احمد صالح الفقيه كانت صنعاء تفوح بطيب العود وعرف الند وإلى السحر الفتان جمعت كل فنون العشق ولطفاً ينبئ عن نبل المحتد. كانت صنعاء مجاول ريحان تجمع فيها الفل إلى الكاذي ونواراً مختلف الألوان. (1) اهتم المتنفذون في العالم كله تقريبا بحماية أنفسهم، وممتلكاتهم النفيسة، وأسباب قوتهم، فابتنوا الحصون والقلاع والأسوار، وفضلوا منها ما كان في قلة الجبل. والحصن لغة كل موضع محمى منيع، وهناك حصن السلاح وحصن الخيل وجمعها حصون وأحصان، ومنه قيل للمنيع حصينا وسميت المرأة العفيفة بالحصان، بفتح الحاء والصاد، فكأنما عفتها حصنها المنيع. وقبل للمرأة المتزوجة محصنة وحاصنا وحاصنة فحصنها عفتها وزوجها. وكذلك يقولون عن الرجل المتزوج محصنا فكأن زوجه تمنعه من الفجور والزنا. واختاروا للحصون من المواقع ما ارتفع عن السهل وفضلوا منها ما كان على قلة جبل، والقلة (بضم القاف واللام المشددة المفتوحة) من كل شي أعلاه، كما ابتنوا القلاع جمع قلعة، بفتح القاف واللام، وهي الحصن الممتنع في أعلى الجبل , واصلها اللغوي الحجارة الضخمة المقتلعة، فكأن القلعة حصن من الحجارة في أعلى الجبل. فان لم يجد وا قلعة بنوا بيوتهم متلاصقة في الموضع المرتفع لتصبح جدرانها كالسور للقلعة والحصن. والسور لغة: المنزلة الرفيعة، والقطعة المستقلة من القرآن الكريم. والتسور تسلق كل مرتفع يحتاج الصعود اليه تسلقه، فيقال تسور الحائط أي تسلقه، وكل حائط محيط سور، وموضع السوار من الزند يقال له المسور بضم الميم وفتح السين. وتشكل المدينة القلعة (شهارة) أعجوبة في هذا الباب من حيث منعتها وهي المحاطة بالاخاديد السحيقة، حتى أن المرء ليضطر الى تسلق واجهة صخرية لمجرد الوصول إلى بعض أبوابها والولوج منه. (2) كانت القلعة والحصن فيما مضى مكانا لسكني الحاكم وعائلته، توفر له الحماية والمنعة حيث يعيش محاطا بالخدم والحامية العسكرية، وكانت مرافق القلعة والحصن المختلفة توفر مخزونا كافيا من المواد للصمود أمام الحصار، وقد كان هذا هو الحال في كل مكان من هذا العالم حيثما وجدت القلاع والحصون. ولكن التغير في الوسائل العسكرية وظهور المدفعية والرشاشات غير من وظيفة القلعة ودورها من مكان يحتمي فيه الحاكم، إلى وسيلة للسيطرة العسكرية وأداة لحماية الحاكم حتى وان كان يسكن خارجها. فطالما أن القلعة تستمد أمرها من الحاكم، فإن مدفعيتها وأسلحتها الأخرى ستصيب مناوئيه أينما كانوا ضمن مدى هذه الاسلحة. فهكذا تمكن الإمام احمد يحيى حميد الدين من ضرب مناوئيه في وحدات الجيش المتركزة في مدينة تعز بمدافع قلعة القاهرة، وتبديد شمل القوات التي حاصرت قصره في صالة أثناء اضطرابات انقلاب 1955م. وقد روى ثوار 26سبتمبر أنهم لم يتمكنوا من الحصول على الذخائر لدبابتهم ومدافعهم إلا عندما حصلوا على أوامر بصرفها من العميد عبدالله السلال قائد الثورة ولكن بصفتة قائدا للحرس الملكي، ولولا ذلك لامتنعت عنهم الذخائر والتي كانت مخزنة في قلعة قصر السلاح والتي كان يحميها جنود الحرس الملكي، وهي القلعة التي تصفها العامة خطأ بأنها موقع قصرغمدان التاريخي. كما أن هذه الثورة كما في ثورة عام 1948 قبلها لم تكن لتنجح لولا انضمام حامية قلعة جبل نقم مع مدافعها إلى الثوار. (3) شهد اليمن فترات طويلة من الصراعات السياسية بين المتنفذين الساعين إلى السلطة، وقد أحوجهم انعدام الأمن الي اعتماد أنماط من المعمار تشبه