على مدار العام ومئات اليمنيين يغادرون مطاراتنا يومياً صوب القاهرة وخاصة مع بداية إجازة الصيف، حيث يتدفق مرضانا إلى موسم الحج الأكبر صوب مستشفيات القاهرة، لرخص العلاج مقارنة بدول أخرى كالأردن، ولامكانية استغلال الرحلة بشيء من الغرض السياحي.. وقد كان كاتب السطور واحداً من هؤلاء، لكن هدف صحفي هو ثالث أهداف الرحلة، وهذا الاستطلاع هو أول حصيلة المهمة التي سأنقل فيها ما رأيت وماسمعت بهذا الشأن، والانطباعات والمقارنات المتصلة بالسياحة في أرض الكنانة والقلوب الطيبة والنفوس المريضة، وربما تناولت بعض الهرطقات الوجدانية العفوية عن كائنات وعوالم ومحطات عجيبة. «اليمنية» مزاحها ثقيل تعثر سفري من مطار تعز إلى القاهرة فسافرت إلى صنعاء، لأنطلق من مطارها، وفي اليوم السالف للمغادرة تلقيت اتصالاً هاتفياً وأنا في سمارة من إحدى موظفات الخطوط اليمنية للتأكد من استعدادي للسفر كما هو معمول به ولحسن حظي أن برنامج تسجيل المكالمات كان مفعلاً في هاتفي الجوال، فسجلت المكالمة، وفي صباح اليوم التالي كنت في مطار صنعاء، سلمت التذاكر والجوازات الخاصة بي وبأسرتي لموظف اليمنية لأرمي بحقائبي وأضمن صعود الطائرة، قلب الرجل أوراقي وأرسل عينيه إلى الحاسوب وقال لي: أنت مؤكد على واحد فقط وأنتم أربعة، قلت له: مستحيل.. وأشهرت له التأكيدات الأربعة فقال: لكنها ليست في الكمبيوتر ربما أنك ألغيت التأكيد، اذهب إلى ذلك المدير وشوفلك حلاً، ذهبت إلى المدير فإذا بالأمر يزداد سوءاً، عندما أضاف بأن تذاكر الاقامة لعام كامل لذا ينبغي أن أدفع الفارق على حد زعمه على التذكرة «11» ألف ريال، بالطبع جن جنوني لعلمي أن تذاكري «صرف» وليست خاضعة لمثل هذه الألاعيب، تمالكت أعصابي وأسمعت المدير الموقر تلك المكالمة الهاتفية التي احتفظ بها جوالي بصوت إحدى موظفات اليمنية، وأخبرته أن مثل هذه الاختراعات التي يفاجئون بها المسافرين ينبغي أن تكون قبل وصول المرء إلى المطار، وزدت عليه بأني سأتصل بفلان وعلان.. وبعد هذا اقتنع المدير ووقع على التأكيدات ولوح لذلك الموظف بأن يكمل الإجراءات، وبرغم صعودي إلى الطائرة بسلام إلا أن مزاح اليمنية الثقيل «اطفحني» خاصة بعد الاقلاع.. كيف؟.. سأقول لكم: بعد أن تفاجأت وسعدت بخلو اثنين من المقاعد بجانبي، استعرت عنق الزرافة وتركت عيني تطوف فوق المقاعد الخالية، فوجدتها تربو على العشرين مقعداً، تساءلت: من المستفيد من وضع عراقيل السفر في الخطوط اليمنية على ذلك النحو الذي طالني أنا والعشرات غيري طالما والمقاعد مازال فيها متسع؟!.. في الدقي.. يمن صغير هبطنا بسلام على مطار القاهرة الجديد خرجنا من المطار وبانت الوجوه المختفية تحت اللثام الأسود بمجرد وصولنا إلى صحن مطار القاهرة، وعلى غير الخط الذي اعتاده سائقو التاكسيات للواصلين من اليمن «خط المطار الدقي» أوصلني أحدهم إلى منشية البكري بمصر الجديدة حيث ينتظرني سكن مجاني لصديق يقضي إجازته في تعز، جو التاكس خانق وهواء منتصف يونيو في القاهرة يهاجمنا من النافذة ساخناً، وفي ناحية أخرى وإن كانت الاتهامات تشير إلى إهمال ولامبالاة الملحقية الصحية لبلادنا في القاهرة في تقديم العون والارشاد لمرضانا، فإنني أرى أن المرضى الواصلين إلى مصر لايضعون في برنامجهم زيارة الملحقية الصحية هناك لتلقي النصح على الأقل، ناهيك عما يمكن أن تقدمه الملحقية الصحية من مذكرات إذا لزم الأمر للجانب المصري خاصة في ضوء الاتفاقيات