هاهو «الفضول» يطل مجدداً من قلب كل عاشق للمجد والحب والوطن والوحدة.. لقد عاد في صمت يداعب أوتار المعنى الصادق والكلمة المعبرة والاحساس الخالص. إنها عودة الغائب الحاضر الذي ما برح يملأ الحياة شعراً عاطفياً ينبض بالروعة والدهشة.. شعراً مضيئاً يحمل بصمة إنسان عشق الحياة في ظل الفكاهة واختار فيها الحب ليكون عنوان الشعور الصادق وسفير الرؤية الواضحة.. وعشق الوطن فأنفق حياته حاملاً همومه وأوجاعه لاسيما وحدته التي جعلها خلاصة نبوءته حين كان يصنعها شعراً عذباً تقطر منه أحلام كلها سلام وقوة.. محبة وألفة. 25 عاماً على وفاة «الفضول» وعلى الرغم من شهرته وانتشار إبداعه بين الناس وفي كل موقف، لكنه لم يوف حقه من الدراسة والتحليل ، بل انه لم يجد باحثاً أو دارساً يتناوله في رسالة جامعية.. ونحن نتساءل : أليس الفضول بهذا الاتجاه العاطفي الذي اختطه لنفسه كان يمثل دوراً يكافئ دور محمد عبده غانم في عدن وإبراهيم ناجي في مصر، ثم ان الفضول قد اختار اللغة العامية التي تميز بها عنهما للتعبير عن مشاعره وعواطفه التي كان يدرك إن العامية هي أقرب طريق ستوصلها لمن يخاطب، فجمهوره واسع وشعره ملامس لحياة الناس وشعورهم، ولذلك رجع إلى العامية رجوع المقتدر كما فعل بعض شعراء هذا الاتجاه في مصر، ولذلك أيضاً من يقرأ في شعره الفصيح سيدرك مدى القدرة الفنية والشعرية التي كان يتمتع بها، وما قصيدة «رددي أيتها الدنيا نشيدي» إلا أبرز دليل على ذلك. 25 عاماً على وفاة الفضول ولا زالت ثمة أسئلة تستفز الناقد ومؤرخ الأدب: لماذا لم يكن الشاعر الفضول يهتم بإخراج شعره عامياً أو فصيحاً في دواوين تجمع شتاته الموزع بين الصحف وألسنة الجلساء وأغاني الفنانين؟ ولماذا كان يميل إلى كتابة شعره العمودي بطريقة الشعر الحديث «السطر الشعري»؟ ولسنا هنا معنيين بالبحث عن الأسباب التي تقف خلف هذا الاحجام أو ذلك الإقدام بقدر ما نريد التأكيد على أن شعره منذ وفاته في بداية الثمانينيات من القرن الماضي ظل قصائد متناثرة أدرك بعضها الضياع وبعضها التحريف حتى وجدت بعض المحاولات الجيدة التي حاولت بقصد أو بدون قصد لملمة هذه الأشعار وضم بعضها إلى بعض وكان أبرز هذه المحاولات هي: 1 كتاب «أغاني أيوب طارش» الذي صدر عن دار الفكر عام 1974م حاوياً جميع الأعمال الغنائية التي عملها أيوب حتى آنذاك وكان النصيب الأوفر من تلك القصائد للشاعر عبدالله عبدالوهاب نعمان، بيد أن هذه المحاولة ظلت قاصرة في هذا المضمار كونها لم تشتمل إلا على نزر يسير من شعره. علاوة علي ذلك كثير من أشعار الفضول بدت في هذا الكتاب ناقصة ومجتزأة بسبب الحذف الذي كان يحدثه أيوب ومعرفة الفضول بذلك في بعض المقاطع التي لا تتناسب مع الألحان. ومن جهة أخرى فإن تلك القصائد اجتهد أيوب في تقطيع بعضها اجتهاداً ولذلك أخفق في إعطائها الشكل المناسب الذي يفترضه البحر الذي تنتمي إليه القصيدة. 