الحصون، فالفلاحون الميسورون في القرى، وشيوخ القبائل، والميسورون من أهل المدن كلهم في ذلك سواء. ونموذج البيت الحصن أو البيت القلعة في السهل والجبل، سواء بني باللبن (الطين المجفف)، او بالطين والحجارة، نموذج منتشر كما في صنعاء وثلا والشبامين وكوكبان ومعبر وحضرموت وصعدة ويافع.. الخ. ويصدق عليه المثل الإنجليزي الذي يقول أن بيت الرجل قلعته. وهو أوضح مثل على الآثار السيكولوجية التي يخلفها انعدام الأمن على العمارة. والبيت القلعة هو بيت متعدد الطوابق، وقد خبرته شخصيا إذ أن منزلنا في القرية من نوعه، كما أني سكنت سنوات في واحد منها بصنعاء القديمة. ويتميز الطابق الأرضي من المنزل – القلعة بعرض مبالغ فيه للمداميك قد يصل إلى المترين. وغالبا ما يكون مبنيا بالحجارة. ويمتاز هذا الطابق بانعدام النوافذ فيه ماعدا فتحات صغيرة متباعدة لإطلاق النار تسمى مواشيق. وفي هذا الطابق تخزن مؤونه البيت من الوقود الذين قد يكون من الحطب أو أقراص من روث الحيوان المجفف، كما تكون فيه حظائر المواشي الهامة كالأثوار الضرورية للحرث، والأبقار التي توفر الحليب لأهل المنزل خاصة في الأرياف. وفي صنعاء يحرص أصحاب المنزل على إن تكون في أرضية هذا الطابق بئر يستخرج منها الماء لاستعمالات أصحاب المنزل، وهي كما نرى مهمة جدا في أحوال الحصار. ومن الواضح أن تعدد الطوابق يجعل المنزل أكثر حصانة ويسهل الدفاع عنه في وجه المهاجمين. بوابه المنزل تقع في هذا الطابق الأرضي وهي بوابة متينة من الخشب الصلب القوي وبسمك كبير، مدعمة بمفضلات من الحديد، ووصلات من الحديد والمسامير الغليظة السميكة والطويلة، تمسك بأجزائه وتثنى نهاياتها من الداخل لتثبت المسامير في مكانها. وفي الطابق الأرضي يكون الدرج المفضى إلى الأدوار العليا على يمين الداخل غالبا، وهذا الدرج يصعد لولبيا حول قطب المبنى. والقطب جدار صلب من الحجارة يرتكز عليه كامل البناء تماما كبيت المصعد في تصاميم بعض العمارات الحديثة خاصة ذات الهياكل الحديدية. وقد شاهدت عند إصابة بيت زهرة بجوار القصر الجمهوري بصنعاء بصاروح اسكود في حرب عام 1994، أن كامل البناء قد تهدم وتناثر أشلاء، بينما بقي القطب في مكانه شامخا لم يلحقه أي دمار أو خراب. ويخصص الطابق الأول من المبنى في معظم الأحيان لمخازن الحبوب التي تشغل غرفة أو أكثر، وهي عبارة عن أحواض منفصلة يبلغ ارتفاع كل منها المتر وثلث المتر تقريبا، حيث يخزن كل نوع من الحبوب وحده. واحيانا مايكون في بعض المنازل مدفن للحبوب أو أكثر عبارة عن حفرة منقورة في الصخر إن كان أساس المنزل صخريا او مبنية بالحجارة ومقضضة اي ملبسة بالملاط الصلب، وتعبأ إلى حافتها بالحبوب، وتغطى بإحكام، ويلبس حول الغطاء بالملاط لمنع نفاذ الهواء إلى المدفن حتى لا يعيش فيه السوس الذي من شأنه إفساد الحبوب المخزونة. ويكون المدفن إما في الطابق الأرضي أو الأول تبعا لطبيعته منقورا في صخر الأساس أو مبنيا. وفي هذا الطابق الأول توجد غرفة للطحن فيها الرحى الحجرية التي تدار باليد. كما يوجد فيه أو في الطابق الثاني المطبخ الذي يعد فيه الطعام، وغرف صغيرة بغرض الخزن وحفظ المؤن والأدوات. وغالبا ما تكون نوافذ هذا الطابق عبارة عن فتحات صغيرة، كما أن سمك جدران الطابق اقل من سمك جدران الطابق الأرضي وتكون غالبا مبنية بالحجارة. وفوق الطابق الأول يخصص طابقان أو أكثر للمعيشة والنوم خاصة وان معظم