منظمة: الصحافة باليمن تمر بمرحلة حرجة والصحفيون يعملون في ظروف بالغة الخطورة    تعز مدينة الدهشة والبرود والفرح الحزين    وفاة فتاة وأمها وإصابة فتيات أخرى في حادث مروري بشع في صنعاء    مصادر مصرفية تحذر من كارثة وشيكة في مناطق سيطرة الحوثيين    مارب تغرق في ظلام دامس.. ومصدر يكشف السبب    ماذا يجرى داخل المراكز الصيفية الحوثية الطائفية - المغلقة ؟ الممولة بالمليارات (الحلقة الأولى)    المخا الشرعية تُكرم عمّال النظافة بشرف و وإب الحوثية تُهينهم بفعل صادم!    اسقاط اسماء الطلاب الأوائل باختبار القبول في كلية الطب بجامعة صنعاء لصالح ابناء السلالة (أسماء)    الحوثيون يعتقلون فنان شعبي وأعضاء فرقته في عمران بتهمة تجريم الغناء    ترتيبات الداخل وإشارات الخارج ترعب الحوثي.. حرب أم تكهنات؟    لماذا إعلان عدن "تاريخي" !؟    مأرب قلب الشرعية النابض    تن هاغ يعترف بمحاولةا التعاقد مع هاري كاين    اخر تطورات الانقلاب المزعوم الذي كاد يحدث في صنعاء (صدمة)    الهلال السعودي يهزم التعاون ويقترب من ملامسة لقب الدوري    معركة مع النيران: إخماد حريق ضخم في قاعة افراح بمدينة عدن    "أموال عالقة، وصراع محتدم: هل يُعطل الحوثيون شريان اليمن الاقتصادي؟"    الكشف بالصور عن تحركات عسكرية خطيرة للحوثيين على الحدود مع السعودية    "اليمن ستكون مسرحاً لحرب استنزاف قبل تلك الحرب الكبرى"..خبير استراتيجي يكشف السيناريوهات القادمة    أفضل 15 صيغة للصلاة على النبي لزيادة الرزق وقضاء الحاجة.. اغتنمها الآن    شعب حضرموت يتوج بطلاً وتضامن حضرموت للبطولة الرمضانية لكرة السلة لأندية حضرموت    تتقدمهم قيادات الحزب.. حشود غفيرة تشيع جثمان أمين إصلاح وادي حضرموت باشغيوان    وكلاء وزارة الشؤون الاجتماعية "أبوسهيل والصماتي" يشاركان في انعقاد منتدى التتسيق لشركاء العمل الإنساني    بالفيديو.. داعية مصري : الحجامة تخريف وليست سنة نبوية    د. صدام عبدالله: إعلان عدن التاريخي شعلة أمل انارت دورب شعب الجنوب    فالكاو يقترب من مزاملة ميسي في إنتر ميامي    الوزير البكري يعزي الاعلامي الكبير رائد عابد في وفاة والده    أمين عام الإصلاح يعزي في وفاة أمين مكتب الحزب بوادي حضرموت «باشغيوان»    بعد منع الامارات استخدام أراضيها: الولايات المتحدة تنقل أصولها الجوية إلى قطر وجيبوتي    مارب.. وقفة تضامنية مع سكان غزة الذين يتعرضون لحرب إبادة من قبل الاحتلال الصهيوني    البنتاجون: القوات الروسية تتمركز في نفس القاعدة الامريكية في النيجر    تعز تشهد المباراة الحبية للاعب شعب حضرموت بامحيمود    صحيح العقيدة اهم من سن القوانين.. قيادة السيارة ومبايض المرأة    دوري المؤتمر الاوروبي ...اوليمبياكوس يسقط استون فيلا الانجليزي برباعية    لماذا يُدمّر الحوثيون المقابر الأثرية في إب؟    بعد إثارة الجدل.. بالفيديو: داعية يرد على عالم الآثار زاهي حواس بشأن عدم وجود دليل لوجود الأنبياء في مصر    أيهما أفضل: يوم الجمعة الصلاة على النبي أم قيام الليل؟    