكان للشعب رهبته ومكانته لدى الحكام المحليين والمنفذين لقوانين الدولة ولو بدا منهم أي تقصير نحو الشعب سارع أولئك النواب اليمانيون في توجيه السؤال والاستجواب»..
«وعدا هذا فقد كان هناك أمر شعبي عظيم آخر هو المجلس العمومي للولاية مقره صنعاء، رئيسه الوالي ونائب الرئيس من الوطنيين الخبيرين بشئون البلاد وأعضاؤه يبلغون الثلاثين نائباً وهذا المجلس كان يتمتع بسلطة واسعة كبرلمان مصغر يفتتح في موعد معين باحتفال شعبي عظيم، يلقى فيه الوالي خطبة الافتتاح، وهو بمثابة خطاب عرش في البرلمانات الكبرى، يذكر فيه الوالي ماتم في السنة الماضية وماقامت به حكومة الولاية من اصلاح وتعمير وتعليم،وبالجملة كل ما أدخل على مرافق البلاد من تحسين ونهوض لرفاهية الشعب ورخائه».
ويتحدث محمد أحمد نعمان عن ذلك ويقارنه بحكم الإمام يحيى إذ يقول:
«وصنعاء حاضرة البلد كانت في عهد الترك على علاقة بكل جديد، ونشأت فيها مجموعة من الكوادر الذين تدربوا تدريباً تركياً..
وكان نقيضها مدارس شهارة والأهنوم، وصعدة...
وكان الامام وكل من حوله منغلقين في الجبال، وفي الثقافة التاريخية التقليدية التي ورثتها البلاد في المخطوطات القديمة.. وكان في صنعاء قشرة بسيطة صغيرة اتصلت بالإدارة التركية، وكانت أول من دق ناقوس الخطر بدخول الإمام، لأن الامام سيأتي و يلغي كل هذه الأشياء.. وكان بينهم من يعرف الإمام وهو صغير لأن والده الامام المنصور كان قاضياً شرعياً في بعض مناطق صنعاء وكان له لدات يعرفونه ويعرفون شخصيته».
أي أن «الاستقلال اليمني من الاتراك قد كان في نتيجة عمله استقلالاً عن العالم المعاصر.. كان انعزالاً عما حوالينا من تطورات.
كان الحاج محمد المحلوي أول من نبه وحذر المواطنين من تقبل الامام يحيى كامام بعد رحيل الاتراك، لأنه سيدمر كل شيء وسيلغي كل شيء، ولكي يحكم الامام حكماً مطلقاً، ويحكم قبضته على المواطنين، اعتمد على مايلي:-
1 تخلص من العلماء الذين واجهوه بالمعارضة، وجاهروه بآرائهم، واستشعر خطرهم عليه.. فسحقهم نفسياً وسلط عليهم السفهاء باسم الشريعة أو سحقهم أخلاقياً بتوظيفهم وتسليط من يفسدهم بالرشوة.
2 تنكر للوعود والعهود التي قدمها لأبناء المناطق المختلفة في إقامة النظام اللامركزي كقاعدة لنظام حكمه أثناء دعوته لهم بمساندته.
3 بادر إلى إلغاء أسلوب التعليم الحديث الذي أدخله الأتراك.
4 سن نظام الرهائن المعروف والعقوبة الجماعية الذي قال عنه أمين الريحاني «إنه لحكم عسكري قاس شديد، بل حكم اشتباه وارتياب».
5 سن نظام الخطاط على القرى بحيث يتولى أبناؤها طحن وطبخ غذاء عسكر الإمام ونقله من منازلهم إلى مركز الحكومة مجاناً وإجبارياً.
6 أخذ يشرف بنفسه على واردات الدولة وجباية الضرائب ويحدد مقاديرها بنفسه كما لو كان مأمور جباية، كما هو الحال في رسالته التالية:
«الفقيه الفخري عبدالله الشامي حماه الله، والسلام عليكم ورحمة الله،
وأنه قد سبق الأمر إليكم بقبض علف الذرة من نفس شبام بعد كل قدح ربع ريال.. وحيث تحقق بأن ذلك موافق للحق نامركم بالقبض من جميع ماتحت نظارتكم من المحلات بعد كل قدح ربع ريال من ذرة وغيرها فخرج مالم يستفاد بعلفه مثل الخردل والحلبة والقلا والعدس والسعتر والذرة.
وهذا اعتبار من الصراب الحاصل بهذه السنة واجروا الضم على التزام مايقاوم الثمن ريال الزائد على الدرهم فلابد من ضمه حيث كان الالتزام بشرط أن القبض بعد كل قدح ثمن ريال، فاعتمدوا هذا.
