وقف بشير أمام المرآة وأخذ يتفحص وجهه بقلق. التجاعيد باتت أوضح فأوضح، والشعر الأبيض ازداد كثافة. إنها علامات الأربعين. مشاعر الألم لا تكف عن مطاردته، وتكاد تتحول هماً يوميا منذ أن اقترب موعد عيد ميلاده. وبدلا من الهدايا التي اعتاد تلقيها بسعادة كل عام، فإن المناسبة حلت هذه السنة وسط سيل من الأسئلة الحائرة: أربعون عاما يا بشير. أربعون عاماً وما زلت وحيداً.لا زوجة ولا أطفال. وغدا عندما تصبح في الستين، من يؤنس وحدتك؟ من يرعاك؟ هل كُتبت عليك المعاناة إلى الأبد؟!. أسئلة بشير تعبر عن مخاوف وهموم شريحة واسعة من الرجال العرب، الذين يعجزون لأسباب مختلفة عن تحقيق طموحهم بالزواج في إطار ظاهرة تنمو باضطراد وهي عنوسة الرجل. وبالرغم أن في الموروث الاجتماعي اليمني والعربي، ميلاً لرفض الاعتراف بهذه الظاهرة باعتبار إن الرجل قادر على الزواج متى أراد، وفي أي عمر كان ، إلاّ ان إطلالة على الواقع تؤكد غير ذلك. وليس هناك تعريف محدد لعبارة الرجل العانس، ولكن يمكن أن نصفه بأنه الشخص الذي تجاوز ال35 عاما من دون أن يتزوج، ومن دون أن يظهر انه مقبل على القيام بذلك في وقت قريب. ويلاحظ المتتبع للإحصاءات الحكومية حول ظاهرة العبوسة أنها تركز في غالبيتها العظمى على عنوسة الفتيات، أما المعطيات المتعلقة بعنوسة الرجال فهي غائبة. وتعتبر مصر الاستثناء شبه الوحيد في هذا المجال، فالأرقام تشير إلى وجود 9 ملايين مصري تجاوزوا الخامسة والثلاثين من العمر ولم يسبق لهم الزواج. وبين هؤلاء نحو أربعة ملايين امرأة مقابل خمسة ملايين رجل بما يعني إن ظاهرة عنوسة الرجال أوسع من عنوسة المرأة، خلافاً للاعتقاد الشائع. لماذا؟ وتتعدد الأسباب التي تقف وراء ظاهرة عنوسة الرجل ومعظمها مادية مثل صعوبة تأمين السكن المناسب وانتشار البطالة وضعف الادخار وغلاء المهور؛ ارتفعت المهور في عدد من محافظات الجمهورية في السنوات الأخيرة بشكل لافت، وارتفاع تكاليف حفلات الزفاف أيضًا. كما ان طبيعة المجتمع في العديد من الدول العربية، تلزم الرجل بتأمين كل شيء، من الشقة إلى الأثاث إلى تكاليف الزواج إلى المهر ناهيك عن متطلبات بعض الفتيات وأمهاتهن اللواتي يعتبرن الزواج مناسبة للتباهي أمام الأقارب والأصدقاء. مجرد حلم يقول حسن محمد يمني من عدن يبلغ من العمر نحو38 عاما عاطل عن العمل على الرغم من حصوله على شهادة جامعية: لم استطع الحصول على وظيفة منذ أن تخرجت قبل بضعة سنوات، أقول بضعة سنوات لأنني لم أعد في الحقيقة أتذكر متى تخرجت. ويردف حسن قائلاً: حاولت أن أحصل على أية وظيفة حتى أخفف العبء على كاهل والدي، لكنني للأسف لم أحصل بعد على وظيفة ثابتة بحيث أتمكن بالفعل من بدء الخطوات العملية للزواج ومتطلباته ومع يقيني أنني ما زلت بعيدًا عن طرق باب الزواج عمليًا، إلاّ أنني مصر على اتمام نصف ديني حتى لو تأخر ذلك بضعة سنوات أخرى رغم أن بعض رفاقي يعتقدون ذلك مجرد حلم لن يتحقق استنادًا الى أن بعضهم شارف على الأربعين! وحين سألناه عن راتبه الشهري عندما يعمل قال: أحياناً أحصل على عشرين ألف ريال (نحو 100 دولار) وأحياناً أحصل على نصف المبلغ! وفي نظرك كم تعتقد تحتاج من الوقت حتى تتزوج، أجاب حسن: لو حصلت على وظيفة ثابتة مضمونة وبراتب لا يقل عن 300 دولار، والبحث عن عمل بعد العصر ربما أحتاج