رقيب داخلي منذُ الصباح وهو يجلسُ أمامَ طاولتهِ فكّرَ أنْ يكتبَ عن ياسمين الحدائق فتذكّرَ أعوادَ المشانق فكّرَ أنْ يكتبَ عن موسيقى النهر فتذكّرَ أشجارَ الفقراء التي أيبسها الحرمان فكّرَ أنْ يكتبَ عن قرنفلِ المرأةِ العابقِ في دمه فتذكّرَ صفيرَ القطاراتِ التي رحلتْ بأصدقائِهِ إلى المنافي فكّرَ أنْ يكتبَ عن ذكرياته المتسكّعةِ تحت نثيثِ المطر فتذكّرَ صريرَ المجنزراتِ التي كانتْ تمشطُ شوارعَ طفولته فكّرَ أنْ يكتبَ عن الهزائم فتذكّرَ نياشينَ العقداءِ اللامعةَ على شاشاتِ الوطن فكّرَ أنْ يكتبَ عن الانتصارات فتصاعدَ في رأسهِ نحيبُ الأرامل ممتزجاً برفاتِ الجنودِ المنسيين هناك في آخرةِ الليل وَجَدَ سلةَ مهملاتِهِ مملوءةً وورقتَهُ فارغةً بيضاء بياض الرقيبُ الذي في الكتابْ ظلَّ يلتهمُ الكلماتِ السطورَ الحروفَ الفوارزَ حتى تكرّشَ من كثرة الصفحات وغابْ إلهي…… ما الذي سوف أفعلهُ ببياضٍ كهذا البياضُ حجابْ حيرة قال أبي: لا تقصصْ رؤياكَ على أحدٍ فالشارعُ ملغومٌ بالآذانْ كلُّ أذنٍ يربطها سلكٌ سرّيٌ بالأخرى حتى تصلَ السلطانْ تأويل يملونني سطوراً ويبوبونني فصولاً ثم يفهرسونني ويطبعونني كاملاً ويوزعونني على المكتباتِ ويشتمونني في الجرائدِ وأنا لمْ أفتحْ فمي بعد لا وقت للترويج والاحتيال والشعب فارس بعد فارس يا قافلة لا تسمعي قيل قال ولا يجيبوا لش وساوس ذي يزعمون أنهم أشاوس فضال وسعرهم سعر المكانس يا قافلة عدي صبوح العيال ونظمي صبح المدارس لا تسألي عما بسطح الهلال مادام عاد الجو عاكس ( محاصيل القدر ، ط1 ، 2003 )