عندما نطالع صفحات الشعر العربي المعاصر، باحثين عن معجمه اللغوي، نجده معجماً رقيقاً متميزاً بالإيحاء والدلالة المفعمة بالمعاني العميقة والجزلة حيناً والواضحة أحايين أخرى.. بل ونجد الألفاظ مشعة توحي بالمعاني الفنية والإبداعية التي هي منبع الفن ومنهله العذب كما هو عند الرومانسيين مثلاً في صور شعرية معبرة عن هذا المنهج تنبع من وجدانهم ومشاعرهم العاطفية الرقيقة لأنهم في شعرهم يلوذون بالطبيعة بوصفها الأم الرؤوم التي تدغدغ مشاعرهم وعواطفهم، ويستمدون منها إبداعاتهم الفنية، باحثين أيضاً عن التجسيد الحي للجمال في الطبيعة أو آيات الجمال الأخرى كالفن مثلاً، فيتجسد كل ذلك في صور بديعة معتمدة أيضاً على التجربة الذاتية الحية التي تصدر أيضاً من الوجدان اليقظ. فالقصيدة في الأدب الرومانسي تعتمد على التفاعل بين الإنسان والطبيعة فترفع قناع الألفة عن وجه الكون وتعري الجمال النائم فتحوله إلى واقع إنساني حي، وهم يمزجون مشاعرهم بمناظر الطبيعة ويكثرون من تشخيصها، واستنطاقها، والتعبير عنها من خلال إحساسهم بها. ولذلك نرى أن المعجم اللغوي لشعراء الرومانسية العربية مشع موح يرى من خلاله الشاعر كطفل يخربش بقلمه لا على صفحة من الورق بل على صفحة من مناظر الطبيعة الحية النابضة ، باحثاً عن المشاهد الرومانسية العذبة راسماً لوحات فنية فارهة من طبيعة عذراء تبعث السحر والأحلام من مثل قول شاعر الرومانسية الأول ومجنون الطبيعة بكل طقوسها، أبي القاسم الشابي. أقبل الصبح يغني للحياة الناعسة والربا تحلم في ظل الغصون المائسة والصبا ترقص أورا ق الزهور اليابسة وتهاوى النور في تلك الفجاج الدامسة فترى الصبح والنور الظاهر الذي لا يحجبه شيء.. ولا يحول دون انطلاقته ربىً ولا صباً، ولا غيرها من الحواجب أوالحواجز فهو يحظى بالحياة.. بالغابة.. بالمرعى.. من كل الجهات ويضيء فجاجها ومساربها. لذا نتساءل عن سر هذا النور الذي ربما يومئ إلى المعرفة الحدسية التي ينطوي عليها كل عاشق للفن والإلهام ، عيشة الناسك المتعبد الذي يناجي الجمال المطلق، في نشوة الغيبة عن الخلق. والشاعر في غوصه العميق هذا مجسداً معاني الحب والعشق والجمال فنرى ذلك البعد اللامتناهي للحبيبة التي رسمها في خياله فتسطع على من يتأملها بالفرح الروحي، وتضيء على من يغني في حضورها بالإلهام وتشرق في القلب لا العقل. فالطبيعة إذاً هي موئل الرومانسيين وملجأ دافئ يلجأون إليه ويتبردون في ظلاله، كلما التهبت من حولهم الحياة، من مثل قول أحدهم. ليتني في روضة عند الغدير باعتزل عن جهادي في الوجود مصغياً كلي لذيّاك الخرير وهو يتلو من أناشيد الخلود ما أحيلى القلب في الدنيا كسير فهو عنوان لمن يرعى العهود رق حتى كلما هبت صبا حملته مع نسيم السحر وهو يتلو باكياً منتحباً يا زمان الحب تحت الشجر هنا تأتي الأفكار متوالدة في هذا المحيط الدافئ ، فكيف تتمثل صورة حركة المياه، على حد تعبير جان جاك روسو عاشق الطبيعية ، فهي عنده المشاعر الخفيفة في وحدة الحركة التي تهدهده، فتستلم لها روحه دون أن تنشط لها أي نشاط فتجاريها في حركتها. فنجد أيضاً تلك النشوة بين أحضان الطبيعة، إذ أن من المبادئ التي يحملوها حب الخلوة واعتزال الناس، لأن المجتمعات مباءة ، ومثار للمشكلات وعبء على ذوي النفوس الرقيقة الشعور، يقول جبران خليل جبران في رائعته «الموكب»: هل تخذت الغاب مثلي منزلاً دون القصور فتتبعت السواقي وتسلقت الصخور هل تحممت بعطر وتنشفت بنور وشربت الفجرخمراً في كؤوس من أثير هل جلست العصر مثلي بين جفنات العنب والعناقيد تدلت كثريات الذهب هل فرشت العشب ليلاً وتلحفت الفضاء زاهداً فيماسيأتي ناسياً ما قد مضى فنلاحظ ذلك البحث عن الحياة البدائية بل الحياة الفطرية حياة الصفاء والنقاء بين أحضان الطبيعة، ولا يدل ذلك إلا على رهافة الإحساس وشبوب العاطفة، فصار في أدبهم مايشبه بالهيام اللا متناهي للطبيعة، فهم يريدون أن يستلهموها ويستوحوا أسرارها وأن يكون أدبهم صدى للشعور الصادق