الأسر عبارة عن اسر ممتدة تتساكن فيها أجيال ثلاثة معا في غالب الأحيان. وطوابق المعيشة والنوم هذه مبنية من الياجور (الطوب المحروق) أو اللبن (الطوب النيء المجفف بأشعة الشمس. ويتناقص سمك جدرانها كلما صعدنا إلى الاعلى حتى يثبت عند بلوغه مايقرب من نصف المتر. كما ان نوافذ هذه الطوابق تتسع في مساحتها ويتكاثر عددها كلما اتجهنا إلى أعلى. ويثبت على بعض النوافذ مشربيات خشبية مزخرفة الصنعة بمربعات خشبية صغيرة وتقوم المشربية بدور الثلاجة في تبريد اكواز المياه، واوعية المهلبية، واطباق الشفوت وما يستحسن اكله باردا، بل ووقد تستخدم لتبريد اللحم النيئ احيانا. ولايتم فتح اي نوافذ في الجهة الشمالية من المبنى وتسمى الجهة القبلية نسبة الى القبلة، لانها مصدرالتيارات الهوائية الباردة الضارة، ويبدو ان الشمال لايأتي منه الا كل ضرر لليمن. ويقتصر على الجوانب الجنوبية والشرقية والغربية لفتح النوافذ، أما اذا كان المبنى ملاصقا لمبنين فان الفتحات تكون غالبا في الجهة الجنوبية التي تسمى بالجهة العدنية لان عدن تقع في الجنوب، ونظرا لميل مسار الشمس من الشرق الى الغرب مكونا قوسا ممتدا عبر الجنوب فان الغرف الجنوبية تغمرها اشعة الشمس اغلب النهار. يراعى في الطابق الذي يقع فيه المطبخ وفي الطابقين الذين يعلوان المطبخ تخفيض ابوب الغرف لمنع الدخان المتصاعد من التسرب اليها ويستعاض عن ذلك لدى الميسورين جدا بخفض مستوى الارضية مللمساحة التي تشغلهت الغرف مع الابقاء على الارتفاع العادي للابواب. كما يتم تنويع احجام الغرف فتكون هناك غرف صغيرة لاتزيد مساحتها عن ستة امتار مربعة تسمى الواحدة منها خلوة، لاستخامها ايام البرد الشديد سواء للجلوس او النوم. ومن التفاصيل المهمة في الغرف انه لايسمح بوجود فراغ بين الباب والارضية وذلك لمنع تسرب التيار البارد الى الغرف عند اغلاقها ، ولذلك تكون العتبة الخارجية (معقم الباب) مرتفعة عن مستوى ارضية الغرفة بحيث يستند الباب اليها عند اغلاقه، وهذا امر مهم لمنع الاصابة بامراض البرد. كان يتم تجميع الفضلات الآدمية الصلبة في غرفة تقع اسفل دورة المياة ويتم صب الرماد المتخلف من المواقد اليها، حتى اذا امتلأت اوكادت، يأتي لكسحها اصحاب الحمامات الساخنة (التركية) لاستخدامها كوقود بعد تجفيفها بالشمس، او اصحاب المزارع لاستخدامها كسماد، وهم الى قيامهم بكسحها ورفعها يدفعون ثمنها لصاحب البيت. أما المخلفات السائلة فانها تسرب عبر قناة مقضضة على طول الجدار الى العراء وغالبا في الجهة الشمالية حيث يجففها الهواء والشمس، خاصة وان استخدام المياه كان رشيدا جدا قبل ادخال شبكات المياه الحاثة على الاسراف في استخدام المياه. ثم يأتي المفرج كأعلى غرف البناء في الدور التالي والذي هو عبارة عن غرفة الجلوس الرئيسية التي يستقبل فيها الضيوف وتتميز بزخارفها، واتساعها، واتساع نوافذها، وإطلالتها المميزة على المعالم المقابلة. وفي الأخير تأتي الذروة أو التجواب وهي أعلى البناء حيث يحيط يسقف المبنى سور منخفض تعلوه عقود متسعة نسبيا. ويستخدم هذا السطح لتجفيف الملابس وغسل الفرش والملابس أيضا، كما يعتبر مساحة لتتسم الهواء والتمتع بأشعة الشمس للنساء اللواتي لا يخرجن من المنزل إلا في فترات متباعدة عادة. ولا تختلف بيوت المشايخ واثرياء الفلاحين في الارياف كثيرا عن مباني صنعاء من حيث مخططها العام وان اختلفت من حيث الجودة