والبروتوكولات الموقعة بهذا الشأن بين البلدين، وأعود لأستشهد بأن كاتب السطور هو من ضمن هؤلاء الذين يتجاهلون زيارة الملحقية الصحية، ففي الواقع أن غالبيتنا لايعزم السفر إلى القاهرة للعلاج إلا في ثلاث.. إما مع مرافق قد زارها من قبل أو باستضافة مقيم هناك أو بالتوكل على الله وهؤلاء هم من يقعون عادة في شرك النصابين لامن المصريين فحسب بل من بعض طلابنا المقيمين هناك الذين اعتادوا اصطياد فرائسهم من بين العجزة ومرافقيهم من النساء منذ الوهلة الأولى للوصول إلى مطار القاهرة، يبدأ الاحتيال عليهم بالبحث عن شقة مفروشة. حادثة نصب وبمناسبة ذكر النصب والاحتيال فدعوني اختصر حادثة شاهدتها في الأسبوع الأول من وصولي وأنا أزور قريباً لي في الدقي، بينما الحاج «...» من أبناء منطقة العدين طريح الفراش في شقته التي استأجرها في الدقي لفترة العلاج، مع بناته الثلاث اللاتي سافرن لمرافقته، خرجن الثلاث لشراء حاجيات من أسواق الدقي، وفي حقيبة الأخت الكبيرة مبلغ خمسة آلاف دولار هو كل مالديهن لعلاج الأب في القاهرة، الحقيبة فتحت بموس أحد النشالين البارعين بدون أن تشعر صاحبة الحقيبة، النشال اختفى بين الزحام واختفى عن الأنظار والناس أحاطوا بالأخوات الباكيات من هول الكارثة، صعب الجميع على حالهن من يمنيين ومصريين، إلى أن أقبل رجل إماراتي من أصل يمني يبدو عليه الثراء حصلت المعجزة، بدأ يسأل عن تفاصيل ماحدث ثم أعطى إحداهن كرته الخاص قائلاً: هذا كرتي وبكرة إن شاء الله يقدرني لتقديم المساعدة، تفرقنا جميعاً وبقيت أتابع أخبار تلك الأخوات، فإذا بالرجل في اليوم الثاني مباشرة يرسل على عنوانهن بشيك يحمل «5000» دولار كما أبدى استعداده لتحويل مبلغ مماثل في رحلة العودة القادمة.. في الواقع رفض الرجل أن يشير أحد لاسمه كي لايمحق صدقته. سائق التاكس كثيرون هم من حذروني من غدر سائقي التاكس في القاهرة لكن السائق محمد بدّد كل مخاوفي وغيّر تلك النظرة القاتمة التي رسمتها في مخيلتي حيال سائقي التاكس، كنت محظوظاً عندما تلقفتني سيارته المتواضعة منذ اليوم الثاني لوصولي القاهرة، وبعد تعارف قال لي بأن والده صعيدي من أسوان ووالدته فلاحة، وجهه شاحب تماماً كغالبيتنا من اليمنيين، كما اعتاد إطلاق لحيته وشاربه المبعثر، كان لي أفضل من أي دليل سياحي وأظرف من أي صديق مرح يبادلني النكات والحوار عن أوضاع المعيشة والسياسة والطقس كذلك، ويكشف لي صفحات لم أكن لأطالعها عن عاداتهم القروية والصعيدية. قلعة القاهرة يوم يمضي بنا محمد إلى قلعة القاهرة ويتركنا لنعيش لحظات انبهار تحت قباب جامع محمد علي باشا وجامع صلاح الدين والمتحف الحربي المختزل لحركة النضال المصري ومراحل الكفاح والتطور العسكري وأفراح الانتصارات وذكريات الهزيمة العربية، ولشد ما أعجبني كيف يخلد المصريون تاريخ أسلافهم من القادة والأبطال والرؤساء والملوك أيضاً، لاضيم لراحل ولاتجاهل له كيفما كان أو صنع إنه توجه رسمي وشعبي متعاضد لتجسيد تاريخ مصر أم الدنيا لتتضح الرؤية بأمانة مطلقة لأبنائها وسياحها، ولشد ما أدهشني في القلعة تلك النقوش والزخارف والخطوط المنحوتة من الرخام الصلب في جامع محمد علي باشا قبل قرنين، لاتضاهيه إلا تلك النقوش المكسية لمسلة الملكة حتشبسوت في معبد الكرنك بالأقصر، كل شيء يوحي بالإعجاب في القلعة ومتحفها ومسجديها، عدا التعامل المشين لمحلي التصوير الفوتغرافي في القلعة وسلوكهم الماكر والمستغل