طقم ليفربول الجديد لموسم 2024-2025.. محمد صلاح باق مع النادي    ناشط من عدن ينتقد تضليل الهيئة العليا للأدوية بشأن حاويات الأدوية    دربي مدينة سيئون ينتهي بالتعادل في بطولة كأس حضرموت الثامنة    الارياني: مليشيا الحوثي استغلت أحداث غزه لصرف الأنظار عن نهبها للإيرادات والمرتبات    استشهاد أسيرين من غزة بسجون الاحتلال نتيجة التعذيب أحدهما الطبيب عدنان البرش    إعتراف أمريكا.. انفجار حرب يمنية جديدة "واقع يتبلور وسيطرق الأبواب"    أثر جانبي خطير لأدوية حرقة المعدة    الصين تجدد دعمها للشرعية ومساندة الجهود الأممية والإقليمية لإنهاء الحرب في اليمن    ضلت تقاوم وتصرخ طوال أسابيع ولا مجيب .. كهرباء عدن تحتضر    الخميني والتصوف    تقرير: تدمير كلي وجزئي ل4,798 مأوى للنازحين في 8 محافظات خلال أبريل الماضي    جماعة الحوثي تعيد فتح المتحفين الوطني والموروث الشعبي بصنعاء بعد أن افرغوه من محتواه وكل ما يتعلق بثورة 26 سبتمبر    انتقالي لحج يستعيد مقر اتحاد أدباء وكتاب الجنوب بعد إن كان مقتحما منذ حرب 2015    مياه الصرف الصحي تغرق شوارع مدينة القاعدة وتحذيرات من كارثة صحية    إبن وزير العدل سارق المنح الدراسية يعين في منصب رفيع بتليمن (وثائق)    كيف تسبب الحوثي بتحويل عمال اليمن إلى فقراء؟    المخا ستفوج لاول مرة بينما صنعاء تعتبر الثالثة لمطاري جدة والمدينة المنورة    النخب اليمنية و"أشرف"... (قصة حقيقية)    عودة تفشي وباء الكوليرا في إب    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رؤية فكرية وشواهد تحليلية
من الأدب الشعبي اليمني
نشر في الجمهورية يوم 13 - 11 - 2007

أحسب أن الأدب العامي،أو مايعرف في اليمن بالشعبي يتشكل من مجموع النتاج الإبداعي الفني متعدد الأطراف والأغراض الفكرية والعلمية «ولا يليق بمن يضع الأشياء بإزاء أقدار مردوداتها النافعة أن يعيق الأدب الشعبي عن أن يحتل مكانهُُ أو يتخذ طريقهُ إلى النور والإطلال على عوالم فسيحة من الجماهير القارئة التي هي بحاجة إليه،وتهفو إلى تذوقه والارتواء من إمتاعه لقربه من إفهامهم،ولتقصيه التحسس عن آلامهم،وإفساح المجال في البلوغ إلى النشوة بالأنغام الرقيقة الصافية التي لايشوبها التقعر بالألفاظ الحوشية البعيدة عن مستوى هضمهم لها 1».
ولأن الشعر اليومي المألوف طرف من أطراف الأدب العامي،ولأنه يلتقط وجع الناس،وآلامهم ،وأحزانهم،وأفراحهم ،وبسماتهم المشرقة والمتعبة ،يسبر غور أعماق ماضي وحاضر عشق ،ويبني عليها غزل الفراشات الذي يتحول إلى حرير،وجهد النحلات الذي يتحول إلى عسل مصفّى،بقصائد عامية مقروءة وطربية تتبرج في جمال الأسلوب،وأخرى معتقة،يوزعها بين طرفي معادلة الحزن والفرح.
ولأنه كذلك،يحمل متنه العبء الثقيل ، يحق لنا القول فيه:« الشعر الشعبي يمثل دوراً متمماً للشعر الفصيح الذي انحصر في آفاق معينة،ويزيد عليه في كثير من المجالات وهو شعر قائم بذاته،له مقوماته وطرقه وأشكاله وله شعراؤه وعشاقه. ولا يمكننا فصله عن الشعر العام بأية حال ذلك لأنه امتداد طبيعي له،عندما وقف الشعر الفصيح عند حد معين،لم يقف هذا الشعر عند أي حد وعليه فتجاهله باسم الوقارالعلمي ضرب من الهوس 2».