إلى خمس سنوات أو ربما عشر سنوات إذ سيعتمد زواجي على الأسعار وقتها التي أتمنى ألا تزداد لهيبًا خصوصًا تأجير صالات الأفراح! في جولة سريعة لبعض قاعات أو صالات الأفراح في عدد من مناطق محافظة عدن تأكد لنا أن سعر الايجار مع المشروبات الغازية في المتوسط لا يقل عن 100 ألف ريال ويوجد أقل لكن لا ترتقي الى حالة الجيد. حلم بعيد سعيد راشد فلسطيني من غزة يبلغ من العمر 35 عاما، ويعمل مدقق عدادات في شركة ماء بغزة، وهو خريج كلية الاقتصاد والعلوم السياسية لكنه لم يتمكن من الحصول على عمل في مجال اختصاصه. مرتب سعيد يترواح ما بين 150 إلى 200 دولار فقط في الشهر، ولذلك فهو غير قادر على تأمين متطلبات الزواج. ففي غزة، لا يقل الحد الأدنى للمهور عن ألفين إلى 3 آلاف دينار أردني، فضلا عن أن تكاليف حفلة الزفاف تتراوح حول معدل 3 آلاف دينار. مما يعني إن سعيد بحاجة إلى ستة آلاف دينار(حوالي عشرة آلاف دولار) وذلك كي يتمكن فقط من تأمين مستلزمات العرس والمهر، بغض النظر عن المنزل والأثاث وغير ذلك. وبالتالي فان سعيد يجب ان ينتظر أربعة أعوام كاملة لتوفير المبلغ، بفرض انه تمكن من ادخار مرتبه بالكامل، أي انه سيكون مضطرا لئلا يأكل ولا يشرب ولا يشتري ملابس جديدة ولا يساعد أهله ماديا ولا ان يفعل أي شيء آخر في حياته. عليه ان يتحول فقط إلى آلة لجمع النقود. أما إذا كان إنسانا "عاديا" يأكل ويشرب ويلبس وما إلى ذلك فانه في حاجة إلى سنوات ضوئية من اجل توفير المبلغ. ويقول سعيد" لا اخفي انني اشعر بالإحباط عندما أرى شابا اصغر مني وتمكن من تكوين نفسه وتأسيس عائلة". ويضيف"لا أعاني من أي مشكلة، فأنا متعلم ووضعي جيد من كل النواحي الأخلاقية والاجتماعية والجسدية، فلماذا لم أتزوج بعد؟". حالة سعيد ليست نادرة فالشاب اللبناني ربيع يبلغ من العمر 33 عاما ولم يتمكن من الزواج والسبب مالي أيضاً. يقول ربيع وهو عامل بناء "لا استطيع الزواج لأنني لا أتمتع بالاستقرار الوظيفي،فانا لا املك أية ضمانات في العمل وليس لي أية حقوق. ورب العمل يمكن أن يصرفني في أية لحظة". ويضيف" في وسعي تأمين المنزل ولكن بمساعدة الأهل فقط. المشكلة أن المرتب الذي احصل عليه غير كاف ولا يساعدني على الادخار ويمكن أن افقده في أية لحظة". لم أجد الرجل المناسب اشترطت (س. م. ن) من منطقة المعلا بعدن أن نشير إلى الأحرف الأولى من اسمها بعد أن عرفت موضوع تحقيقنا الذي نجريه بمعية تحقيق نشر في أحد المواقع الالكترونية بعض تفاصيله موجودة في هذا التحقيق، وقالت: في الحقيقة أنا أدرك تمامًا أن الزواج أصبح مشكلة في بلادنا نظرًا لارتفاع المهور الذي عادة ما يتسبب فيه الآباء، كما الحياة أصبحت قاسية قياسًا بالماضي، لكن والحمد لله أسرتي ميسورة الحال ولدينا أملاك خاصة، لكنني لم أتزوج بعد وقد بلغت سن الثلاثين. وأضافت بعد أن توقفت في حديثها لحظات قائلة: مشكلتي ليست مادية.. مشكلتي أنني لم أجد الرجل المناسب ليكون زوجي، وكل من تقدم إليّ لا أجد الفرصة أو الوقت الكافي لأتعرف عليه جيدًا بحيث أضمن أنني سأبني بيت الزوجية على أساس متين. ألا تخافين من مرور قطار الزواج دون أن يتوقف في محطتك وبالتالي تصبحين عانسًا؟ أجابت بعد تردد: لا.. لا أخاف العنوسة، واذا حدث ذلك فهذا نصيبي وهذه قسمتي .. الزواج قسمة ونصيب وأنا مؤمنة بقضاء الله وحكمته. العلاقات خارج الزواج وتثير مسألة عنوسة الشباب قضية أخرى متعلقة بما إذا كانت المجتمعات العربية باتت أكثر تسامحا مع العلاقات التي يمكن ان تنشأ خارج الزواج كبديل له، دائم أو مؤقت. ربيع يقول انه يتعرف على فتيات بين الحين والآخر، وهو يطمح لان تكون إحداهن زوجته، لكن علاقاته لم تتوج حتى الآن بالزواج فبمجرد ان يصارح الفتاة بوضعه المادي تصل العلاقة إلى خاتمتها. من جهته، يرفض سعيد إقامة أي علاقة خارج إطار الزواج وخصوصا إذا كانت علاقة جنسية. ويقول "بالنسبة لي، هناك حواجز دينية وعقيدية تمنعني من القيام بذلك، وباعتباري إنسانا ملتزما فلن أقيم أي علاقة غير شرعية على الإطلاق، وبرغم معاناتي فانا متأكد من ان الله سيجعل لي مخرجا". وحول ما إذا كان المجتمع العربي يتسامح مع فكرة العلاقات خارج الزواج، يقول الشيخ تيسير التميمي إن "المجتمع لم يصبح متسامحا بعد، ولكنه بات اقل غضبا من السابق بسبب هذه العلاقات". لكن سمير زقوت اخصائي اجتماعي يعتبر ان "المجتمع لم يتطور إلا بشكل سطحي وتمييزي، فهو مستعد للتسامح مع الرجل الذي له أن يفعل ما يشاء خارج إطار الزواج، أما المرأة فالويل لها إذا قامت بالأمر نفسه. في هذه الحالة فان عقابها سيكون شديدا وربما يصل إلى القتل". " عانس بارادتي" وفي مقابل الأشخاص الذين يبذلون كل ما في وسعهم من دون أن ينجحوا في الزواج، نجد بعض الرجال الذين يميلون إلى العزوف الاختياري عن الارتباط الأسري برغم أنهم قادرون على توفير كل متطلباته. والشاب في هذه الحالة يريد ان يشعر بحريته إلى الحد الأقصى. علاقات متعددة بلا مسؤولية ولا "وجع رأس". ويفسر زقوت ذلك بالقول "الزواج في المجتمع العربي يمثل حالة من الارتباط الشديد، وله متطلبات كثيرة تلزم الشاب بالكثير من المسؤوليات، لذلك فان بعض الشبان يفضلون التخلي عن كل ذلك". ويضيف: "هناك حالة في علم النفس تعرف باسم الشخصية النرجسية وخصوصا عند الذكور، الذي يعشق احدهم ذاته درجة إلى انه لا يرغب في إشراك شخص آخر في حياته مثل الزوجة". اقتراحات حلول برغم أن مشكلة عنوسة الشباب تشكل حالة منتشرة وقد لا يبدو حلها سهلا، إلا أن ذلك لا يمنع من محاولة البحث في إيجاد مخرج ما. ويقترح الشيخ التميمي ان تتخلى الأسر العربية عن العادات الدخيلة على موروثاتها وهي المغالاة في المهور وحفلات الزفاف باهظة التكاليف التي عادة ما تقام بدافع من التقليد الأعمى. كما يقترح التميمي أن يقوم الأغنياء بمساعدة الفقراء على الزواج عبر تقديم الزكاة وذلك في إطار التكافل الاجتماعي. وربما يدخل في إطار الحلول ان تتكفل الحكومات بمصاريف حفلات الزفاف الجماعية لتوفير المصاريف الباهظة. عظماء وعازبون ووسط هذه الدوامة من المشكلات فان ثمة بعض الأخبار الطيبة للرجال العازبين، فقد اكتشف مؤلف أمريكي رابطا بين العبقرية والعزوبية. انه الكاتب مايكل هارت الذي وضع كتابا عنوانه "المائة الأوائل" رصد فيه سيرة حياة أعظم مئة شخص في التاريخ واكتشف الكاتب ان الغالبية الساحقة من العظماء كانوا رجالا وأن 19 منهم لم يتزوجوا أبداً.ووصف الكاتب هذا الرقم بأنه "مرتفع إلى حد يثير الدهشة". ومن أشهر العازبين في التاريخ، المؤلفان الموسيقيان بيتهوفن وتشايكوفسكي والنحات مايكل انجلو إضافة إلى مكتشف النظرية الذرية جون دالتون.