الصبر على الصوم ، فرع من الصبر على الجوع فالذين تعودوا الصوم من الصغر ،والذين هم من أهل العزائم والهمم ، والذين يأخذون من دنياهم لأخراهم ، أصبر الناس على الجوع والعطش ، بل أصبر الناس على كل محبوب ،وأصبرهم على كل مكروه ، وهم الذين تقوم بهم الدول ، وتبنى عليهم الممالك ، وتستقيم لهم سياسة الأمم والشعوب ، لأنه لاشيء أشد وأضر من شهوة البطن فإذا قمعها الإنسان فقد قمع كل شهوة بعدها ، إذ كل شهوة لاحقة بها تابعة لها ، والصبر عند الصدمة الأولى. وهناك نماذج فريدة ،ومثل عليا للمبرزين في هذا السباق الكريم ، حواها تاريخنا المجيد ، نذكر بعضها على سبيل التمثيل لا الحصر : روي أنه قيل للأحنف بن قيس التميمي : إنك شيخ ضعيف ، وإن الصيام يهدُّك ، فقال : إني أعده لشر يوم طويل ، وإن الصبر على طاعة الله أهون من الصبر على عذاب الله. وقيل لرجل : كيف تقوى على الصوم في هذا الحر ؟! فأجاب : من عرف قدر من يسأله ، هان عليه ما يبذله. ونزل الحجاج بن يوسف الثقفي في يوم حار على بعض المياه ، ودعا بالغداء ، وقال لحاجبه : انظر من يتغدى معي واجتهد ألاّ يكون من أهل الدنيا ، فرأى الحاجب اعرابياً نائماً عليه شملة من شعر ، فضربه برجله وقال : أجب الأمير، فجاء الاعرابي إلى الحجاج ، فدعاه إلى الأكل معه ، فقال الأعرابي : دعاني من هو خير من الأمير فأجبته ، فقال الحجاج : من هو ؟ قال : الله تعالى دعاني إلى الصوم فصمت .. قال أفي هذا اليوم الحار ؟ قال : نار جهنم أشد حراً ، قال الحجاج : أفطر وصم غداً !! قال الأعرابي : إن ضمنت لي البقاء غداً ، قال الحجاج ليس ذلك لي !! قال : أدع عاجلاً بآجل لاتقدر عليه ؟ فقال : إنه طعام طيب .. قال : إنك لم تطيبه ولا الخباز ولكن العافية طيبته.. وقال شبيب : كنا ستة في طريق مكة ، فجاء أعرابي في يوم صائف ، شديد الحر ومعه جارية سوداء وصحيفة ، فقال : أفيكم كاتب ؟ قلنا : نعم ، وكان غداؤنا قد حضر ، فقلنا له : لودخلت فأصبت من طعامنا ، قال إني صائم .. قلنا : الحر وشدته وجفاء البادية ؟! قال : إن الدنيا كانت ولم أكن فيها ، وستكون ولا أكون فيها ، وما أحب أن أغبن أيامي ، ثم نبذ إلينا الصحيفة ، فقال للكاتب : اكتب ولاتزد على ما أمليه عليك : هذا ما أعتق عبدالله بن عقيل الكلبي : أعتق جارية له سوداء ، اسمها لؤلؤة ، ابتغاء وجه الله ، وجواز العقبة ، وأنه لا سبيل له عليها إلاّ سبيل الولاء ، والمنة لله علينا وعليها واحدة ، قال الاصمعي : فحدثت بذلك الرشيد ، فأمر أن يعتق عنه ألف نسمة ، ويكتب لهم بهذا الكتاب. وكان الأسود بن يزيد ، يصوم حتى يصفر ويخضر ويقول : دع نفسك تبكي من شدة الرياضة فتستريح عند صحبة الملوك ، وقد هزم غاندي الاستعمار الانجليزي وأذل أمبراطورية لا تغيب الشمس عن أملاكها ، وكانت تدعى سيدة البحار ، بصيام هذا الجسم الهزيل النحيل