مثل أي مواطن عربي، أجدني في حالة ذهول مطلق، فالمشهد الفلسطيني يبدو أكثر سوداوية من أي وقتٍ مضى، وما يحدث من اقتتال وعنف دموي بين الفصائل الفلسطينية، عقد لساني تماماً، حيث لا أجد جواباً مقنعاً لسؤال بادرني به شيخ طاعن في السن ويجلس كل صباح أمام باب منزله حاملاً جهاز الراديو، ومعتاداً على سماع »صوت العرب من القاهرة« أو إذاعة لندن منذ سنين طويلة، وكثيراً ما يحرص على أن يظهر قدراته الفذة في الاستماع وتحليل المواقف والأحداث، لاسيما إذا تعلق الأمر بصدام حسين المعلق صباح عيد الأضحى أو جمال عبدالناصر الذي مات في أيلول الأسود عقب رأب الصدع بين الأردنيين والفلسطينيين، والذين أذهلوا العالم في معركة حاسمة ذهب ضحيتها قرابة عشرين ألف مواطن عربي في غضون ثلاثة أيام فقط. أما ما يحدث اليوم بين »حماس وفتح«، فيختلف الوضع كثيراً، فالشيخ الجليل، لم يعد يدرك شيئاً، ولا يعرف تماماً ماذا يحدث؟!. الراديكاليون في حماس أشهروا الأسلحة، وأمعنوا في القتل والسحل، والليبراليون والعلمانيون في فتح، بادروا إلى تصفية الخصوم بالهوية، واستخدموا أقذر وسائل الإبادة التي لم تستخدم ضد اليهود منذ 1948م. أهؤلاء هم من نعتقد أنهم يحملون هم القضية المركزية للعرب «تحرير فلسطين»؟! أهؤلاء هم الأمناء على بيت المقدس وكنيسة القيامة، وقبة الصخرة؟!!. أهؤلاء هم درعنا المفاوض في قضية المبعدين واللاجئين والأسرى في سجون الاحتلال؟!!. أهؤلاء هم وجهنا المشرف، أمام عدو، يتهيأ اليوم، لتنصيب »ايهود باراك« عدونا الألد، وخصمنا العنيد »أرأيتم كيف يختلفون على كل شيء، ويتفقون على كراهية العرب والمسلمين«؟!! حين يصبح الدم العربي بارداً إلى هذا الحد، والإنسان الفلسطيني حائراً، متبلداً أمام هذا الإسفاف والابتذال والهوان.. ما هي الصورة الواضحة التي نستطيع أن نقدمها لجيل عربي يرقب هذا التحول المذهل في المواقف، حيث يقتتل الاخوة في شوارع غزة، وتشهر الأسلحة ضد بعضهم في أحلك الظروف؟!. تحدثت في الاسبوع الماضي عن شرف الخنازير، وهي مفارقة عجيبة إذ أنساق تلقائياً للحديث عن الشرف العربي المباح في الضفة الغربية وقطاع غزة، والحديث طويل، والموقف السياسي لهذه الأنظمة العربية الهزيلة، يؤكد لنا «بما لا يدع مجالاً للشك» أنها لم تعد قادرة على فعل شيء، بل إنها تقف عاجزة حتى عن عقد اجتماع فوري وطارئ لحقن الدم الفلسطيني، في مرحلة ستكتب عنها الأجيال أنها أسوأ مراحل التاريخ العربي »فظاعة، وحقارة، وتخاذلاً، وضعفاً وطيشاً، ومغامرة«!!. ولا نملك القدرة على تصريف أقدارنا، لكنني شخصياً أعترف وللمرة الألف، أنني ما تمنيت أن أولد في هذا الزمن الرخيص والتافه والوضيع. ينبغي علينا أن نرد للتاريخ اعتباره، فلا نتحدث عن مرحلة ضعف الدولة الاسلامية، أو عصر الانحطاط الثقافي، أو تاريخ النكسة أو النكبة، فما يحدث اليوم هو اختزال لكل المفردات البشعة والتي ستجعل هاماتنا في الوحل، وشرفنا في الحضيض لعقود طويلة!. أن يتقاتل الفلسطينيون، أمر عادي بالنسبة لكثير من شعوب العالم، لكنه خذلان لأحلامنا، وأحلام أطفالنا، في الصورة المثالية التي كنا نسردها لهم طوال ستين عاماً من الخيبات.. في الأناشيد الوطنية وحكايات المقاومة والبطولة والتضحيات، هل يرضى أحدكم أن يصبح في حالة عري كامل أمام تاريخه؟!. هذا هو واقع الحال، لم يتركوا لنا شيئاً نفخر به »أبو مازن، اسماعيل هنية، صائب عريقات، ... إلخ«. أشخاص فقط لملء فراغ المرحلة، ولسداد فاتورة الوقت الضائع من زمن فلسطين. الشيخ الذي أقابله في طريقي كل صباح يحمل المذياع، ويحلل المواقف، ويقرأ الأحداث.. آخر سنة علامة الاستفهام الكبيرة التي برزت في فلسطين، سألته بالأمس عن آخر تطورات الوضع. رمقني بنظرته الملفوفة بالصمت، ولسان حاله يقول: «شيء كبير، وحلم قديم، تكسر في أعماقي» أنا متعب للغاية، لا أريد الحديث عن شيء!.