2 (ديوان الفيروزة) وهو عبارة عن ثلاث عشرة قصيدة من الشعر الفصيح نشرها أحد أبناء الشاعر تحت هذا المسمى وهو اسم للقصيدة الأولى في الديوان، فهذه المحاولة وان كانت جهداً أولياً وعملاً بناءً إلا أنها ظلت عاجزة عن اطلاع القارئ على ثراء نتاج الفضول الشعري كونها لم تشتمل إلا على نزر يسير من الشعر الفصيح فحسب. 3 وكانت المحاولة الثالثة هي كتاب «الظمأ العاطفي في أشعار الفضول وألحان أيوب» (1) لمؤلفه محيي الدين علي سعيد حيث جاء هذا الكتاب في سبعة عشر باباً جميعها يدور حول الفضول وشعره وعلاقته الفنية بأيوب طارش ، وأثناء ذلك بث المؤلف قصائد ومقطوعات فصيحة وعامية للشاعر إضافة إلى وضعه ملحقاً خاصاً استكمل فيه القصائد التي لم تدخل في نطاق الدراسة والتي زعم أنها كانت مجهولة حصل عليها من مصادر متعددة «2» والكتاب في مجمله خطوة جريئة اطلعت القارئ على كثير من شعر الفضول وأوردت التفاصيل التي تتعلق به وحازت قصب السبق في تناول معظم تلك الأشعار بالدراسة والتحليل غير أنني قد سجلت بعض الملاحظات حول هذا الكتاب التي لا ينبغي اغفالها في سياق هذه الإطلالة: أ لم يتمكن المؤلف من استعادة بعض المقاطع المحذوفة من بعض القصائد وأرجع السبب في ذلك إلى أن أيوب وهو واحد من مصادر شعر الفضول كان قد حذفها لأسباب خاصة (3) وأخرى فنية(4). وزعم أيضاً أن الذي أثبته في الكتاب هو ما استطاع الحصول عليه(5) ولذا يمكن القول أن جزءاً كبيراً من قصائد الشاعر قد فقد منها بعض المقاطع. ب بعض القصائد لم يوفق المؤلف في توزيع شطراتها التوزيع المتناسب مع الوزن والقافية ولتوضيح ذلك نضرب المثالين التاليين: «قصيدة قلبي يسائلني» قصيدة من ذوات الشطر الواحد يعتبرها في أغلب مقاطعها قصيدة عمودية «من ذوات الشطرين وهوالأمر الذي يخرجها عن نظامها الايقاعي الصحيح، انظر إلى هذا المقطع: مدريش كيف قلبك رضي يروى وقلبي ما رضيش أشرب وأشرب من هوى غيرك ولكن ما ارتويش والضوء في عيني إذا غيبت وجهك مايضيش خليتني ألقى وجوه الفجر أعشى ما استضيش واحرقت أعشاشي وأرياشي ولا خليت ريش فارجع إلى أحضان أيامي وخليني أعيش(6) ولا يخفى هنا قضية تحول بحر الرجز 3*3 إلى 4*4 وهو أمر غير مقبول إيقاعياً حتى على مستوى التجديد الإيقاعي في العصور المتأخرة.(7) «حسنك لعب بالعقول» قصيدة جارية على وزن المجتث 2*2 لكنه يجعل الضرب عروضاً على هذا الشكل: حسنك لعب بالعقول وانا مروح ضحيه عنك حديثي يطول فاسمع حديثي شويه (8) أي أنه يجعله 4*4 وهذا البحر لا يكون أبداً على هذا الوزن(9)ولم تشفع لها القافية في آخر الشطر الأول ، ولعل ذلك نتيجة لاعتماده على مصادر جهلت ذلك من جهة، وتقصيره هو في تمحيص المنقول من جهة أخرى. وقد يرد أحد على هذا بأن الفضول نفسه لم يكن مهتماً بترتيب قصائده وكان غالباً ما يكتبها على طريقة شعر التفعيلة بدليل ما ذكره ناشر ديوان الفيروزة من أنه أثبت قصائد الديوان بالطريقة التي وجدها عليها بخط الشاعر وعلل ذلك بأن تلك الطريقة هي طريقة فن الإلقاء(9) لكن ذلك لا يعفيه من المسئولية ما دام قد نقلها بالطريقة الشطرية ثم رده على ناشر الديوان بقوله: «لا ندري كيف جزم الناشر بذلك لأن الشعر لم يكتب من قبل أبداً بطريقة الإلقاء مادام قد تضمن شروط الشعر العمودي والموزون والمشطور