تاريخ 26 رجب 1244ه
وعندما راجع الإمام أحد أصدقائه من جور الضرائب التي يفرضها على المواطنين وطلب منه أن يخفف منها أجابه بقوله« هل رأيتهم يحملون البصائر ويعرضون أرضهم للبيع؟».
ولد هذا الأسلوب من الحكم ردود فعل معاكسة لدى المواطنين اتخذت أكثر من شكل وأكثر من أسلوب باختلاف دوافع السخط والتذمر ونوعية الاضطهاد الذي يعانون منه..
ومثلما اختلفت بواعث التذمر وأساليب الاحتجاج من قبل المواطنين، اختلفت أساليب الانتقام منهم وفقاً لاختلاف مواقفهم ومكانتهم الاجتماعية.
سخط عليه المستنيرون والعلماء من أبناء المدن بالذات أبناء «صنعاء» و«ذمار» لتزمته وانغلاقه وكانوا يرون أنفسهم أكثر تطوراً وتفهماً وانفتاحاً على العالم ولأساليب الحياة الجديدة منه، فراحوا يضيقون به ذرعاً وبما يمارسه من تزمت وانغلاق وربط طاعته بطاعة الله سبحانه وتعالى، فأخذوا ينتقدون تصرفاته وسلوكه ليفضحوا القداسة التي يغلف بها تصرفاته ويسبغها على نفسه ونظام حكمه، ويفرقون بين طاعته وطاعة الله.. فأخذ الامام يعمل على وأد طموحهم وكبت تطلعاتهم وتحريض العامة عليهم بما يوجهه إليهم من تهم والتقصير في أداء الشعائر الدينية واتهم الذين تقدموا له بالنصح بمحاولة اختصار القرآن.. وتحت هذه التهمة زج في السجن بكل من الحاج محمد المحلوي وعبدالله العزب والعزي صالح السنيدار وأحمد المطاع، ومحمد المطاع وعلي الشماحي.
ُأمراء حرب الإمام يحيى
منذ بويع الإمام يحيى إماما خلفاً لوالده عام 1904م،وقبل أن يتسلم السلطة من الأتراك وقبل دخوله في تحالف مع كثير من الشخصيات البارزة من أبناء البيوتات الكبيرة المنافسة له والطامعين في حكم اليمن باسم الإمامة مثله والمجانسين له نفسياً وذهنياً وتربية وسلوكاً ليكسبهم إلى جانبه.
وبعد دخوله صنعاء وتسلمه السلطة في نوفمبر 1918م اختار منهم رجال حكومته ودعائم عرشه وقادة جيوشه وحكاماً على الألوية أو المحافظات كنوع من المشاركة له في الحكم.
أطلق على هؤلاء الحكام، يومها أمراء الحرب ولايزالون يعرفون بذلك اللقب حتى وقتنا الحاضر إذ بقيت التسمية ملتصقة بهم سواء في ذلك الذين عينوا حكاماً في المناطق التي بايعت الإمام طواعية، مثل لواء تعز، الذي كان يشمل يومها تعز وإب.. أو التي أخضعها بالقوة مثل البيضاء والجوف... أو التي تمردت عليه مثل حاشد والزرانيق.
فقد دخل الأمراء المناطق التي أرسلوا إليها أمراء حكم أو التي أرسلوا لاخضاعها كقادة جيوش، دخلوها كلها دخول الغزاة الفاتحين بما فيها المناطق التي أرسلت وفودها إلى صنعاء لتهنئة الإمام يحيى ومبايعته وحكموا فيها حكم الطغاة مستخدمين العقوبة الجماعية والخُطط التنافيذ والرهائن وجور الضرائب.
إذ هذه الأشياء أو المسميات كانت هي قواعد الحكم الإمامي وأساسه، وكان أمراء الحرب يعتبرون أنفسهم شركاء الإمام في الحكم لا مجرد موظفين حكوميين، وهناك نكتة يتداولها الناس حول ذلك، وهي أن الإمام قرر عزل أحد كبار موظفيه «أبوطالب» فذهب هذا الموظف إلى الإمام خائفاً وقال له:« عانتعازل؟» أي نحن عَيَّناك وأنت عينتنا وإذا كنت ستعزلنا فنحن أيضاً سنعزلك.. فتراجع الإمام عن قراره.
لقد كان هؤلاء الأمراء شركاء للإمام في حكمه وفي ظلمه استهدفوا جميعاً إذلال المواطنين بمن فيهم الشخصيات الرئيسة التي عينوا فيها وسحق آدميتهم واعتصار أرزاقهم فدخلوا في مجابهة مع الشيخ ناصر الأحمر في حاشد، ومع السلطان الرصاص في البيضاء.. ومع مشايخ تعز وإب وتهامة، لأن الهدف المشترك بينهم وبين الإمام هو سحق نفسية الإنسان اليمني بحيث لايبقى في الساحة اليمنية إلا شخصية الإمام وأمراء حربه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.