للعرب والأجانب، مثلاً تستسلم أنت ومن معك لإلحاحهم بضرورة التقاط صورة في الزي الفرعوني أو العثماني ويرفضون التقاطك صور بكاميرتك الديجاتل فإذا بلقطات الفلاش تنهال عليك بغرض زيادة عدد الصور، وهنا يكون المقلب الأول أما المقلب الأكثر خساسة فيأتي بعد طبع الصور بنصف ساعة وأخذك للصور ومن بينها العائلية الشبيهة ببعض كرهاً بدون نجتف الجيزة في يوم آخر أخذنا تاكس محمد إلى منطقة الأهرامات في الجيزة واتفق مسبقاً مع أحد سائسي الحناطير بأن أدفع له مائة جنيه لمدة ساعتين، صعدنا العربة والسائس أمامي يسبقني بالاجابات عن كل ما أزمع سؤاله، أذكر أن اسمه سيد عبدالسميع وخمس وأربعون عاماً هو سنه، قال بأن الخيل وهذه العربة الجميلة ليست ملكاً له بل للمعلم امبابي الذي يمتلك اسطبلاً فيه عدد كبير من الخيول والجمال، ومضى متولي يشرح ماحفظه عبر الأيام والسنين المتتالية عن أهرامات خوفو وخفرع ومنقرع، وأنواع وألوان ومقاسات أحجارها العملاقة التي يتراوح وزن الحجر الواحد مابين 2 3 أطنان وكيف أمضى الفراعنة عشر سنوات في نقلها من جبل المقطم بالقاهرة وجبل أسوان كما استغرق بناء الاهرامات عشرين عاماً وكيف اعتمد البناؤون على ضغط الهواء فقط في التصاق الأحجار فيما بينها،حديث سيد سرحت بعيداً إلى النظرية التي دحض بها صديقنا عبدالسلام الشعيبي أعجوبة نقل ورص أحجار الاهرامات من مكان بعيد عندما أثارت استنتاجاته في العام 6991 استياء الجانب المصري عندما زعم أن أحجار الاهرامات ماهي إلا من صنع قوالب الفراعنة صُبت في أماكنها. أفقت من سرحاني عندما عرج بنا الحنطور على «أبو الهول» واعترض باعة التماثيل الصغيرة طريقنا ملقين بمجسماتهم للأهرامات وآلهة الفراعنة وأوراق البردي وو... يا إلهي لقد أضاعوا علي لحظات من التمعن بأبي الهول الأسطوري الذي لم يبرح مكانه منذ خمسة آلاف عام.. السياح بالعشرات من حولي وجو الجيزة متوهج كالقاهرة. زهرة اللوتس أعدت طفلتي إلى عربة الحصان واتجه بنا الحنطور إلى بوابة الخروج من الاهرامات، وفي الخارج أقنعني سيد بأسلوب ذكي أن طوافي على الاهرامات لن يكتمل إلا إذا دخلت هذا المنسك الأخير الذي أسماه متحف زهرة اللوتس الفرعونية. استسلمت أنا ومن معي ودخلت فوجدتني في مجرد معرض لبيع مختلف العطورات وعصارات الزيوت والأعشاب ومن بينها عصارة زهرة اللوتس، لم يكن متحفاً بل معرض أنيق للغاية والبائعات فقط من النساء الدكتورة جهينة كما أطلقت على نفسها هي من استضافتنا لأكثر من ربع ساعة تركتها تقدم أفضل مالديها من المنتجات الطبيعية كان آخرها زهرة البنفسج التي قالت بشأنها إنها للأزواج فقط فهي تضفي رائحة تجذب الزوج، وابتسمت قائلة: إن كثيرين يتهمون هذه الزهرة بأن لها علاقة بالتزايد السكاني في مصر. وسط البلد تشمل تسمية «وسط البلد» في القاهرة على الأحياء القديمة والمزدحمة وفي مقدمتها سوق العتبة الذي يحجه البسطاء أكثر من غيرهم على مدار اليوم لشراء الملابس والاحذية ومقتنيات الزينة وحاجيات الافراح، وهأنا أيضاً كغيري من اليمنيين المشتاقين لسوق الشنيني في تعز والأسواق المماثلة أجد لقدمي مسلكاً بين الزحام في الواحدة بعد منتصف الليل، لغرض الاستمتاع بالتسوق وشراء بعض الهدايا، أما نهار وسط البلد كما اعتاد المصريون تسميتها فله سحر آخر برغم حرارة الشمس، الطابع المعماري الفرنسي والأوروبي عامة له نكهة اسلامية في المباني البيضاء المحسنة بالزخارف النباتية المصنوعة