تبدو الرومانسية في السياق الثقافي والمدرسي، مرحلة شعرية مستقلة عابرة، تلت الكلاسيكية، وانقضت مع الواقعية والشعر الحر، وتتميز عنهما بسمات شعرية خاصة ومحددة بدقة، وكثيرا ما يتم إسقاط خصائص الرومانسية الغربية، على الرومانسية العربية.. بيد أن الرومانسية العربية أبعد ما تكون عن هذه المحددات الزمنية والفنية، إذ زامنت الكلاسيكية، وأثرت فيها، كما تضمنت بذور ومنطلقات وممارسات المذاهب والتيارات التي اعتبرت لاحقة، كالواقعية والشعر الحر وقصيدة النثر..، إنها كما صورها أحدهم، “القمقم الذي خرجت منه جميع شياطين الشعر العربي الحديث”. خروجا من عصر الانحطاط، بدأت النهضة العربية، وعوامل أخرى كثيرة، تفرض التغيير، وتحققه ببطء وبدرجات متفاوتة، في مختلف جوانب الحياة العربية، خلال ذلك كان الشعر في آخر ركب التغيير، فحتى مطلع القرن العشرين، لم تحقق القصيدة العربية، أي تحول جوهري في الشكل أو المضمون، وباستثناء أنها عادت إلى قوتها التراثية، لم تتخذ خطوة ملموسة إلى الحاضر والواقع والعصر، وبقدر ما نجحت الكلاسيكية في إخراج الشعر العربي من سباته القرسطي الطويل، بقدر ما ظلت تقدس التراث الشعري وقيمه ومبادئه ومعاييره الموروثة، الرومانسية فقط، هي من خطت بالشعر العربي إلى الأمام، وأذكت جذوة الحداثة، ورسخت قيم الثورة والتجاوز المستمر والتوجه إلى المستقبل. مع التيار الرومانسي، انفتح الشعر العربي، على التراث الإنساني العام، بأنساقه الثقافية، والأدبية، والدينية .. وتمكن من استيعابها واستلهامها وتوظيفها في الكتابة الشعرية، وبانفتاحها على الآداب الأجنبية والعصر، انفتحت القصيدة العربية، على الحيرة والقلق والمجهول والتوتر والسؤال الميتافيزيقي والفلسفي والثوري.. ما يصاحب عادة مشاعر الغربة التي تجعل الغريب البدوي يعيد اكتشاف ذاته من خلال الآخر، المختلف والمتقدم.. فيراجع النظر في بعض مكونات ثقافته البدوية من خلال مقارنتها بمكونات ثقافة الآخر المتمدن، ويبادر جديا في تطوير ذاته، وتشكيل شخصية جديدة تمكنه استيعاب وتمثّل المستجد الثقافي والفني والحضاري.. على وهج البدايات الرومانسية، قبيل مطلع القرن العشرين، بلغ الشعر العربي من النضج ما يكفي لإعادة النظر في قوالبه التقليدية، ومعاييره الموروثة، ومع فصائل التيار الرومانسي، في الوطن والمهجر، أعادت الشعرية العربية اكتشاف هويتها التقليدية، من خلال التراث، والآداب الأجنبية، ومقتضيات العصر.. كانت لأول مرة تعترف بفداحة غربتها عن الواقع، وحاجتها الملحة إلى الانسلاخ عن باب السلطان ومحراب التقاليد، وتخطو في المجهول والبكر والمختلف.. فدشنت القصيدة العربية حداثتها من خلال المزاوجة الرومانسية الثورية بين الأصالة والمعاصرة. وفي ظل استلهامها لأبقى ما في التراث، وفي ضوء انفتاحها على التيارات والمذاهب الفنية والأيدلوجية والفلسفية العالمية المعاصرة، التي أثرت بشكل حاد وعميق ومتتابع في الشعر العربي، أعادت الرومانسية تشكيل أسس ومبادئ العملية الشعرية، وبلورت مفاهيم جديدة للشعر والشاعر، من حيث الماهية والبنية والوظيفة، وعلاقات الشعر بالتقاليد، والعصر ، والحياة، توسيعا وإثراءً وتطويرا للمفاهيم والممارسات الشعرية.