بما يتجلى لإحساسهم من مناظرها، وذلك بفضل التأمل الدائم والملاحظة الدقيقة للحياة، وذلك بفضل هذا القلب الإنساني الذي نحيا به مع مزيج من الفكر والعاطفة في عبارات سهلة وايقاع هادئ وأسلوب خال على نوع ما من المجاز والتشبيه المركب، أو المبتكر بل ربما يقنع من التشبيه البسيط المألوف كتشبيه العمر بالظل أو الماضي الذي محاه الزمن بحلم أو بسطر من كتاب خطه الوهم، أو الأيام السعيدة بالزهور والشقية بثلوج الشتاء. يا زمان الحب، قد ولى الشباب وتوارى العمر كالظل الضئيل وامّحى الماضي كسطر من كتاب خطه الوهم على الطرس البليل وغدت أيامنا قيد العذاب في وجود بالمسرات بخيل ومع ذلك التناغم مع عناصر الطبيعة نجد ذلك التعبير المباشر أيضاً مع ماتضفيه القوافي من ايقاع واتزان للصياغة وبناء ومقابلة موسيقية مع الألفاظ والمعاني. كما اننا نجد ذلك النشدان للسلوى مما يضيقون من كل ماحولهم منه، بل التخيل في المخلوقات أرواحاً تحس مثلهم فتحب وتكره وتحلم، فيشركونها مشاعرهم، لذا نجدهم يتحدثون إلى البحار، الرعد، الريح، الفجر، الصخور، فكان الطابع العام أكثر تنوعاً وأوسع مدى، ولعل خير نموذج لذلك، في الأدب الرومانسي العربي قصيدة ميخائىل نعيمة «من أنت يانفس» إذ تحدث فيها الشاعر عن نفسه من خلال الطبيعة، ثم يختم المقاطع بتساؤله عن النفس من أين جاءت أو ولدت، أو انبثقت أمن تلك المشاهد على نحو: ان رأيت البحر يطغى الموج فيه ويثور أو سمعت البحر يبكي عند أقدام الصخور ترقبي الموج إلى أن يحبس الموج هديره وتناجي البحر حتى يسمع البحر زفيره راجعاً منك إليه هل من الأمواج جئت؟ فكانت هي الحيرة نتيجة للغربة الروحية أو الشعور بالوحشة والانقطاع عن الأهل والجذور كانت هي الحيرة أمام كثير من قضايا الحياة، وقد واجهتهم تلك الحيرة إلى تقليب النظر في كل مايحيط بهم للبحث عن أسراره وخفاياه، فهم يتساءلون عن مبدأ الوجود وانتهائه عن السعادة والشقاء، عن الموت والحياة، عن النفس وطبيعتها وغير ذلك من القضايا التي تتعلق بالوجود، وفي قصيدة ميخائيل نعيمة كان التساؤل وكانت الحيرة فيما يتعلق بالنفس، وكيف ربطها مع موج البحر، فكانت نفسه واضطرابها بما يشبه تردد الموج بين مد وجزر.. بل قد نجد في المقاطع الأخرى كالرعد، ثم كالريح وكالفجر ، وكلها ظواهر كونية فيها من الضجيج والهدوء معاً فيها من الجمال، وفيها من الأمل الذي يبحث عنه الشاعر فيها البحث عن النفس التي أضاعها وهي معه بين جنباته تتردد ولكنه في تيه عنها: عصر الأسى روحي فسالت أدمع فلمحتها ولمستها في أدمعي وعلمت حين العلم لا يجدي الفتى ان التي ضيعتها كانت معي وذلك عندما يأوب الشاعر إلى رشده ، لا ذلك التذبذب وتلك العثرات التي رأيناها في قصيدة نعيمة، ولا يبعد جبدان هو الآخر عن هذا المنهج في حديثه إلى نفسه، ففي قصيدته «يانفس» يخاطب الشاعر نفسه مقرراً أنه لولا طمعه في الخلود لقضى على حياته بيده، وأنه لولا ما امتحن به من حزن وسقم لكان أعمى البصيرة لا يرى في الحياة إلا الظلام، ثم يمضي فيبرهن على الخلود عن طريق الإحساس الصادق تارة والبرهان المنطقي تارة أخرى. يانفس لولا مطمعي بالخلد ماكنت أعى لحناً تغنيه الدهور بل كنت أنهي حاضري قسراً فيغدو ظاهري سراً تواريه القبور يانفس لو لم أغتسل بالدمع أو لم يكتحل جفني بأشباح السقام لعشت أعمى وعلى بصيرتي ظفر ، فلا أرى سوى وجه الظلام فيصل الشاعر إلى ما يشبه التساؤل الفلسفي أو الصوفي يسلك فيه مسلك الباحث عن الحقيقة ، والجازم بماوجد وبما رأى ويلتقي فيمابعد عند الظاهرة الوجدانية للحياة وهوالبحث عن العالم الجميل المليء بالسلام والحرية والجمال. فهو ان تحدث عن الطبيعة ومظاهرها، أو تحدث عن النفس ومايطربها ، فهو باحث عن الأمل، عن الإنسانية في سموها وتألقها، عن الحياة الحقيقية، وإن كانت بين السطور، فهي قد صنعت عالماً في القلب، في الروح لتسمو بالأمل العظيم والحياة الوجدانية العميقة وإن وجدت في عالم الأحلام وبدت في ذاتية مغرقة فهي الحياة