«ولا أعد والحق إذا قلت إنه أي الشعر الشعبي أكثر ذيوعاً وانتشاراً من الشعر الفصيح، وأحب إلى قلوب الناس،والمثقفون خاصة يعطونه عناية بالغة،ويولونه اهتماماً خاصاً،وتجاهله إنما يعني إلغاء ناحية من نواحي التفكير اليمني بصورة تعسفية لامعنى لها 3».
فالشعر الشعبي إذاً شعر يجوس في اليومي المألوف،ولهذا فإن مجالاته لصيقة بقضايا الجماهير بشكل أكثر قوة ،وتعبيراً وانفعالاً ،فمن هذه القاعدة العريضة الواسعة بآمالها وأمانيها وآلامها وجد هذا الشعر مجالاته.
هذا الشعر المترع بالإبداع،والذي يجهد خياله في كثير من الأحيان بالتحليق في فضاءات الهوى، كالنحلة التي «يخرج من بطونها شراب فيه شفاء للناس» ،يخاطب الوسط الشعبي
بنفس مرحة،أليس من العدل الإبداعي إسناد الفضل إليه كشعر خبر الناس وله فيهم تجارب ناضجة شعورية ومعاناة يومية بشهادة عذوبة ورقة الشوق،وتوقيع دولة الحب،ولاحتلاله موقعاً ممتازاً وبارزاً بين صنوف الأدب المسجل..؟
بالتأكيد..نعم ،وله أن يعتز بنفسه،ونعتز به،هذا الشعر الذاكرة النشطة ،والطير الأغن «4» في وادٍ أغن «5»يعجبني فيه أصدق القول سالف التدوين لصاحب القلم الأمين زيد علي الوزير،وهذا «صور مشاكلها اليومية،وعاداتها وتقاليدها،رسم صوراً لمجتمعاتها الدينية،السياسية،الاجتماعية، والاقتصادية ،وألواناً للحياة اليومية لمجتمع المرأة وأساليب معيشتها ففي حياتها العامة والخاصة «6» ».
زد على ذلك.«سمر الليالي لمجتمع الرجل في عمله وفراغه وأهوائه ونوازعه،ثم صور هذه الحياة السياسية العنيفة،ومافيها من ظلم وعنف فنقدها نقداً،وسخر بها سخرية لاذعة. والخلاصة فقد تفنن الشعر الشعبي في كل شيء،ولم يترك شيئاً،فمن مفاخرة بين المدن والأرياف،ومن حوار بين القطط والكلاب،ومن مناجاة بين الأشجار والثمار،ألم بكل وسائل الترفيه وكل وسائل الإغاضة،كل ذلك في أسلوب متين موحد الفكرة،متماسك البناء ،يجري على اطراد ونسق عجيب «7» ».
ولنا رغبة في قراءة بعض الأبيات ذات اللون الجميل والمرح للشاعر عبدالله الشامي في رثاء هرته:
يقول عبدالله من الامتحان
أن يفرق المضنى أليفه
وكملت لي وردغان
الَدمة «8» البيضاء النظيفة
وإن أوكست«9» بالفار
تجنن جنان
وتقتله قتله عنيفة
شسكب عليها دمع
مثل الجمان
وأنوح من فقد الأليفة
الشعر الشعبي ،تسمية ،تحليلاً وشواهد..
من المعلوم بأن الشعر الذي يكتب باللهجة المتداولة لغة اليومي المألوف نسميه في اليمن ،"بالعامي" ،أما الشائع في التسمية فهو «الشعر الشعبي».
هذا النوع من الشعر في مصر يعرف بالزجل والعامي،وفي السودان ولبنان وسورية والأردن وفلسطين «بالزجل» وفي السعودية والخليج العربي،وأطراف الجزيرة العربية «بالنبطي أو شعر البادية» .وفي المغرب وتونس والجزائر وليبيا بالملحون القريحة وعلم الموهوب وعروض البلد والسجية. وفي العراق باسم الشعر العامي أو الشعبي. ولفظة زجل شهيرة التداول، والمستخدمة في بعض البلدان كتسمية للشعر اليومي المألوف صدره فيها عدد من المؤلفات ،وعنها قال الشاعر السوري/ ميخائيل عيد،إنها كلمة تعني «تنهد المتعبين المقهورين الفقراء،وصور كلامية لأرض تغسل بالعرق».