منذ البدء، أعلنت القصيدة الرومانسية القطيعة التامة مع السلطان، وحررت الشعر والشاعر من الاقتصاد السلطاني، فانحسر الإهداء والمضمون السلطاني في الشعر العربي، بانحسار غرض المديح، تدريجيا، كما انحسر في موازاة تحول منظومة العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية العامة، وتبدُّل مصادر وأطر الاقتصاد التأليفي.. ليتوجه الشعر إلى الطبيعة والحياة وقضايا الواقع والجماهير .. فأصبح الشاعر العربي داعية تغيير، وموقفا ثوريا منحازا إلى الوطن والأمة والشعب والحرية.. كما تكشف البنية المضمونية عن المساحة الواسعة التي شغلتها السياسة والفكر والمجتمع في نتاج الشعر الرومانسي، الذي لم يكن طوباويا أو منعزلا عن الواقع في أبراج الخيال العاجية، كما هو شائع، فالرومانسية لم تكن تفتقر إلى التوجهات والمبادئ الثورية التي نادت بها الواقعية لاحقا . بدءا بالتيار الرومانسي، اتجه الشعر العربي الحديث إلى استلهام العمق والثراء الرمزي للأسطورة، واختزاليتها العالية في التعبير عن أبعاد نفسية وفكرية واسعة وثرية، وقابليتها للترويض، والتعبير بطريقتها عن معادلات عصرية بالكناية والإيحاء الشفيف والتكثيف الكبير
بالقصيدة الرومانسية، أصبحت بنية القصيدة العربية لأول مرة، مركبة ومتعددة المستويات والبنى الجزئية، فظهر المقطع الشعري، أول ما ظهر، مع القصيدة الرومانسية التي أصبحت أكثر تعددا وتعنقدا، بدلا من البنية التقليدية الأحادية البسيطة التي تتلخص بين البيت والقصيدة، وفي مقابل المغايرة الكيفية، أحدثت الرومانسية مغايرة كمية تجسدت في كسر الحدود النمطية لامتداد القصيدة، فأصبح بالإمكان الحديث عن “البيت القصيدة” بحيث لا تتجاوز القصيدة البيت أو البيتين، مما كان مرفوضا في النقد التراثي، كما أمكن الحديث عن “القصيدة الديوان” بحيث توغل القصيدة في الطول حتى تتطابق مع الديوان، في إطار وحدتها الموضوعية والعضوية والنفسية. وكما في قصيدة أو ديوان “الطلاسم “ لإيليا أبي ماضي، وهي بالمناسبة تتألف من مقاطع كثيرة، كمستجد بنائي دشنته المدرسة الرومانسية، تحمل القصيدة عنوانا إيحائيا ميتافيزيقيا معبرا، وهي (أي العنونة) “بدعة رومانسية وافدة”، لم تعرفها الشعرية العربية خلال تاريخها الطويل، وفي الواقع فإن الحديث عن عنوان شعري منبثق عن التجربة الشعرية، ومتلاحم عضويا معها، يبدأ مع التيار الرومانسي، بحيث أصبح العنوان امتدادا للقصيدة، وجزءا جوهريا من خصائصها النفسية والمضمونية والشكلية..، وتوجهاتها الفكرية والجمالية، كما يعكس العنوان الرومانسي افتنان الشعرية الرومانسية بالصورة الشعرية والخيال والأسطورة والعاطفة..، من خلال مضمونه وبنيته القائمة على التركيب الشعري، والخيال الفني، والاستعارة والرمز، والتكثيف اللغوي، والإيحاء والإيماء والحذف..، ومعبرا مسئولا عن استراتيجية التجربة الشعرية، في مراحل الإنتاج والتداول والتلقي الشعري. كان الشعر الحر (قصيدة التفعيلة) من أبرز ما أحدثته الرومانسية من ثورة عملية ونظرية، على المبادئ والمحددات التقليدية للشعر العربي، على الجانب الإيقاعي والمضموني والحضاري، حيث حولت قصيدة التفعيلة القصيدة العربية من كائن شفاهي، أو متشبع برواسب الشفاهية، إلى كائن بصري متماهٍ ومتفاعل مع تحولات ثقافية وتقنية واجتماعية عامة في الحياة العربية، كما شهدت الشعرية العربية كثيرا من النقلات النوعية، لا تقل، إن لم تتجاوز، في حدتها وجذريتها، ما أحدثته قصيدة التفعيلة، وأنتجت قصيدة النثر والكتابة الجديدة..