أعجبتني وصية أبي عثمان النوري لابنه.. «يابني، كُل مما يليك، واعلم أنه إذا كان في الطعام لقمة كريمة، أو شيء مستطرف، فإن ذلك للشيخ المعظم، أو للصبي المدلل، ولست واحداً منهما، يابني، عود نفسك مجاهدة الهوى والشهوة، ولا تنهش نهش السباع، ولاتخضم خضم البغال، ولا تلقم لقم الجمال، فإن الله جعلك إنساناً، فلا تجعل نفسك بهيمة.. واعلم أن الشبع داعية البشم، والبشم داعية السقم، والسقم داعية الموت، ومن مات هذه الميتة فقد مات ميتةَ لئيمة، لأنه قاتل نفسه، وقاتل نفسه ألأم من قاتل غيره.. يابني، والله ما أدى حق الركوع والسجود ممتلئ قط!! ولا خشع لله ذو بطنة، والصوم مصحة، والواجبات عش الصالحين...». هذه وصية رجل لا يعرف عبادة الجسد، التي تهاوى فيها أبناء هذا العصر، والتي جاء فيها قول الله تعالى: «ذرهم يأكلوا و يتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون» سورة الحجر"3".. وتجتاح الناس بين الحين والحين أزمات حادة، تقشعر منها البلاد، ويجف الزرع والضرع، ما عساهم يفعلون؟ إنهم يصبرون مرغمين، أو يصومون كارهين وملء أفئدتهم السخط والضيق. وشريعة الصوم شيء فوق هذا، إنها حرمان الواجد ابتغاء ما عند الله، إنها تحمل للمرء مندوحة، لو شاء.. ولكنه يخرس صياح بطنه، ويرجئ إجابة رغبته، مدخراً صبره عند ربه، كما يلقاه راحة ورضا في يوم عصيب «ذلك يوم مجموعٌ له الناس وذلك يومٌ مشهود» سورة هود "103".. وربط التعب بأجر الآخرة هو ما عناه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفِر له ما تقدم من ذنبه».. إن كلمتي- إيماناً واحتساباً- تعنيان جهداً لا يستعجل أجره، ولا يطلب اليوم ثمنه، لأن باذله قرر حين بذله أن يجعله ضمن مدخراته عند ربه.. نازلاً عند قوله تعالى: «ذلك اليوم الحق فمن شاء اتخذ إلى ربه مآباً» سورة النبأ "39".. وسوف يجد الصائم مفطرين لا يعرفون لرمضان حرمة، ولا لصيامه حكمة، إذا اشتهوا طعاماً أكلوا، وإذا شاقهم شراب أكرعوا... ماذا يجدون يوم اللقاء؟.. إنهم يجدون أصحاب المدخرات في أفق آخر، مفعم بالنعمة والمتاع.. ويحدثنا القرآن عمن أضاعوا مستقبلهم فيقول تعالى في سورة الأعراف الآيتين "50و51": «ونادى أصحاب النار، أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله، قالوا: إن الله حرمهما على الكافرين. الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً وغرتهم الحياة الدنيا....» إن الصيام عبادة مضادة لتيار الحياة الآن، لأن الفلسفات المادية المسيطرة في الشرق والغرب تعرف الأرض ولا تعرف السماء، تعرف الجسم ولا تعرف الروح.. تعرف الدنيا ولا تعرف الآخرة.. ليكن للقوم ما أرادوا، ذلك مبلغهم من العلم!! بيد أننا نحن المسلمين يجب أن نعرف ربنا، وأن نلزم صراطه، وأن نصوم له، وأن ندخر عنده..