الفنية اما الفقراء فيسكنون غرفة واحدة مبنية من كسور الحجارة اوالطين، تتراوح مساحتها بين ثلاثة امتار عرضا وبين الستة والعشرة امتار طولا تسمى مرواه. وهي غرفة بلا نوافذ إلا من كوى على السطح توضع فيها جرة مكسورة القعر ينفذ منها الضوء ، ويواجه باب الغرفة الذي يقع في احد طرفيها مصطبة مرتفعة عن ارضية الغرفة بمساحة مترين في ثلاثة تسمى دكة، وتستخدم لنوم افراد الاسرة وجلوسهم وتناول الطعام عليها. اما بقية الغرفة فتشحن بالعلف وما يتوفر من محاصيل. وغالبا ماتوجد غرفة في الخارج للبقرة والثور. وهي الاكواخ التي وصفها الصوفي العظيم احمد بن علوان عندما خاطب الملك بقوله: عار عليك عمارات مشيدة وللرعية اكواخ كلها دمن (4) استغنى سكان صنعاء القديمة عن الأسوار بالحماية اللصيقة التي توفرها المنازل المتلاصقة المتساندة، والتي يمكن أن تشكل أسطحها عند الحاجة شوارع علوية ممتدة تتجاوز فردانية كل بيت، وذلك حادث بشكل مستمرفي شبام حضرموت، واكتفوا بسور المدينة المحيط بها بأبوابه السبعة، وبشوارع المدينة الضيقة التي تمكن، من الناحية النظرية، سكان المنازل من الإضرار بالمهاجمين الذين يتسللون إليها عن طريق القاء المواد الحارقة كالمياه المغلية وكذا المواد الصلبة كالحجارة عليهم. وقد امتاز تخطيط مدينة صنعاء بتوفر مساحة مزروعة يقع الجامع الخاص بالحارة على احد أطرافها، وحيث يوفر البئر الذي يتم استخراج المياه منه (بالمسنى أو المرنع) الذي يجره الحيوان ليصب الماء في بركة الجامع، ثم يتم إرسال ما تم استخدامه في الاغتسال والوضوء إلى المساحة المزروعة لأغراض الري. وكانت هذه المساحة توفر الخضروات التي يحتاج إليها سكان المنازل، في الحي أو الحارة، طازجة من المزرعة يوميا. وروعي في هندسة المزرعة انخفاض منسوبها عن الجامع والبئر لتسهيل نزع مياه البئر. أما أسوار المنزل الفردية فقط كامت مقصورة على قصور أفراد العائلة المالكة ومنازل بعض المتنفذين والمواطنين الذي ابتنوا لهم منازل خارج كتلة صنعاء الأساسية، وذلك في احياء البونية ويئر العزب، وان كانت هذه الأحياء لا تزال ضمن سور صنعاء الكبير. كان حي اليهود في القاع المسمى قاع اليهود (قاع العلفي حاليا). وأهله يسكنون في منازل اغلبها من طابقين، وهي منازل تقع في حي شوارعه غابة في الضيق، ومساكنه متساندة متلاصقة كما في صنعاء القديمة. وقد سكنت في أحد بيوت اليهود القديمة في هذا الحي منذ عقود، وكان طابقه الأرضي يشبه في تصميمه الطوابق الأرضية للمساكن المتعددة الطوابق في صنعاء القديمة، ولكن الطابق الأول في المنزل به عدد من الغرف السرية ذات المداخل الغريبة، واذكر أن احدها كان يتم الوصول إليه عبر الجدار الجانبي للمغفر (جزء متراجع من الجدار ذي ارفف) وغرفة أخرى كان مدخلها مخفيا في أرضية غرفة تعلوها وهلم جرا. وهو ما يطرح بوضوح المخاوف الأمنية التي كانت هاجس سكان صنعاء مسلمين ويهودأ، وتأثير هذه الهواجس على النمط المعماري. كانت صنعاء بستاناً داخل بستان.. ورياضاً وجنان.. تمتد من الروضة حتى عطان.ِ وكالغوطة من جلق كانت حدة من صنعاء. وكما بردى كان الغيل الأسود ويطل القصر على بستان السلطان. رباه!! ماذا حل بصنعاء؟.. زرعوا بدل الأشجار، أبنية كالحة الأحجار وجوه مغبرة.. وعيون مصفرة.. ومحاجر جوعى لنساء وصغار.. وقصور نبتت كالفطر بين ركام الأقذار. رباه! ما هذا السمت الكابي؟ احجار وغبار وجنابي!