من الجبس، وقيل لي أن الخديوي اسماعيل استعان بالمهندس الفرنسي أوسمان الذي أنشأ مدينة باريس الجديدة، لتخطيط وبناء تلك الشوارع «فؤاد وطلعت حرب وميدان الازبكية والتحرير..» وفي وسط البلد كان علي زيارة جامع الحسين وميدانه المليء بقارئات الفنجان والكف وطقوس الدراويش وفنون التسول وتراتيل بعض العميان وترانيم بعضهم المختلط بصوت العود ليميل السياح إليهم ويهوي عليهم الميسورون خاصة من الخليجيين في اجازة الصيف بما تيسر، وعلى مسافة جامع الحسين والازهر القريب منه يبعد عنهما جامع السيدة زينب بحوالي 2 كم دخلته من باب الرجال في الثانية عشرة ليلاً بعد أن سمح لي الحارس بالدخول، فتوجهت صوب الضريح الطاهر لأم هاشم كما يكنيها المصريون وصورت بكاميرتي كيف يقبل ثلاثة من الرجال أرضية وشباك الضريح الطاهر والخشوع الطاغي عليهم، وتمتمات من شفاههم لم أكن لأسمعها، لكني اقتربت من أحدهم قال إن اسمه محمد وهو مدرس، سألته فأجاب عن المعزة والمشاعر التي يكنها لصاحبة هذا الضريح، وعندما تفرس لكنتي اليمنية سألني: أأنت من حضرموت، قلت له: هي بعيدة مني لكنني أزورها أحياناً، قال: أحملك أمانة.. إذا وصلت قبر نبينا هود بأن تقرئه مني السلام. الصعايدة اليمنيون بديعة هي ليالي القاهرة، ولذة التمر هندي المثلج تطري جسدي الحار في هذا الصيف الحار، وعندما أنعت جو القاهرة ب الحار لا أقصد قطعاً أنه بحرارة مدننا الساحلية المتوهجة في مثل هذه الأيام، أما جو الاسكندرية في منتصف شهر يوليو فهو ساحر ولطيف للغاية فبمقدور المرء النوم فيها بدون مراوح أو تكييف وذلك لابتعاد الاسكندرية بالطبع عن خط الاستواء القريب من سواحلنا، ولن أتحدث أكثر أو أبوح بمشاعري وانطباعاتي عن القاهرة أو الاسكندرية، كي لايملني القارئ وينعتني بأني: «قليل إلف» أعلم أنه ربما لاتخلو أسرة في بلادنا إلا وفيها من زار القاهرة. طائرة العيانين من باب المزاح والسخرية أحياناً، اعتاد الموظفون في مطاري القاهرة الجديد والقديم، تسمية أو نعت الطائرة اليمنية الواصلة أو المغادرة ب طائرة العيانين! خاصة عندما تبدأ إجازة الصيف، بانطلاق طائرة يومية من مطار صنعاء وليصل عدد المسافرين من مختلف المحافظات عبر طائرة «العيانين» ستمائة شخص معظمهم لغرض العلاج في مستشفيات القاهرة، ولهذا فالمعنيون في مطار القاهرة يولون لمسافرينا الواصلين، رعاية خاصة في زيادة عدد كراسي المعوقين لانزالهم برافعات من الطائرة إلى صحن المطار، وأذكر عند عودتي وأنا كغيري أنتظر طائرتنا قبيل الفجر منظر العشرات من أصحابنا المرضى وخاصة كبار السن، كيف قتلوا ساعة انتظار الطائرة اليمنية بالنوم مابين كراسي صالة الانتظار ونادراً ماتجد جالساً على تلك الكراسي. العشرات يفترشون نصف الملايات ويختفون بنصفها الآخر من هواء التكييف البارد، وذلك موظف الجوازات قد مرق من بين الملايات التي يتصاعد الشخير والأنين من تحتها، لقد وصل باب الخروج الزجاجي الذي مازال مقفلاً ومضى يكرر الاتصالات من جهازه اللاسلكي قائلاً: ياسعة البيه الفجر قرب يشقشق وحافلة نقل المسافرين عاليمنية لسه ماوصلتش، وبعد ربع ساعة فتح الباب الزجاجي فانبعث النائمون من تحت الملايات ومضوا يتسابقون في الوصول إلى موظف الجوازات بغية العبور بسرعة فلربما يصلون قبلنا إلى مطار تعز؛ لأننا وصلنا سوية، وهأنا أعود إلى تعز هذه المدينة التعيسة لكنها برغم ذلك أغلى في ناظري من قاهرة المعز وأروع من قصور الأقصر!