"الإصلاح" مصطلح يتردد هذه الآونة على نطاق واسع، سياسيا واقتصاديا ودينيا وإعلاميا. والإصلاح مطلب ديني، وهو جوهر الرسالات السماوية، ووظيفة الأنبياء، كما ورد ذلك على لسان نبي الله شعيب: (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت). والإصلاح الذي هو جوهر الدين، ومطلب الرسالات، وعمل الأنبياء، هو الإصلاح الشامل لكل مجالات الحياة ومختلف جوانب المجتمع البشري، الإصلاح العقائدي بتوحيد الله تعالى وحده وإفراده بالعبادة وإخلاصها له، والإصلاح الاقتصادي كما اقترن بدعوة نبي الله شعيب عليه السلام، والإصلاح الاجتماعي الذي اقترن بدعوة نبي الله لوط عليه السلام، أما دعوة موسى عليه السلام فقد اقترنت بالمطالبة بالإصلاح السياسي، حيث بعثه الله تعالى إلى فرعون. والإسلام في دعوته الإصلاحية الشاملة له منهج خاص في تحقيق إصلاح المجتمع، منهج يقوم على إصلاح الفرد، فلا فائدة من دعاوى إصلاحية ضخمة ومصطلحات رنانة وأبنية مؤسسية تحمل عناوين براقة، لكنها في النهاية تبقى خاوية بلا سكان ولا حياة، ولذا كان صلاح الفرد المسلم صلاحا للمجتمع كله؛ لأن الفرد الصالح يقوم بواجبه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهكذا تعم قيم الصلاح وتنتشر من فرد إلى فرد حتى تغلب على المجتمع ككل بكافة مؤسساته السياسية والاقتصادية والتربوية والاجتماعية والرياضية والإعلامية. شهر رمضان والإصلاح الشامل فإذا كان صلاح الفرد هو صلاح للمجتمع، فإن فريضة الصيام وشهر رمضان الكريم هي إحدى وسائل الإسلام في تربية الفرد المسلم على الصلاح والاستقامة، وتقويم اعوجاجه والسعي لتحقيق التقوى الشاملة لله تعالى، فغاية فريضة الصيام التقوى:(يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)، فتحقيق التقوى على اتصال وثيق بقضية الإصلاح، ولقد وصف الله تبارك وتعالى المفسد في الأرض بقوله: (وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم وبئس المصير)، ولذا كان شهر رمضان هو مناسبة كبرى على طريق إصلاح الفرد والمجتمع. فكيف يؤدي شهر رمضان المبارك هذه الوظيفة الإصلاحية في حياة المسلمين؟. أولاً: إعادة التوازن بين القيم والغرائز: إن الهدف المحوري الفعال الذي تقوم عليه فريضة الصيام هو إعادة التوازن المفقود بين القيم النبيلة الراقية وبين شهوات وغرائز الإنسان، أو إعادة التوازن بين متطلبات الروح، ومتطلبات الجسد، فلا شيء يهدد صلاح المجتمعات على كافة المستويات سوى تحكم الغرائز والشهوات وعبودية الهوى، وعن مثل هذا يحدثنا القرآن الكريم في أكثر من موضع محذرا من ارتكاس الإنسانية إلى درك الحيوانية، حينما تعلو الغرائز والشهوات وتسود فوق القيم العلوية، والقواعد الربانية المنظمة لحياة البشر: (والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم)، (أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون). ففريضة الصيام تعمل على هذه المنظومة أو الثنائية، ثنائية القيم والرغبات أو القيم والغرائز. إن إعادة التوازن المفقود لهذه الثنائية، ورد الاعتبار للقيم الراقية التي يمكن أن تغيب في أزمة المادية الطاحنة، هي أهم مقومات الإصلاح المنشود. ثانيا: تقوية التحكم في النفس والسيطرة على الذات: ويقدم شهر رمضان - من خلال فريضة الصيام وأثرها التربوي - فرصة ذهبية للإنسان للتحكم والسيطرة على النفس، فهو فرصة للمدخن أن يتحكم ويسيطر على إدمانه للتدخين، وفرصة لمدمن المنبهات والمكيفات في السيطرة على هذا الإدمان، وفرصة لمدمن الصور الماجنة والأفلام الإباحية والمواقع الخليعة أن يقلع عن إدمانه. إن نهار رمضان فرصة لكل مبتلى ليجاهد نفسه ويقوي إرادته ويعيد تحكمه وسيطرته على رغباته في محاولة للوصول لحالة