إذًا الزجل هو نفسه الشعر الشعبي ،والاختلاف في التسمية ليس إلا، من مفهوم أن الزجل يعتمد ما يعتمده الشعر الشعبي أو الشعبي من مخارج الحروف والكلمات كما يخرجها الشاعر والقارئ،فقد يدعم وقد يتخطى الحرف والحرفين ليستقيم له الوزن الذي يلتزمه الزجال. بمعنى التزام الشاعر بالنطق كما يرغب،وما إلى ذلك من قواعد الشعر الشعبي المتعارف عليها.
والزجل..تعني رفع الصوت والجلبة فيه،وخص به التطريب،تطريباً ينساق مساق الشعر وزناً،قال الشاعر:
له زجل كأنه صوت حادٍ
إذا طلب الوسيقة أو زمير
ويتفرع الشعر الشعبي كثيراً من التسميات التي تتميز بالوسم الدال عليها ومنها الموال الذي يعتمد البحر البسيط ،مستفعلن فاعلن ،مستفعلن فاعلن شأنه في ذلك شأن «الدان عندنا».
ولعله من المفيد الإشارة إلى ماقيل عن الموال،بأن أول من قاله،كانت إحدى جواري البرامكة عقب نكبتهم،لأنها وكما قيل كانت حين ترثيهم بشعرها تصيح في آخره «واموالياه» ،وأول موال نطقت به إحدى جواري البرامكة في رثاء مولاها جعفر البرمكي الذي قتله هارون الرشيد ،وأمر أن لايرثيه أحد. لكن جارية أنشدت قصيدة على حالهم وبعد أبيات من الشعر صاحت «واموالياه» لهذا اشتق من ذلك اسم «موال».
هذا ملخص الحكاية،وفي تقديرنا قد لايكون صحيحاً ماقيل عن الموال على اعتبار أنه لو كان هذا الاشتقاق صحيحاً لاستخدم كلازمة لاتفارق هذا اللون من الشعر
وأقرب إلى الصحيح عندي القول الذي يؤكد بأنه سمي «بالموال» لموالاة اشطره في قوافيه ،وجناسه اللفظي ،وهو موال ينظم بطرق مختلفة،منها الرباعي متحد القافية في أشطره الأربعة لنقرأ:
وحق يابدر تغريبك وتغريبي
لاتتبع النفس تغري بك وتغري بي
خلي المقادير تجري بك وتجري بي
وينظر الناس تجريبك وتجريبي
وفي الخماسي «أشطر خمسة»،تتوحد فيها القافية في الأشطر الثلاثة الأولى ويستهويها الجناس اللفظي ، ثم تختلف في الرابع وينتهي بشطر قافيته من نوع الثلاثة الأولى:
قم في دجى الليل ترى بدر السما طالع
معجب بتيهه وسعده في العلا طالع
يامدعى الحب خذلك في الهوى طالع
وأحسب حساب العذول من بعض أشكاله
وإن زاد بك الشوق في كتب الهوى طالع
وللغة التي يستخدمها الشعر الشعبي رونقها وقدرتها في الوقوف أمام الأدب المسجل في حين يتخذ الفنان من تخييل المعاني في الشعر الشعبي إلى جانب جودة الصنعة في اللحن غناء متقناً يطرب النفوس، وفي ذلك يقول الشاعر:
تغن بالشعر إذ ما أنت قائله
إن الغناء لهذا الفن مضمار
مايلفت الانتباه أيضاً في الشعر الشعبي جملة من الأحكام والقواعد الخاصة التي يتفرد بها دون غيره.،والتي تخرج عن الأحكام والقواعد المتعارف عليها في اللغة العربية . ونسوق للاستدلال بعضاً منها..وقبل ذلك نشير إلى أن الشعراء الشعبيين مثلاً يجيزون لأنفسهم تسكين أواخر الكلمات بما فيها الأفعال في أي موضع من البيت،كما في قصيدة «ابن سيناء الملك» وهي شهيرة تغنى بأصوات عدد من الفنانين:
ليش تمنع وصالك ياحبيب
من يحبك ولايعشق سواك
ونلحظ أن الشاعر يسكن الحرف الأخير من الأفعال المضارعة ،تمنع ،يحبك،يعشق.
