عبق التاريخ، صرخات الصيادين.. قهقهات البحارة.. الفل .. المشموم.. الكاذي.. التوابل.. البهارات .. اللبان.. العطور.. كريتر خزينة للآثار والتاريخ عدن كريتر قلب عدن النابض.. هي ثلاثية الحرارة ، والماء والصخور.. فالجبال تحاصر المدينة من كل الجهات بشكل حدوة الحصان.. وتنفرج من ناحية الشرق حيث يستلقي البحر بهدوء ورحابة.. والحرارة مناخها ويعتدل في فصل الشتاء.. هذه سماتها العربية القاسية. المكان بتفاصيله الدقيقة وحضوره المتربع على شرفات البوح والنجوى ، والناس بجمالهم العفوي وبساطتهم المعجزة ، وخاصةً حين تصير حياتهم مرآة مبدعة تعكس جماليات الأمكنة ، وتتباهى فيها صور شتى للإنسانية الوثابة والمكانية الباعثة مخترقة جدار الزمن لتصل إلى البعيد الأبعد في ذاكرة الوعي.. ذلك الدفاق في شعاب الأبد.. إنها مدينة عدن.. ذلك النجم الذي تألق منذ فجر التاريخ.. إذا كانت المدن والبلدان تقرأ من مبانيها وتصاميمها ومن شكل بنائها وتوظيف مساحاتها ، فإن بيوت عدن القديمة تعد نموذجاً حقيقياً لعلاقة البيئة بالحياة الاجتماعية ومظاهرها المختلفة ، لقد أثرت الحرارة التي تعتبر أهم عناصر المناخ تأثيراً واضحاً على العمران في عدن.. إن الناس رغم اختلاف بيئاتهم التي جاءوا منها قد تفاعلوا مع ظروف بيئتهم الجديدة في مجال بناء مساكنهم ، فجاءت أنماط البناء كنوع من التكيف البيئي والتحايل البشري الذي افرز صورة من التعايش والمواءمة بين الإنسان والبيئة. مكونات البناء ومميزاته المنزل أو البيت العدني القديم يتالف عادة من طابق واحد أو طابقين ، وفي أغلب الأحيان تأخذ البيوت المتراصة والمترابطة افقياً شكل سلسلة مربعة أو مستطيلة الحلقات ، وبين كل بيت وآخر من هذه البيوت جدار واحد مشترك وجميعها مبنية من الأحجار الصخرية الصغيرة وذات طراز متطابق واحجام ومساحات متساوية تبدو بشكل مربع أو مستطيل. ويتكون البيت الواحد من غرفة أو غرفتين اضافة إلى صالة «دارة» وحمام ومطبخ صغير.. وقد تتعدد غرف البيت الواحد المستقل عن السلسلة التي ذكرناها آنفاً ويزيد عددها بحيث تتجاوز الغرفتين وكذا تتعدد طوابقه ، لكن ذلك يعتمد بدرجة أساسية على مستوى إيرادات اصحابه ومصادر دخلهم ومراكزهم الاجتماعية.. لكن المعروف عموماً أن اغلبية البيوت العدنية القديمة وغرفها ليست واسعة حتى لبعض هؤلاء الميسوري الحال.. في كثير من البيوت توجد سطوح لها اسوار أو جدران قصيرة تسمى «بالريل» بعضها يحتوي على غرفة صغيرة ملحقة بالسقف وتستخدم لأغراض شتى مثل نشر ثياب الغسيل ومواضع الأدوات التالفة أو غير المستخدمة.. كذلك تستخدم ليلاً للنوم سعياً وراء الهواء الطلق وهروباً من حرارة الجو في الداخل.. علماً أن هذه السقوف كانت تبنى من سعف الاشجار أو الاخشاب المستوردة من بلدان اخرى كالهند ، أما بالنسبة للبيوت الطينية التي يتركز بناؤها في مناطق دار سعد والشيخ عثمان بصورة خاصة فلا تختلف كثيراً من ناحية الشكل والمحتوى عن البيوت الحجرية ، لكنها غالباً منفردة وغير متلاصقة وتوجد في جدارنها من الداخل تجاويف تستخدم كمواضع للتحف والأدوات التقليدية الخاصة بالزينة أو بقصد الانتفاع. وفيما يخص الشرائح الفقيرة المعدمة ، كانت اغلب بيوتهم مبنية من الصفيح والألواح الخشبية ولايمنحون تراخيص ادخال الكهرباء للانارة أو عدادات المياه الحكومية إلا إذا كان الجزء الأكبر من البيت مبنياً من الاسمنت والأحجار أو البلوك «البردين» ولديه بيارة مجار خاصة به ومتصلة بمجرى عام مع جيرانه. وفيما يتعلق بنوافذ البيوت وبلكونات طوابق الدور الثاني فإنها مصنوعة من الأخشاب والألواح بشكل «شرائر» صغيرة وطويلة متراكبة على بعضها باشكال هندسية جذابة تتخللها ثقوب تسمح بمرور الهواء ومنع نظرات الفضولين ، أما الأبواب فلكل بيت بابان خشبيان عند المخرج ، تفصل بينهما سنتميترات والباب الآخر من جهة الخارج مكون كذلك من قطعة أو قطعتين يأخذ نفس شكل النوافذ والبلكونات وذلك لاستخدامه للتهوية والضوء أيضاً. وقد استفاد سكان عدن من امكانات بيئتهم في مجال البناء والتعمير فاستخدموا الرمال وصخور الجبال التي تزخر بها مدينتهم وضواحيها واستخدموا كذلك الطين المتواجد في مناطق الأودية القريبة الجارية في منطقة لحج التي تصلها سيارة نقل في أقل من ساعة ولاتبعد إلا عشرات قليلة من الكيلو مترات. وفيما يخص استخدامات الأخشاب ولوازم البناء والأدوات الأخرى فقد جلبوها من الهند وبريطانيا وبلدان عديدة أخرى ،حيث اتخم المستوردون الأسواق بها لتغطية حاجة عدن وحاجيات المناطق المحيطة بها.