، وفرضت مستجداتها النظرية والكتابية على أصعدة الكتابة الشعرية والنقد الحديث . على الجانب الإيقاعي تنامت الإبدالات التي بدأت بقصيدة التفعيلة، ولم تنته بقصيدة النثر، كما توسع مفهوم ومجال الإيقاع، ليضم عناصر صوتية وبصرية، وبقدر ما عملت هذه التحولات على إثراء الشعر العربي الحديث بالأشكال النوعية (عمودي حر نثري )، بقدر ما عوَّمت مفهوم الجنس الشعري نفسه، وفي ظل اجتراح مقوماته التقليدية، والتأثر بمقومات الأجناس الأخرى، عملت تجربة الشعر الحر، على توسيع دائرة النوع، والحد من نفوذ بروتوكولاته على الشاعر، تزامنا مع تآكل المحددات الأجناسية، واندثار وتوالد وتداخل الأجناس الفنية.. ما أدى إلى تقويض مفهوم الجنس، وإشكالية تعريف الشعر. وبشكل يزاوج بين الرؤية المختلفة والممارسة المختلفة، وخلال النقد الجديد الموازي للكتابة الجديدة، أسست الرومانسية، لمبادئها وتوجهاتها الحديثة والتحديثية، في مقابل الكلاسيكية والشعر التراثي، وفي وقت مبكر من القرن الماضي وضع جبران لمجموعة نصوصه، “دمعة وابتسامة” “1914” توطئة ذات صبغة شعرية، يعبر فيها عمّا يمكن اعتباره المستجد الرومانسي في علاقة الشعر والشاعر بالحياة والعالم والذات، في انحياز واضح إلى الذات والحب والجمال، والصدق في التعبير عن الحزن والفرح، في الدمعة والابتسامة، النابعتين من أعماق النفس الشاعرة .. تمهيدا لانزياح واضح عن الرؤية والشعرية الكلاسيكية في الشكل والمضمون، والفلسفة الشعرية التي كتبت في ضوئها هذه النصوص، وقدمت إحدى النماذج المبكرة للشعر المنثور في الأدب العربي الحديث، ما يجعل من جبران حامل لواء( ثورة عنيفة جامحة، : هزت الأدب العربي هزا..)، كما يقول ميخائيل نعيمة. في ذات السياق كانت مقدمة (خليل مطران)لديوان “الخليل”، والمعنونة ( ببيان موجز)بمثابة( بيان حول ما أسماه نقاده بالشعر العصري)، وإلى ذلك وضع “إلياس أبو شبكة “ “ 1903 – 1947م” في مقدمته لديوان “أفاعي الفردوس” الأسس النظرية للتيار الرومانتيكي الذي كان أبرز شعرائه في لبنان، كما حدد “سعيد عقل” في مقدمة ديوانه “المجدلية” القيم النظرية للتيار الرمزي، الذي استوى في الشعر العربي على يديه. كانت رومانسية مدرسة “أبوللو” أكثر احتفاء بالتنظير والتأصيل لإبدالات شكلية ستغير خارطة القصيدة العربية، أكثر من أي حدث سابق، وبالذات ما يتعلق بالأسس النظرية والتجريبية لما عرف لاحقا بالشعر الحر “ شعر التفعيلة” ، فمع عشرينيات القرن الماضي بدأت نماذج الشعر الحر “التفعيلة” تظهر في تجارب فردية ومتفرقة في العراق ومصر، بيد أن مدرسة “أبوللو” شعرت بحجم الإبدالات التي تقدمها هذه الكتابة الشعرية الجديدة، فوضعت أسسها النظرية، ومصطلحاتها، وحددت قواعدها، واحتفت بها ممارسة تنظيرا في مجلتها “الرسالة”، في حين ترجم علي أحمد باكثير “ مسرحية روميو وجوليت” ( 1936م)، وكتب مسرحية “اخناتون ونفرتيتي “ (1938م)بطريقة الشعر الحر جزئيا، ووضع للمسرحيتين الشعريتين مقدمتين ، نظَّر فيهما لكتابة الشعر الحر، وخصائصه ومميزاته الإيقاعية بشكل أكثر عمقا ورحابة مما حاولت نازك الملائكة القيام به فيما بعد. سوى ذلك ناقش التيار الرومانسي قضايا مهمة كثيرة، كما في حديث العقاد، خلال تقديمه للديوان الأول(1913م)للمازني، عن ظاهرة الأجيال الأدبية، والازدواجية الثقافية والشعورية، في الجيل الذي تبوأ منابر الأدب في عصره، والذين-حسب تعبيره-(يشعرون شعور الشرقي، ويتمثلون العالم كما يتمثله الغربي..)، كما ناقش التيار الرومانسي ، قضايا الأدب المقارن، والخصائص المميزة لبعض الشعوب والآداب، في سياق الانفتاح عليها، ومن ذلك تأكيد العقاد، خلال تقديمه الديوان الثاني(1913م)لرفيقه عبد الرحمن شكري، على تميز الجنس الآري عن السامي، في عمق وانطلاق الخيال.