معان وطنية صادقة
ثمة نفوس في الأدب الشعبي تتسع لأروع المعاني الإنسانية والنضالية والوطنية ،ومنها الشاعر الملحن حسين أبوبكر المحضار الذي عرف بجديته الفنية والشعرية،وواحد من الرموز الإبداعية الوطنية ،يستمد قوته من ذاته،وهو بعذا المعنى لايعرف للعزيمة الخائرة محلاً.
يحرك معاني شعره ودلالاتها باتجاه الوفاء والعرفان للوطن متكئاً على قانون راسخ في الضمير الأدبي،وللدلالة من غنائيته واسعة الذيوع «دعوة الأوطان» والتي ابتدع فيها صوراً شعرية مليحة، وتغنى بصوت الفنان «أبوبكر سالم بلفقيه ،ومحمد مرشد ناجي ومحمد محسن عطروش»:
دعوة الأوطان
حين يدعيك ضبضب «7» أو جبل شمسان
استجيب الآن
يافؤادي المعذب سيبك النسيان
حب في القلب راسخ
للجبال الشوامخ
لي تربيت فيها وانقضى لك فيها شان
حان الوفا حان
لك بها اصحاب
يذكرونك إذا شع القمر أو غاب
عيشهم ما طاب
شملهم ماتجمع
صفوهم ما زان
حب في القلب راسخ
للجبال الشوامخ
ذي تربيت فيها
وانقض لك بها شان
حان الوفاء حان
نص غنائي تتجلى فيه المشاركة في الدعوة الصادقة إلى عودة المهاجرين إلى الوطن ،وهو بذلك يحرك عواطف الحب والوفاء في الإنسان اليمني،ويذكره في ارتباطه بتاريخ أرضه وحضارته.
والإنسان بطبعه على جانب كبير من الحب والإنسانية والأصالة ،والمحضار في النص هذا يعيد ذاكرة المهاجر إلى ماله من مآثر وسجلات رسالة تطوف بخياله،وتربطه فعلاً بواقعه الإنساني اليمني.
وللمحضار إبان ماكان يسمى «بسلطنة الكثيري» ،التابعة لسيئون ومناطقها،وماكان يسمى «بسلطنة القعيطي» ،التابعة للمكلا ومناطقها بما في ذلك الشحر مسقط رأس الشاعر،شهيرته «دار الفلك» بصوت الفنان محمد مرشد ناجي...وفي غنائيته هذه لايتحرج المحضار من التعبير عن غلبة الصبر من الجو القاتم،المغبر الذي أخفى زرقة جو استبدادي خانق يخمد الأنفاس:
قريب بابدل بداري دار
معمورة،
وديره غير ذي الديره
لكنّ المحضار بعد تفكير مستفيض اهتدى إلى الوجهة الصحيحة التي لاتكمن في الهروب، وأن طريقة النجاة المثلى لاتكون إلا بالبقاء في الوطن المسكون في كنف قلبه والذي ينسيه هموم ليالي النفس وأسبابها.
فقال عن قناعة ورضى
لكن قلبي مارضى يختار
غير الشحر لاوليته الخيره
حبه وتقدير
لها من سمح
ولها العز والمقدار
دار الفلك دار
والمحضار بهذا الموقف الصادق المحب للوطن،والبساطة الشعرية يفصح عن أن الأدب الشعبي في هذا الجانب أكثر من الأدب الفصيح تعبيراً وأسرع تأثيراً لاسيما وأنه يخاطب المهاجر اليمني من أقرب السبل وأبسطها،ويسقي روحه من صفاء النبع بلغته الواضحة السهلة والتي تؤدي دوراً بارزاً في عملية الإقناع ،لأن اللغة الفصيحة ربما يكون تأثيرها محدوداً ونسبياً في الوسط الثقافي ،ومن هنا تبرز صحة قولنا أن الأدب الشعبي أكثر جدوى في هذا الجانب.