عالية من ضبط النفس والسيطرة عليها، وأن يحقق الفرد المسلم وقفة مع الإصلاح النفسي والسلوكي والأخلاقي تكون زادا إصلاحيا له طول العام. ثالثا: ربط الخاص بالعام: لم يجعل الله تبارك وتعالى فريضة الصيام فريضة فردية يقوم بها المسلم في أي زمن شاء، ولكن جعلها في أيام معدودات معلومات، أيام شهر رمضان الكريم، كفريضة جماعية تجب على الأمة المسلمة كلها في زمن واحد، حتى يؤتي الإصلاح الفردي أكله على المستوى الجماعي. إن المجتمع كله يشترك في أداء الفريضة، ويمارس تفاعلاته الاجتماعية ومتطلبات حياته اليومية كلها من خلال فريضة الصيام، ليكون التأثير على الفرد، ويكون التأثير على المجتمع ككل من خلال الربط بين الخاص والعام، وبين العبادة الفردية وخصوصية التعبد بها، وبين جماعية الأداء، حيث تكون الأمة كلها صائمة إلا الاستثناء (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر). والمسلم عَلَم على الإصلاح، يرجع إليه الناس، ولذا كانت فرائض الإسلام الكبرى تستهدف هذا الفرد بالعناية والتربية والتوجيه والتزكية، وصولاً من الخاص إلى العام، ومن الفرد إلى الجماعة. رابعا: ربط العبادة بالأخلاق والمعاملات: ولأن الصيام - كما الصلاة والزكاة والحج - فريضة وشعيرة إسلامية ذات أثر تربوي ودور فعال في بناء شخصية المسلم، فهي ليست مجرد طقوس تؤدى ثم ينتهي أثرها بانتهاء أدائها، وإنما لكل عبادة من عبادات الإسلام غاية وحكمة وثمرة، وأثر كل العبادات على الفرد المسلم يتعدى حدود الأداء إلى مختلف الأخلاق والمعاملات، فلقد ربط الإسلام برباط وثيق بين العبادات أو الشعائر التعبدية وبين الأخلاق الشخصية وبين المعاملات الحياتية في رباط فريد ومنظومة متكاملة تهدف في مجموعها إلى صلاح الفرد والمجتمع. ولقد أوضحت النصوص الشرعية الغاية والأثر التربوي من كل فريضة، فيقول تعالى عن الصلاة (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر)، وقد جاء في الحديث: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له"، ويقول صلى الله عليه وسلم عن الصيام: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يضع طعامه وشرابه"، وينتقل الحديث إلى الربط بين فريضة الصوم وبين السيطرة على النفس حتى في الانفعالات أثناء المعاملات: "الصيام جنة، فإذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل، فإن إمرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم مرتين"، وفي الزكاة يقول رب العزة لنبيه صلى الله عليه وسلم: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها)، ويقول صلى الله عليه وسلم: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا"، وفي الحج يقول: وإذا خرج بالنفقة الخبيثة فوضع رجله في الغرز فنادى لبيك، ناداه مناد من السماء: لا لبيك ولا سعديك، زادك حرام، ونفقتك حرام، وحجك مأزور غير مأجور". وفي الدعاء يذكر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل أشعث أغبر يطيل السفر، يقول: يا رب يا رب، ومأكله من حرام ومشربه من حرام وغذي بالحرام، فيقول صلى الله عليه وسلم: "فأنى يستجاب له"!!. وفي مقام الترغيب في حسن الخلق الحسن يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن العبد ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم". إن الربط بين العبادة وأثرها التربوي وثمرتها المرجوة في إصلاح النفس والمجتمع، ينقلها من مجرد عبادة تؤدى بطريقة آلية قد تشبه العادة في بعض الأحيان، إلى دائرة التفكر والتعايش معها بالوجدان والقلب والعقل والشعور، لتسيطر على النفس سيطرة كاملة، وتصيغها صياغة جديدة، تنقلها من واقع إلى واقع آخر مغاير، كما في فريضة الصيام (لعلكم تتقون).