المقفى.. والديوان كله شعر عمودي موزون ومقفى، وبناء على هذا نؤكد بأن كتابة الفضول لشعره بتلك الطريقة وهو قد نظمه وأكثر من تنقيحه وبدليل عدم نشره لتلك القصائد من قبل وإنما اكتفى بقراءتها على أصحابه أنه كتبه بطريقة الأداء الغنائي أو الإلقاء الغنائي أو المزاج الغنائي»(10). ج عقد المؤلف باباً للحديث عن الأوزان الشعرية وعلاقتها بالحالة النفسية للشاعر وهو الباب السادس عشر «موجة البحور وصدق الشعور» (11) واذا كان قد زعم في نهاية هذا الباب انه لم يتسن له إكمال هذا الموضوع لأسباب لم يذكرها(12) إلا أن ما جاء به لا يخلو من السقطات التي تكشف محدودية معرفته بالأوزان الشعرية وكيفية التقطيع المناسب لكل قصيدة، فهو يورد على سبيل الاستشهاد قصيدة «الله أكبر يا بلادي كبري» على أنها من بحر الرمل(13) في حيث أنها جارية على وزن الكامل ويعتبر أيضاً قصيدة «أخي جاوز الظالمون المدى» لعلي محمود طه من بحر الرمل(14) كالسابقة في حيث أنها جارية على وزن المتقارب. وفي باب «الظمأ العاطفي» نجد قصيدة الشاعر «حسنك لعب بالعقول» منسوبة إلى منهوك المتقارب(15) مع أنها في الحقيقة جارية على وزن المجتث، ومهما يكن من أمر هذا الكتاب فإن الواقع ينطق بأن صاحبه قد أنفق فيه جهداً كبيراً وسخر ما لديه من طاقة لخدمة تلك التجربة الأصلية الفريدة وهاهو مورداً عذباً يرده القارئ متى ما أراد الدخول إلى عالم عبدالله عبدالوهاب نعمان. ----- (1) عنوان الكتاب هو الباب الرابع من أبوابه ص95 (2) الظمأ العاطفي، ص 193،492 (3) نفسه : ص 190 (4) نفسه : ص 145 ، 122 ، 182 ، 192 ، 51 (5) نفسه : ص 52 ، 53 ، 134 ، 115 (6) نفسه : ص 121 ، 122 (7) عبده الرضا علي «موسيقى الشعر العربي قديمه وحديثه» مطبعة جامعة الموصل ص 53 (8) الظمأ العاطفي : ص 144 (9) موسيقى الشعر العربي : ص 153 (10) الظمأ العاطفي : ص 217 (11) نفسه ص 428 وما بعدها (12) نفسه: ص 440 (13) نفسه: ص434 (14) نفسه : ص 434 (15) نفسه : ص 145 محاولات جمع شعر الفضول مابيننا .. عبدالرحمن غيلان بيني وبينك أحرف ومشاعر ومفاتن لو أسلمتنا ليلها لبكا نهار يسبق النشوى لليل ما تخاذل كالصباح. بيني وبينك كل أحلام المنى ، طير يرف وشدوه سكن النفوس ، وروضة فاحت مباهجها تراتيلاً تضمد ما تناثر من جراح. الليل كم يحكي وقد سكنت تعاويذ المتاهة في معارجه يلملم ما تبعثر في أواني البوح من قبلاتها وبما تعرّى من نواح. والعمر يمضي والفتى يتلو صبابته على كتف الليالي يمضغ العبرات والبلوى تحوط بمعصم الذكرى فمعبدها بواح. يامن تسل عن حلمنا المبتور من ربع الأجنة تسبق الآتي من الفجر الندي ، تعاقر النجوى الخبيئة في فنار الغيم ، تستجدي تعاويذ الأقاح. لا تأمن العصفور يشدو رنّة الأحلام ، والغابات ملئ بالنبال ، وجوفه عطش يحنُّ لساقي الآمال ينهش ما تبقى في البطاح. كنا مع الرمن الردئ ملائكاً في طهرنا نغفو فيسكرنا رنين البوح في صلوات مرسانا ونصحو كالأسنة والرماح. تسري بنا روح التشهي للذي هو خالد أبداً وسحر بقائه نبض يراود حلمنا عن نفسه يتلو ارتعاشتنا عصافيراً تزقزق للصباح.