وما دمنا في هذا السياق نلتقي الشاعر الشعبي عبدالحكيم حسين عامر الذي يدعو هو الآخر في بعض قصائده الغنائية إلى العودة للوطن،بمحتوبات تعالج «الاغتراب» ،علماً بأنا لسنا بصدد المعنى السيكولوجي للغربة بدلالاتها المرضية،لكننا نقصد أصل اللفظة التاريخي ، بمعنى النأي عن الوطن وذلكم ما وصفه الشاعر بقوله ويغنيها الفنان فيصل علوي:
ياذا الحمام ياللي طاير
ودي السلام للي غايب
لما تمر فوق شمسان
ترمي الجواب للحبايب
والبعد حكمة تملي
يحكم على كل غايب
ولم يكتف عامر بالتعبير عن الشوق للأهل والأحبة،إذ تكشف بقية أبيات القصيدة عن التوتر الداخلي للشاعر،بما في ذلك من تعجيل الرؤية ولهفته في تحقيقها ومنها:
ياذا الحمام ياللي طاير
افرد جناحك وخذني
خذني معك بانسافر
باشوف حبيبي وسيبني
بانسى جميع الاسايا
بعد الفراق والمتاعب
ومن السياق اللفظي لقصائد أخرى مماثلة للشاعر تعرفنا على ولعه بتعبيرات التباعد المتنوع التي تزخر نفسه بها وعبر توظيف معانيها في المباني يطرح الحلول البديلة عن الاغتراب، في حين لم تقتصر الدعوة على ذلك بل امتدت لتشمل التذكير بالتحام ثورتي سبتمبر واكتوبر في ليالي الدم والمعارك البطولية وامتلاك مقود الحرية ومنها:
ماأظن البعد عن أرضك يطول
ثورتك قامت لتتحدى المحن
والحديث عن الفنان الشاعر / محمد سعد عبدالله حديث بلاريب عن شموخ رائد من رواد الغناء اليمني وفنان اختبر الحياة وطوّف بين ارجائها بين بهجة السعادة ووجع الشقاء،ميال للوفاء ينتقي ألفاظه وينسقها بعناية مليحة وهو فوق ذلك في الغناء الصنعاني فارس من النوع الممتاز في ركوب خيولها ،نتطوف معه بين أفياء شهيرته «حنين إلى الوطن» شعراً ولحناً وتطريباً.
وكأني به من فوق عباب الأنواء كان يرى «عدن الجميلة» وود لو يضمها كلها إلى صدره ،ويفتح في قلبه قصراً لناسها:
إلى بندر عدن باسير سيره
ولا بارد نسم الا بصيره
متى باطوف في لحج الخضيره
واشوف أهلي وأحبابي ولخوان
وأنا بارتاح لاشفت شمسان
عدن ياريتنا في الشهر مره
امتع ناظري منك بنظره
أحس من فرقتك في القلب جمره
ودمع العين فوق الخدود بان
وانا بارتاح لاشفت شمسان
فنان وشاعر يستنطقه الهوى لما هاج به الحنين إلى عدن،هي كل رأسماله،وهو ملك لها،توسعه دلالاً،ويوسعها إقبالاً ..وشعر جمع بين أماني الروح،وترويح الخاطر،وتحريك المشاعر،والإخلاص والوفاء، وفي البعد عنها لهفة الشوق:
عدن ياراس مالي والضمار
تذكرتك ونوم العين طار
يروح الليل ومن بعده النهار
وانا قلبي مولع بك وولهان
وانا برتاح لاشفت شمسان
بلادي قد حكم دهري ببعدك
أنا عايش بعيد والقلب عندك
أنا لك ياعدن ملكك لوحدك
بفضلك ياعدن اصبحت إنسان
وانا برتاح لاشفت شمسان
إنه بحق حنين ظمأ العاشق المتلهف لعناق عدن الجميلة،حنين مليء بصدق العاطفة والانفعال،والتشبيب،والنذر ليوم وصال يطفئ لظى القلب،وما الدهر إلا أيام تجور وتعدل:
عليّ نذر والرحمن يشهد
إذا شفت الغدير أو بير أحمد
على رمل البريقه بفرش الخد
وبابدا بالصيام من شهر شعبان
وانا برتاح لاشفت شمسان
غنائية بن سعد هذه التي اجتزأنا بعضاً منها أطول مبدعاته،ينشد الوصل فيها،ويستذكر مايجوس بخاطره من أماكن وجو كان يسبح فيه ويتشربه أماكن هجرته فيها أحلامه وآماله حين من الدهر،ومع ذلك ماكان يرى سواها ولا يحس ولايفكر إلا بها في شوق كبير من الحنين،صيرة،حقات، صهاريج الطويلة ،الغدير ،بير أحمد،الشيخ عثمان ،البريقة،بستان الكمسري ، لحج الحسيني ،ترى من ذا الذي لاتتهيم روحه بها ويستبد به شوقها والحنين.