الرومانسية.. والكلاسيكية إن إعادة الكلاسيكية القصيدة العربية إلى جزالتها وقوتها في عصرها الذهبي، في التراث العربي، وإخراجها من تهافتها خلال عصر الانحطاط، لا يعني أنها دشنت الحداثة، فلا شيء حديث في شعر البارودي، مقارنة بحافظ إبراهيم، وبشكل أخص أحمد شوقي، رائدي الكلاسيكية الحديثة، وبقدر ما كرس هذان الشاعران الشكل والمضمون الشعري التقليدي، بقدر ما تضمن شعرهما ملامح جديدة لا يمكن استبعاد التأثيرات الرومانسية من دوافعها، خاصة من خلال “مطران” الرائد الرومانسي الذي أهداه حافظ إبراهيم إحدى قصائده، وردد بعض دعواته التحديثية، كالتحرر من قيود التقاليد الشعرية، والانفتاح على الشعر الغربي، في قوله: آن يا شعر أن تفك قيودا قيدتنا بها دعاة المحالِ فارفعوا هذه الكمائم عنا ودعونا نشم ريح الشمال وكان أحمد شوقي، بحكم ثقافته الفنية، واطلاعه على الأدب الغربي مباشرة، وتأثره بالمبادئ الرومانسية، أكثر قدرة على تمثّل الجديد الرومانسي، والدعوة إليه، فبجانب القيم الرومانسية المنبثة في ثنايا شعره، كان شعره المسرحي رومانسيا بامتياز، فكانت الرومانسية وراء كتابته التجريبية بأشكال شعرية جديدة، والتجديد في المضمون والشكل الشعري، والدعوة إلى كتابة شعرية مختلفة، والعودة إلى الذات، والتعبير بصدق عنها، والتركيز على الخيال، والتوجه إلى الطبيعة، وابتكار مواضيع جديدة، تتوجه إلى جمهور شعري مختلف، كالمرأة والطفل، فيما لا ينسى شوقي، في مقدمة أول ديوان له(1898م) الإشارة إلى تأثره بالقيم الرومانسية، والتعبير عن امتنانه الكبير للشاعر الرومانسي الرائد خليل مطران.. لقد كان تأثير مطران على الكلاسيكية، عميقا وبأسلوب حميمي، بيد أن تأثير الرومانسية على الكلاسيكية لا يقتصر على الأسلوب الحميمي لمطران، فمن جهة أخرى شن النقاد الرومانسيين كالعقاد والمازني وميخائيل نعيمة، وطه حسين، وزكي مبارك.. وآخرين،حملة شرسة على الكلاسيكية أثرت بشكل حاسم، ليس في تحديث الكلاسيكية فحسب، بل في إزاحتها عن صدارة المشهد الشعري العربي لاحقاً
بناء على ذلك، فالحداثة الشعرية والشعر العربي الحديث، لم يبدآ بالكلاسيكية، التي أحيت القديم، دون أن تقدم حديثا بعيدا عن إيحاءات وضغوط الثورة الرومانسية، التي يمكن تحديد بداية الحداثة الشعرية العربية بها، بجبران ومطران وبقية شعراء ونقاد القصيدة الحديثة، الذين تحقق للقصيدة العربية من خلالهم تحولات جذرية وجوهرية في الرؤية والممارسة، والألفاظ والأغراض، والتراكيب والأساليب، والأشكال والمضامين.. الشعرية، كما وضعت الرومانسية الأسس الضرورية للتطورات الشعرية اللاحقة، وتضمنت المبادئ والممارسات المبكرة للشعر الرمزي والواقعية وشعر التفعيلة والشعر النثري..