ليس هذا فحسب ولكن صوت الشعر الشعبي يتعالى في لهجة تنبعث فيها شخصية قوية وطموحة،ونفس مفطورة على القوة والاعتداد،وصدر يغتلي بركاناً، وينفث حمماً ونيرانًا خدمة للشعب وقضاياه العادلة.
نستدل بنص شعبي للشاعر مسرور مبروك،موضوعي ،ساخر، قاله إبان اشتعال أوار الضربات الموجعة في معاقل جنود الاحتلال في عدن،ويستعجل المستعمر الرحيل من جنوب الوطن المحتل...ومنها:
طال ياراجل سكونك عندنا
قرن والثاني انتصف وانته هنا
ايش ننسب لك وشوه تنسب لنا
هل أخونا أنت أو بن عمنا
ان تكن ضيفاً فمن عاداتنا
بس ثلاث ايام نكرم ضيفن
ثم يرحل بعدها من دارنا
هكذا نحن العرب قانوننا
أنت أصلك يختلف عن أصلنا
ثم لغوك يختلف عن لغونا
بل ودينك يختلف عن ديننا
إيش جابك عندنا كيه قلنا
في الوطن هل أنت من جيراننا
هل حدودك لاصقه في حدنا
بعد شاسع لا جوار بيننا
اين بحر المانش من حقاتنا
ياذوي الأقلام قولوا للدخيل
شل نفسك خف ليه هكه ثقيل
عيب قولوا له استحي ياذا قليل
شوفنا ضقنا شعك ضايقتنا
ونرى الشعر الشعبي في موضع آخر يستظل بظلال من روح الإيحاء،نبرات ساخرة تلمح ولاتفصح،ومن ذلك قصيدة الشاعر محسن اسماعيل الذي لجأ إلى تغليف المعنى بالرمز خوفاً من العقوبة.
حمبص وصل ياعويله جاب كركوسه
حذار واحد يودف يدخل الكركوس
من غير داعي وصل يضرب بناقوسه
واحنا عرب مانلبي دعوة الناقوس
واجا يسرج لنا عاده بفانوسه
سراجنا كهربا ماشي الناقوس
ما بانخبه ولا بانشتهي البوسه
في وسط خده كما ذي يفرحوا بالبوس
ساحر جعل بوسته بالسم مدسوسه
يارحمتا للذي بالسم صبح مدسوس
وما نفهمه بعد تفكيك الرموز أن الشاعر يمثل بسخرية النظام الاستعماري «بحمبص» الدجال فيما يرمز إلى الاتحاد الفيدرالي بالكركوس ولربما والشاعر يستعير للإنجليز كلمة حمبص،لم غفل استعارة لفظة «ناقوس» للقانون الذي يرعى أهداف،وأطماع المحتل،على أن دلالة هذا البيت:
أجا يسرج لنا عاده بفانوسه
سراجنا كهربا ماشي بنا الفانوس
تعني إلهاء الناس وتهميشهم عن قضيتهم العادلة ،وهم للقانون الذي خطه وأقره الانجليز لخدمته الأمنية رافضون، ولعل لفظة «كهرباء» المثبتة في صدر البيت الأخير،قصد الشاعر بها الثورة الشعبية.
من هذه القصيدة، ونظيراتها،نقر بقدرة الشعر الشعبي في استخدام الرموز والإيحاءات كغيره من ألوان الأدب والفن ،وهي عندي رموز وايحاءات لجأ إليها هروباً من الوضوح المباشر المتعارف عليه في الشعر الشعبي خوفاً من الزج بهم في السجون والمعتقلات إبان الحكم الاستعماري في المدينة، والسلاطين في الريف والإمامة في الشمال.
وحتى بعد انتصار ثورة شمال الوطن في السادس والعشرين من سبتمبر 1962م ،دخلت القصيدة الشعبية معتركاً آخر أثر في مستويات السلطة الحاكمة والعابثين بممتلكات الشعب ،وكان للشاعر «سحلول» موقف شجاع فيما أصاب طريق الثورة من إحباط وفرض السياسة الإدارية:
حبيبتي ياعيني الناظره
لاتحزني من أي ضاره
واليوم هاهي الف فاره ظاهره
والف مخبا في الخباره
وكم هداهد بيننا سافره
وكم وكم تحت الستاره
كان اليمن في الأرض كالمزهره
من كثرة زرعه واخضراره
حمير سبا لاعاد أحد يذكره
ولايذكرنا الخساره
ماعاد ينفعش اليمن حميره
ولا سبا بعد اندثاره
ولأن الشعر الشعبي يفجر الأحاسيس النبيلة، باعتباره أكثر الفنون تعبيراً عن المشاعر،تلتقيه حتى وهو يرقص آلات العمل التي تشتغل عليها المرأة ترقيصاً مدهشاً..نقرأ من قصيدة الشاعر أحمد سيف ثابت:
هنا مصنع الغزل فيه النسيج
وآلاته راقصه في ضجيج
لنغم وعزف قوي مهيج
وأنتي كعازفة بارعه
وخيط رقيق يلامس يديك
برقصه رشيقة يميل اليك
وقد شده سحر
من مقلتيكوانتي كامرة طيعه
ففي كل يوم وانتي معي
تخوضي النضال ولاتدعي
وان نادتك ثورتك تسرعي
ولا ترهبي الموت في المعمة
ماسقناه من قصيدة «يمانيه» يشيد بالدور الفعال للمرأة،وما تحققه في ميادين العمل باقتدار متخطية ما اعتور طريقها من صعوبات. على أن مايشد الانتباه في الأبيات سالفة الذكر الصورة الكلية المتسقة الألوان والظلال والحركات والأصوات التي رسمتها ريشة الشاعر بتجسيد نضالات المرأة في المعمل.
فالآلات ترقص على سيمفونية العمل المقدس الذي تقوم به المرأة وكأنها تجس على أوتار تبعث النشوةوالانشراح فتتمايل الخيوط الرقيقة وتتأود طربه فرحة،وكل هذا يجعل للعمل قيمة هي أشد وأرق من الآلات العازفة.
واقع الحا
ما أسلفت تسطيره في حيز وقتي قصير لهو عندي غيض من فيض،مع تسليمنا بأن الأدب الشعبي يتميز بسمات وخصائص عديدة أهمها:
ü عكس نشاطات ونضالات الجماهير اليمنية وصور بصدق ووقعية طبيعة الحياة الاجتماعية سلباً وإيجاباً، وظل ملازماً ومترجماً لإحساسات الجماهير الشعبية ومشاعرها.
üسرعة التقاطه لكل مايعتمل في الوسط الشعبي ،ويختار لها الألفاظ والمفردات المناسبة التي تترك أثراً جميلاً في وجدان الناس.
ü رصد وعبر،وجسد نضالات الشعب اليمني التاريخية عبر مراحله المختلفة في العديد من الملاحم الشعرية.
ü صور المواقف البطولية الرائعة بفن الزخرفة في مختلف الصناعات الخزفية والفخارية.
üمازل مواكباً لمراحل تحويلات الحياة الاجتماعية في رفعها وخفضها،ذلك لأنه لايتوقف عند مرحلة تاريخية معينة.
وللأدب الشعبي في التشبيب أسلوب رقيق العاطفة ،يجذب الأسماع،ويروق الطبا،ذلك لأنه يعشق الغزل والغزل يعشقه بمتانة من العلاقة العشقية بينهما ولسان حالهما لايفتر عن ترديد:
والحب في الأرض بعض من تخيلنا
لو لم نجده عليها لاخترعناه
كل هذا والأمثال الشعبية والرقصات الشعبية وما أغفلنا الإشارة إليه بمثابة الأهم عندنا لاستكمال الموضوع.هوامش:
1 العلام ،عبدالرحيم الأهدل من مقدمته للديوان الغنائي يامشتكي من حبيبك، للشاعر محمد نعمان الشرجبي.
2 دراسات في الشعر اليمني القديم والحديث ،زيد علي الوزير ص112
3 ص113المرجع السابق.
4 يغني من أنفه
كثير العشب
6 دراسات في الشعر اليمني القديم والحديث،زيد علي الوزير ص114
7 ص11المرجع نفسه.
8 الهر
9 أحست


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.